دراسات علمیة - 13 : مجلة نصف سنوية تعنى بالأبحاث التخصصية في الحوزة العلمية

هویة الکتاب

دراسات علمیة

مجلَّة نصف سنويَّة تصدر عن المدرسة العلميَّة (الآخوند الصغرى) في النَّجف الأشرف

تُعنى بالأبحاث التَّخصّصيَّة في الحوزة العلميَّة

العدد الثّالث عشر

شعبان المعظّم 1439 ﻫ

ص: 1

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 1614 لسنة 2011

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾

التوبة 122

ص: 3

الأسس المعتمدة للنشر

1. ترحّب المجلَّة بإسهامات الباحثين الأفاضل في مختلف المجالات التي تهمّ طالب الأبحاث العليا في الحوزة العلميّة, من الفقه والأُصول والرجال والحديث ونحوها.

2. يُشترط في المادّة المُراد نشرها أُمور:

أ. أنْ تكون مستوفية لأُصول البحث العلمي على مختلف المستويات (الفنيّة والعلميّة), من المنهجيّة والتوثيق ونحوهما.

ب. أنْ تكون الأبحاث مكتوبة بخطّ واضح أو (منضَّدة).

ت. أنْ توضع الهوامش في أسفل الصفحة.أ. أنْ يتراوح حجم البحث بين (12) و(50) صفحة من القطع الوزيري بخطٍّ متوسّط الحجم, وما يزيد على ذلك يمكن جعله في حلقتين أو ثلاث - بحسب نظر المجلَّة - شريطة استلام البحث كاملاً، ويمكن للمجلّة في ما زاد عن ذلك أن تنشره مستقلّا ً مع نشر قسمٍ منه في بعض أعدادها.

ب. أنْ لا يكون البحث قد نُشر أو أُرسل للنشر في مكان آخر.

ت. أنْ يُذيَّلَ البحث بذكر المصادر التي اعتمدها الباحث.

1. يخضع البحث لمراجعة هيئة استشاريّة (علميَّة), ولا يُعاد إلى صاحبه سواء أنُشر أم لم يُنشر.

2. للمجلَّة حقّ إعادة نشر البحوث التي نشرتها.

3. يخضع ترتيب البحوث المنشورة في المجلَّة لاعتبارات فنّيّة لا علاقة لها بمكانة الكاتب أو أهميّة الموضوع.

4. ما يُنشر في المجلَّة لا يعدو كونه مطارحات علميّة صرفة, ولا يُعبّر بالضرورة عن رأي المجلَّة.

ص: 4

محتويات العدد

الافتتاحيّة

إدارة المجلّة ................................................................................................. 7

إبداء المرأة وجهها وكفّيها ونظر الرّجل إليهما / 1

الشيخ جعفر اليعسوبي (دام عزه) .............................................................................11

نكاح ذات البعل /2

الشيخ علي سالم الناصري (دام عزه) .........................................................................67

نظرية الحكومة / 1

الشيخ نجم الترابي (دام عزه) .................................................................................. 127

قراءة في مبنى الشّيخ النّجاشي (رحمة الله) في التّوثيقات والتّضعيفات

الشّيخ جاسم الفهدي (دام عزه) ............................................................................ 171

صلاة الجمعة في عصر الغيبة للفقيه الكبير الشيخ حسين الحلي (قدس سره)

تحقيق: السّيّد مهدي الرّباني (دام عزه) ...................................................................... 219

ص: 5

ص: 6

الكلمة الافتتاحيّة

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيِّد المرسلين، وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين.

وبعد، فإنّ للعلوم التّدوينيّة - كعلم الفقه - ميادين تجري فيها مسائلُها. وطريقة النّظر فيها تعتمد على مقدّمات أدبيّة وعلميّة وأحوال تأريخيّة، للبحث والاجتهاد مجال واسع فيها.

ومن النّظر في تلك المسائل في كلِّ عصرٍ تتولّد حاجات لبحوث أحدث، وإعادة تتبّع للأدلّة المبنيّة على تلك المقدّمات، طالما أنّ التّدوين المتراكم لتلك المسائل بمقدّماتها المقصورة في كلِّ عصر يفسح المجال أمام إعادة الفحص والمقارنة للوصول إلى نتائج أفضل، عبوراً من قراءات السّابقين وبفضل زيادة تدقيق اللّاحقين نتيجة لتراكم وجهات النّظر المدوّنة خلالها.

وقد يتناول التّحقيق والبحث - المعاصر - نفس تلك المسائل على ضوء معطيات جديدة تفرضها حركةٌ وتطورٌ في علم آخر - كعلم الأصول - تعتمد عليه مسائل علم الفقه ويقع في طريق استنباطها.

وزيادة على ما تقدّم: قد تستجدّ ظروف وأحداث زمانيّة ترتبط بظهور مصاديق

ص: 7

جديدة لموضوعات المسائل المبحوثة، أو وقوعها في حيِّزٍ متداخلٍ مع مسائل أخرى يجعلها بهذه الصّفات موضوعاً مستحقّاً للبحث والتنقيح، وعنواناً جديداً يمكن أن تتناوله الكتابة في البحوث الفقهيّة.

كما أنّ هناك جانباً آخر يوفّر ميداناً للكتابة في المعارف الدّينيّة - الفقه وغيره - وهو أنّ غلبة أُسلوبٍ لغويٍّ معيَّنٍ على الكتابات السّابقة قد يشكّل حاجزاً أمام القارئ والمثقّف العصري الّذي ارتبطت المعاني في ذهنه بأساليب تعبيريّة ومفردات أكثر وصولاً لغرضه، وأوضح في الاتّصال بمدركاته، خصوصاً وأنّ بعض الألفاظ قد تكون متغيّرة المعاني على حسب عصر التّناول، فنرى الإنسان المعاصر يميل لاعتماد طرقٍ في الفهم والتلقّي تتوافق مع ثقافةٍ ووعيٍ فكريٍ خاصٍّ تتطلّب تبنّي المهتمّين الاستمرارَ في تقديم هذه المواد بلغة عصريّةٍ وحججٍ منتخبةٍ قويّةٍ وناجزةٍ، والابتعاد عن أُسلوب الحشو والتّداخل في سرد الأدلّة، وتخليص الاستدلال الفقهيّ وأدواته من الاحتكام إلى التّصوّرات اللّغوية في غير ما يرتبط بالمفهوم، وإعادة ربط الفقه بميزان كلّيّاته وقواعده، بالابتعاد عن الجمود على الألفاظ إلّا في الحدود الّتي يساير فيها ضيقُ الحكم ضيقَ اللّفظ من دون مناسبةٍ تصلح للارتكاز عليها في التّوسعة أو التّضييق، ولو من خارج حدود اللّفظ.

وفي هذا الصّدد يمكننا الإشارة إلى قضيّة أُخرى قد تشكّل محوراً مهمّاً، ألا وهي بناء الفقه على الحديث المرويّ عن أهل البيت (علیهم السلام)، وكون جملة من ذلك الحديث قد صدر عن المعصوم (علیهم السلام) كردودٍ ومعالجات لبعض أسئلة الرّواة التي تكتنفها خصوصيّات زمانيّة ومكانيّة، وفي بيئة ثقافيّة ودينيّة ينتشر على هامشها فقه وثقافة مدرسة العامّة، ممّا قد يجعل الاحتكام في الاستفادة منها إلى خصوص حدود اللّفظ عمليّة مبتورة في فهم

ص: 8

الحكم الشّرعيّ أو حدوده وقيوده، فما زالت الحاجة قائمة إلى بذل الجهود في محاولة فهم العناصر الأُخرى الخارجة عن النّصّ، والّتي يمكن أن تكون خلفيّة صامتة تصلح لتشكيل عمق من صورة المعنى الّتي لا ينطق اللّفظ إلّا عن جزءٍ منها.

ومن سياق الحاجة إلى إعادة النّظر في التّراث المدوّن والعمل على تقديمه بلغةٍ وأُسلوبٍ أكثر فاعليّة في الأذهان تلقّياً وفهماً، تبرز أهميّة الكتابة المعاصرة في مجال العقائد، بعد أن عملت سلسلةٌ من الأحداث الزّمنيّة المرتبطة بالإرهاب والتّطرّف الدّينيّ على عزل عقول قطاعات من الشّباب المسلم عن الاتّصال بعقيدة الإيمان بالله تعالى وتاريخيّة بعث الأنبياء (علیهم السلام)، متأثّرين بموجة الإلحاد التي كانت كردِّ فعلٍ على الممارسات الإجراميّة لبعض مدّعي الانتماء للدّين الإسلاميّ.

ومن الواضح أنّه لا يمكن اقتلاع موجة الشّكِّ واللّامبالاةِ تلك بنفس الأجوبة القديمة المصوغة بأدبيّات وأفكارٍ لا تتلاءم مع ذوق الإنسان المعاصر الّذي يحمل في ذهنه صوراً في فهم الخلق والوجود والدّين والحياة مستقاة من العلوم الحديثة التي تختلط فيها الفلسفة الحديثة مع مرتكزات العلوم الطّبيعيّة في الفيزياء، والطبّ، والفسيولوجيا، وكذلك الحفريّات التّاريخيّة، فأصبحت الحاجة ضروريّة في إغناء هذه السّاحة من المعرفة بأُسلوب حديث يمزج الأثر القديم الصّالح بالنّتاج الفكريّ الحديث في توأمة تُبرز فقر دعوى الإلحاد وتعرّيه من أيّ مضمون حقيقيّ يمكن أن يحتجّ عليه بالبراهين العقليّة والمنطقيّة أو منجزات العلوم الطّبيعيّة، وبما لا يدع مجالاً للشّكِّ في متانة الأرضيّة الّتي يقف عليها الدّين الحقّ ومعارفه.

ومن هنا فإنّا ندعوا لرفد المجلّةِ بكتاباتٍ مركّزةٍ وواضحة الدّليليّة والحجّة في هذا الشّأن المهمّ.

ص: 9

وقد عُرف عن المجلّة سعيها الحثيث في شتّى المجالات الّتي تصبُّ في خدمة إحياء وتأهيل عمليّة الكتابة والنّشر، ومن جهودها تنظيم أكثر من دورةٍ تحفيزيّةٍ وتطويريّةٍ للأقلام التّخصّصيّة، وتقريب أدوات الكتابة وعناصرها، وهي مستمرّة في ذلك كلّما سنحت لها الفرصة.

ومن منطلق الحرص على بقاء المجلّةِ في دائرة اهتمام القرّاء وفي مقدّمة أولويّاتهم لمسنا الحاجة إلى تقليص مساحة البحوث المنشورة إلى خمسين (50) صفحة للحلقة الواحدة كحدٍّ أعلى، على أنْ لا يتجاوز البحث حلقتين، وما زاد عن ذلك - وكان جديراً بالنّشر - يُكتفى باستلال مقدار حلقة منه، وينشر سائر البحث في كتاب مستقلّ.

وفي الختام نتقدّم بالشّكر لجميع المساهمين في استمرار ودوام ظهور المجلّةِ بإصداراتها البالغة في هذا العدد - الذي بين أيدينا - الثالث عشر، حيث تتضافر عليها الجهود من هيئة تحريرٍ، ولجنةٍ علميّةٍ، ورعايةٍ من العلماء والفضلاء الّذين يساهمون في استمرارها وازدهارها بفضل عنايتهم وحسن تقبّلهم، وما توفيقنا إلّا بالله عليه توكّلنا وإليه نُنيب.

إدارة المجلّة

النجف الأشرف

15 شعبان المعظّم 1439ﻫ

ص: 10

حكم إبداء المرأة وجهها وكفَّيها ونظر الرجل إليهما (الحلقة الأولى) - الشيخ جعفر اليعسوبي (دام عزه)

اشارة

تتميّز الشريعة الإسلاميَّة بمراعاة قوانينها للقيم الأخلاقيَّة في العفة والسَّتر من جهةٍ وعدم التَّضييق على المكلَّف من جهةٍ أخرى.

وما بين يديك - عزيزي القارئ - محاولةٌ لاستكشاف رؤية الإسلام في موضوعٍ ملحٍّ لعموم النَّاس ألا وهو كشف المرأة لوجهها وكفيّها أمام الرَّجل الأجنبيّ ونظر الرَّجل إليهما.

وذلك من خلال قراءة النصوص الشرعيّة وعرض آراء مَن يمثّلون الطوائف الإسلاميّة ومناقشتها.

ص: 11

ص: 12

بسم الله الرحمن الرحیم

من المسائل الابتلائيّة في المجتمعات الإسلاميّة خروج المرأة أمام الرجل الأجنبيّ كاشفة وجهها وكفَّيها، ونظر الرجل إليها وهي في تلك الحالة، ولم يكن قاصداً للتلذُّذ وبدون دافع الشهوة، فما هو موقف الإسلام تجاه هذه الحالة؟ فهل يمنع الإسلام المرأة من الخروج دون تغطية بدنها من قرنها إلى قدميها، ويحذّر الرجل من أن تقع عيناه على وجهها أو كفَّيها ولو بدون قصد شهوةٍ وتلذُّذ، أو لا يمنع من كذلك؟ وقد اختلفت آراء الفقهاء فيها قديماً وحديثاً.

وهذه محاولة بسيطة في سطور لاستكشاف رؤية الإسلام في هذه القضيّة المهمّة من خلال عرض آراء مَن يمثّلون الطوائف الإسلاميّة ومناقشتها، وبالله التوفيق.

والكلام في حكم نظر الرجل إلى المرأة يمكن أن يقع في صورٍ ثلاثة:

الصورة الأولى: أن ينظر إلى امرأةٍ بنظرة شهوةٍ وقصد تلذُّذٍ، وهذا لا إشكال ولا خلاف في حرمته فيما عدا الزوجة بلا استثناء أي جزء من أجزاء بدنها، بلا فرق بين المحارم وغيرها، وبلا فرق بين مَن تلتزم بالحجاب وغيرها، وكذلك بلا فرق بين أن

ص: 13

نقول بوجوب ستر جميع البدن على المرأة أو لا.

الصورة الثانية: أن ينظر إلى جسد امرأةٍ أجنبيّةٍ ملتزمة بالحجاب ما عدا الوجه والكفين وكذلك القدمين - على قول -، وهذا أيضاً قد تسالم فقهاء الإسلام على حرمته وإن كان بدون شهوة وقصد تلذُّذ كما تسالموا على حرمة إبداء المرأة جسدها لغير المحارم عدا الوجه والكفّين والرجلين إلّا في حالات خاصّة استثنوها من هذا الحكم، مثل نظر الطبيب لغرض العلاج وأمثاله. وأمّا جواز النظر إلى وجه وكفَّي المحارم فكاد أن يكون مجمعاً عليه.

وكذلك النساء غير الملتزمات بالحجاب فقد جوّز الكثيرون النظر إلى شعورهن؛ لوجود بعض النصوص الدالّة على جواز ذلك.

ونظراً إلى وضوح الأمر في هاتين الصورتين وعدم وجود خلاف معتدٍّ به أعرضت عن التفصيل فيهما.

الصورة الثالثة: هل هناك استثناء لبعض الأعضاء من جسم المرأة الأجنبيّة أو لا؟ بمعنى هل يوجد لها عضو يجوز لها الكشف عنه أمام الرجل الأجنبيّ بدون ضرورة تقتضيه، ويجوز للرجل أن ينظر إليه إذا لم يكن بقصد التلذُّذ والشهوة، ومع عدم الخوف من الوقوع في الحرام، أو يجب عليها ستر جميع بدنها، ويحرم على الأجنبيّ النظر إلى شيءٍ من جسدها؟

فيه أقوالٌ سوف نشير إليها ثُمَّ نتعرّض لأدلّتها للنظر فيها، ونختار ما يبدو صحيحاً منها حسب الظاهر، وبالله التوفيق.

فيقع الكلام في مقامين:

ص: 14

المقام الأوَّل: الأقوال في المسألة

اشارة

وهي خمسة:

القول الأوَّل

لا يجوز للمرأة الكشف عن شيء من جسدها للأجنبيّ، كما لا يجوز للرجل أن ينظر إلى شيء من جسدها. ذهب إلى هذا القول جمع من علماء الإماميّة فتوى أو احتياطاً.

منهم: الشيخ الطوسيّ(1)، وابن البرّاج(2)، وابن إدريس(3)، وابن سعيد الحلّيّ(4)، والعلّامة(5)، وفخر المحقّقين(6)، والشهيد (7)، والمحقّق الكركيّ(8)، والشهيد الثاني(9)، والفيض الكاشانيّ(10)، والفاضل الهنديّ(11)، والشيخ محمّد إسماعيل الخواجوئيّ(12)،

ص: 15


1- يلاحظ: النهاية في مجرّد الفقه والفتاوى: 484، التبيان في تفسير القرآن: 7/ 429.
2- يلاحظ: المهذّب: 2/ 221.
3- يلاحظ: السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي: 2/ 608.
4- يلاحظ: الجامع للشرائع: 1/ 395.
5- يلاحظ: إرشاد الأذهان: 2/ 5، تذكرة الفقهاء: 2/ 573.
6- يلاحظ: إيضاح الفوائد: 3/ 6.
7- يلاحظ: اللمعة الدمشقية: 174.
8- يلاحظ: جامع المقاصد: 12/ 205.
9- يلاحظ: رسائل الشهيد الثاني (الرسالة المجموعة في الفوائد المسموعة): 2/ 1195.
10- يلاحظ: الوافي: 22/ 821.
11- يلاحظ: كشف اللثام: 7/ 26.
12- يلاحظ: الرسائل الفقهية: 1/ 43.

والسيّد اليزديّ(1)، ووافقه بعض مَن علّق على هذه المسألة، منهم: السيّد البروجرديّ، والمحقّق الحائريّ، والمحقّق النائينيّ(2)، والسيّد أبو الحسن الأصفهاني(3)، ومال إلى الحرمة السيّد الحكيم في المستمسك(4)، والسيّد أبو القاسم الخوئي (5)، وبعض الأعلام المتأخّرين عنه، مثل: السيّد محمد رضا الگلبايگاني(6)، والشيخ جواد التبريزي(7) (رضوان الله تعالی علیهم)، والشيخ محمّد إسحاق الفياض (دام ظله) (8) في رسائلهم العمليّة.

هذا ما عن علماء الإماميّة.

وأمّا علماء العامَّة فقليل منهم مَن أختار هذا القول حسب ما اطّلعنا عليه..

1. ابن قدامة الحنبليّ، قال: (أمّا نظر الرجل إلى الأجنبيّة من غير سبب فيحرم عليه النظر إلى جميعها في ظاهر كلام أحمد)(9)، ثُمَّ بعده بأسطر ذكر الأدلّة على هذا الرأي.

فيظهر منه..

ص: 16


1- يلاحظ: العروة الوثقى/ كتاب النكاح: 2/ 803 مسألة: 31.
2- العروة الوثقى (المحشّاة): 5/494.
3- وسيلة النجاة (مع حواشي السيّد الخميني): 697.
4- يلاحظ: مستمسك العروة الوثقى: 14/ 32.
5- يلاحظ: منهاج الصالحين: 2/ مسألة 1232.
6- هداية العباد: 2/مسألة: 1063، 1068.
7- للشيخ التبريزي (قدس سره) في كشف المرأة عن وجهها وكفّيها تفصيلٌ مثل تفصيل السيّد الحكيم (قدس سره) بين حصول التلذّذ للرجال بالنظر إليها فلا يجوز وبين عدمه فيجوز، يلاحظ: منهاج الصالحين للسيّد الحكيم (2/ 277)، منهاج الصالحين للميرزا جواد التبريزي( 2/ مسألة 1232).
8- منهاج الصالحين: 3/ مسألة: 10، 14.
9- يلاحظ: الشرح الكبير: 6/ 355.

أوّلاً: أنّه يختار هذا القول.

وثانياً: أن هذا القول منسوب إلى أحمد بن حنبل أيضاً.

2. أبو بكر بن عبد الرحمن، حسب نقل محمّد بن أحمد القرطبيّ الأندلسيّ المالكيّ، حيث قال: (وذهب أبو بكر بن عبد الرحمن وأحمد إلى أنَّ المرأة كلّها عورة)(1). ومعنى هذا الكلام أنَّ أبا بكر بن عبد الرحمن - الذي هو من الفقهاء التابعين - سبق أحمد في اختيار هذا القول حسب هذا النقل.

3. محمّد بن أحمد الشربينيّ(2)، حيث جعل حرمة النظر حتّى إلى وجه المرأة وكفَّيها ولو بدون خوف الفتنة وقصد التلذُّذ، قولاً صحيحاً.

4. النوويّ الشافعيّ، حيث قال: (إذا أراد الرجل أن ينظر إلى امرأة أجنبية عنه من غير سبب فلا يجوز له ذلك، لا إلى العورة، ولا إلى غير العورة)(3).

5. عليّ بن سلمان المرداويّ، قال: (إنَّ المصنِّف وأكثر علماء الحنابلة ذهبوا إلى حرمة النظر إلى الأجنبيَّة مطلقاً، وهذا هو الصحيح، وهو مذهب أحمد)(4).

ومراده من المصنِّف هو ابن قدامة؛ لأنَّ كتابه هذا بمثابة شرح لكتاب المقنع لابن قدامة. ويظهر من هذه الكلمات أنَّ أحمد وأكثر علماء الحنابلة اختاروا هذا القول مقابل غيرهم. ولكن سيأتي التشكيك في نسبة هذا القول إلى أحمد.

والملاحَظ أنّ هذه الأقوال وإن لم يصرّح كلُ واحد فيها إلّا بأحد الحكمين - من

ص: 17


1- بداية المجتهد ونهاية المقتصد: 1/ 99.
2- يلاحظ: الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع: 2/ 67.
3- المجموع: 16/ 138.
4- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف: 8/ 27.

حرمة نظر الرجل أو وجوب الستر على المرأة - ولكنّ لمّا كان عامّة فقهاء المسلمين - فيما وجدناه - بنو على الملازمة بين الحكمين ولم ينسب القول بالتفكيك إلّا إلى قليل منهم نسبنا إليهم الحكم الثاني أيضاً، ولا سيّما بالنظر إلى أنّ بعض الأدلّة التي اختاره كلُّ طرف في أحد الحكمين يكفي في إثبات الحكم الآخر كما سوف يأتي تقريبه. وكذا بالنظر إلى دعوى وجود ارتكاز الملازمة بين الحكمين عند المتشرّعة وسوف يأتي تقريبها أيضاً، فكأنّ الأصل هو أنّ من أفتى بوجوب الستر على المرأة لجميع بدنها أفتى بحرمة نظر الرجل إليها مطلقاً، وكذا العكس.

وهكذا تعاملنا مع الأقوال التي نذكرها لاحقاً إلّا من وجدنا منه التصريح بالتفكيك بين الحكمين.

القول الثاني

يجوز للمرأة الكشف عن وجهها وكفَّيها أمام الرجال الأجانب، كما يجوز للأجنبيِّ النظر إلى وجه المرأة وكفَّيها إذا كان بدون شهوة وقصد التلذُّذ، ولا خوف الوقوع في الحرام.

اختار هذا القول كثير من علماء الإماميَّة، منهم:

1. الشيخ الصدوق (رحمة الله)، فإنَّه يمكن أن يدّعى أن هذا القول هو ظاهر كلامه، حيث ذكر في كتابه المقنع: (وروي عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه قال: على الصبي إذا احتلم الصيام، وعلى المرأة إذا حاضت الصيام والخمار)(1). فلمَّا لم يذكر ما يخالف هذه الرواية يظهر اختياره لها والإفتاء بها.

ومعنى الرواية أنَّ المرأة إذا بلغت يجب عليها الخمار لا أكثر. وسوف يأتي البحث عن معنى الخمار، وأنَّه ثوب يستر الرأس دون الوجه.

ص: 18


1- المقنع: 196.

ولكن في الرواية احتمال آخر، وهو: أنَّ المراد من وجوب الخمار هو ستر الرأس في الصلاة؛ لأنَّ الصبية لا يجب عليها ستر الرأس، فالإمام (علیه السلام) يريد أن يبيّن حكم المرأة من حيث الصيام والصلاة، وليس في مقام بيان مقدار ما تستره المرأة من جسمها أمام الأجنبيّ.

وعلى هذا يصعب الاعتماد على هذا الكلام في نسبة هذا القول إلى الشيخ الصدوق (رحمة الله).

2. الشيخ المفيد، حيث قال: (ولا يحلّ له أن ينظر إلى وجه امرأة ليست له بمحرم ليلتذ بذلك)(1). ويفهم من هذا الكلام أنَّ النظر إلى وجه المرأة بلا قصد التلذُّذ ليس بحرام عنده، وإلَّا لزم لغوية هذا القيد.

3. الشيخ الطوسيّ (رحمة الله)، حيث ادّعى الإجماع على هذا القول(2). ووافقه على ذلك كلٌّ من:

4. الراونديّ (رحمة الله) في فقه القرآن(3).

5. الطبرسيّ (رحمة الله) في المؤتلف من المختلف(4).

6. الشهيد الثاني (رحمة الله) في المسالك(5).

7. السبزواريّ (رحمة الله) في الكفاية(6).

ص: 19


1- المقنعة: 521.
2- يلاحظ: المبسوط: 4/ 160، الخلاف: 1/393.
3- يلاحظ: فقه القرآن: 2/ 127.
4- يلاحظ: المؤتلف من المختلف بين أئمّة السلف: 1/161
5- يلاحظ: مسالك الأفهام: 7/ 49.
6- يلاحظ: كفاية الأحكام (كفاية الفقه): 2/ 84.

8. المحدِّث البحرانيّ (رحمة الله) في الحدائق(1).

9. النراقيّ (رحمة الله) في المستند(2).

10. صاحب الرياض (رحمة الله) (3).

11. الشيخ الأنصاريّ (رحمة الله) في كتاب النكاح(4).

12. الجزائريّ (رحمة الله) في قلائده(5).

13. وبعض الأعلام المتأخّرين مثل: السيّد الخمينيّ (رحمة الله)، والسيّد السيستانيّ (دام ظله العالی)، والسيّد محمد سعيد الحكيم (دام ظله)، والسيّد الشبيريّ الزنجانيّ (دام ظله)، والفاضل اللنكرانيّ (رحمة الله) في رسائلهم العمليَّة.

وأمّا علماء العامّة فأكثرهم ذهب إلى هذا القول، منهم:

1. محمَّد بن أحمد السرخسيّ الحنفيّ، قال: (يجوز النظر إلى وجه وكفَّي الأجنبيَّة، وهو قول ابن عباس وعليّ)(6). فنسب جواز النظر إلى ابن عباس، وعليّ بن أبي طالب (علیه السلام).

2. محمَّد بن أحمد القرطبيّ المالكيّ، قال: (أمّا مسألة حدّ العورة في المرأة فأكثر العلماء على أنَّ بدنها كلّه عورة ما خلا الوجه والكفَّين)(7). فنسب الجواز إلى الأكثر وإن كان مختاره الحرمة، كما تقدّم.

ص: 20


1- يلاحظ: الحدائق الناضرة في فقه العترة الطاهرة: 23/ 52.
2- يلاحظ: مستند الشيعة: 16/ 46.
3- يلاحظ: رياض المسائل: 11/ 47.
4- يلاحظ: كتاب النكاح: 49.
5- يلاحظ: قلائد الدرر في بيان آيات الأحكام بالأثر: 3/ 201.
6- المبسوط: 2/371.
7- بداية المجتهد ونهاية المقتصد: 1/99.

3. ابن حزم الأندلسيّ الظاهريّ في المحلّى، قال: (وهي [أي العورة] من المرأة جميع جسمها، حاشا الوجه والكفَّين فقط)(1).

4. عليّ بن سلمان المرداويّ في الإنصاف، نسب القول بالجواز إلى جماعة من الحنابلة والقاضي، وحكى عن الشيخ تقي الدين أنَّه قال: (هل يحرم النظر إلى وجه الأجنبيّة لغير حاجة؟ رواية عن الإمام أحمد يكره ولا يحرم). وحكى عن ابن عقيل أنَّه قال: (لا يحرم النظر إلى وجه الأجنبيّة إذا أمن الفتنة)، ثُمَّ قال: (قلت: وهذا [أي الجواز] الذي لا يسع الناس غيره خصوصاً للجيران والأقارب غير المحارم الذين نشأ بينهم، وهو مذهب الشافعيّ)(2).

5. ناصر الدين الألبانيّ السلفيّ، حيث قال: (إنَّ تتبُّعنا الآيات القرآنية، والسُنّة المحمَّديَّة، والآثار السلفيَّة في هذا الموضوع الهامّ، قد بيّن لنا أنَّ المرأة إذا خرجت من دارها وجب عليها أن تستر جميع بدنها، وأن لا تظهر شيئاً من زينتها، حاشا وجهها وكفَّيها - إن شاءت -)(3).

ونسب العلّامة (قدس سره) إلى أكثر الشافعيّة القول بالجواز مع الكراهة(4).

والظاهر من هذه العبارات أنَّ أكثر علماء العامّة ذهبوا إلى الجواز، واشتهرت نسبة القول بالحرمة إلى أحمد بن حنبل، وإن كان تقيّ الدين نسب إليه الكراهة نافياً نسبة الحرمة، حسب نقل المرداويّ.

ص: 21


1- المحلّى: 3/210.
2- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف: 8/ 28.
3- جلباب المرأة المسلمة في الكتاب والسنّة: 5.
4- يلاحظ: تذكرة الفقهاء: 2/ 573 (ط. القديمة).

القول الثالث

يجوز للمرأة الكشف عن وجهها وكفَّيها، ولكنّه لا يجوز للرجل الأجنبيّ النظر إليها. ذهب إلى هذا الرأي صاحب الجواهر(1)، ومال إليه المحقّق الداماد (قدس سرهما) (2).

القول الرابع

يجوز للرجل أن ينظر إلى وجه المرأة وكفَّيها مرةً واحدةً، ولا يجوز التكرار. ذهب إليه المحقّق(3)،

والعلّامة(4)، والشهيد الأوّل (قدس سرهم) (5).

وهل مقصود القائل بهذا القول أنَّه لا يجوز للرجل النظر بالتكرار مع حرمة الكشف للمرأة، أو أنَّ مقصوده أنَّ المرأة يجوز لها الكشف؟

يمكن أن يقال: أنَّ ظاهر مرادهم هو الثاني، وحينئذٍ فهذا القول يكون قريباً من القول الثالث الذي اختاره صاحب الجواهر.

قال المحقّق (قدس سره) في الشرائع: (ساترة جميع جسدها ما عدا الوجه والكفَّين وظاهر القدمين، على تردُّد في القدمين)(6). وقال في موضع آخر: (يجوز أن ينظر إلى وجهها وكفَّيها على كراهية مرّةً، ولا يجوز معاودة النظر)(7)، وعبارته ظاهرة في الإطلاق، من جهة أنَّها قامت للصلاة في معرض وقوع نظر الأجانب عليها، أو كانت مأمونة من هذا

ص: 22


1- يلاحظ: جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: 29/ 69.
2- يلاحظ: كتاب الصلاة: 2/ 60.
3- يلاحظ: شرائع الإسلام: 1/ 60.
4- يلاحظ: تحرير الأحكام: 2/ 3، قواعد الأحكام: 3/ 6.
5- اللمعة الدمشقية: 174.
6- شرائع الإسلام: 1/ 60.
7- شرائع الإسلام: 2/ 213.

الجانب، ومعه لم يقل بوجوب ستر الوجه والكفَّين.

القول الخامس

يجوز للمرأة الكشف عن قدميها مضافاً إلى الوجه والكفَّين.

ذهب إليه من الإماميَّة ابن أبي المجد الحلبيّ (قدس سره) (1).

وذكر الشيخ الصدوق (قدس سره) (2): أنَّ خمسة أعضاء من جسد المرأة يجوز النظر إليها، ثُمَّ ذكر مرسلة مروك بن عبيد التي دلّت على جواز النظر إلى الوجه والكفَّين والقدمين من المرأة.

ونُسب هذا القول إلى أبي حنيفة من العامّة(3).

ص: 23


1- يلاحظ: إشارة السبق: 83.
2- يلاحظ: الخصال: 302.
3- يلاحظ: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: 5/ 121 - 122.

المقام الثّاني: في ذكر أدلّة الأقوال

اشارة

أدلة القول الأوَّل:

الدليل الأوَّل: الكتاب

اشارة

وهي آيات:

الآية الأولى
اشارة

قال الله سبحانه في كتابه: ﴿ولَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾(1).

والاستدلال بهذه الآية على حرمة نظر الأجنبيّ إلى الأجنبيّة مطلقاً، وحرمة كشف شيء من بدنها بتقريبات:

التقريب الأوَّل

ما جاء في كلمات السيّد الخوئيّ (قدس سره) حيث قال: إنَّ (البداء معناه الظهور كما في قوله تعالى: ﴿بدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا﴾، والإبداء معناه الإظهار فإذا كان هذا متعلّقاً بشيء ولم يكن متعدّياً باللام يكون في مقابل الستر، وإذا كان متعلّقاً باللام كان في مقابل الإخفاء بمعنى الإعلام والإراءة كما يقال: يجب على الرجل ستر عورته وليس له إظهارها في ما إذا كان يحتمل وجود ناظر محترم، وكذلك يقال: أنَّ بدن المرأة كلّه عورة فيراد به ذلك، وأمّا إذا قيل: أبديت لزيد رأيي أو مالي، فمعناه: أعلمته، وأريته.

ومن هنا يظهر معنى الآية الكريمة، فإنَّ قوله ¨ أوّلاً: ﴿لَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ إنَّما يفيد وجوب ستر البدن الذي هو موضع الزينة، وحرمة كشفه ما عدا الوجه واليدين؛ لأنَّهما من الزينة الظاهرة، فيستفاد منه أنَّ حال بدن المرأة حال عورة الرجل لا بُدَّ من ستره بحيث لا يطّلع عليه غيرها باستثناء الوجه واليدين فإنّهما لا يجب سترهما.

ص: 24


1- سورة النور: 31.

لكنّك عرفت أنَّ ذلك لا يلزم منه جواز نظر الرجل إليهما، في حين أنَّ قوله ¨ ثانياً: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾ يفيد حرمة إظهار بدنها وجعل الغير مطّلعاً عليه وإراءته مطلقاً من دون فرق بين الوجه واليدين وغيرهما، إلّا لزوجها والمذكورين في الآية الكريمة.

فيتحصَّل من جميع ما تقدّم: أنَّ الآية الكريمة بملاحظة النصوص الواردة في تفسير الزينة تفيد الحكمين التاليين:

الأوَّل: حكم ظهور الزينة في حدّ نفسه، فتفيد ستر غير الظاهرة منها، دون الظاهرة التي هي الوجه واليدان.

الثاني: حكم إظهار الزينة للغير، فتفيد حرمته مطلقاً، من دون فرق بين الظاهرة والباطنة إلّا للمذكورين في الآية الكريمة حيث يجوز لها الإظهار لهم.

وحيث عرفت أنَّ حرمة الإظهار ووجوب التستّر تلازم حرمة النظر إليها فتكون الآية الكريمة أَوْلى بالاستدلال بها على عدم الجواز من الاستدلال بها على الجواز)(1).

ومقصود السيّد (قدس سره) من قوله: (بملاحظة النصوص الواردة) هو أنَّه لولا النصوص في المقام لحملنا لفظ الزينة على ما يتزيّن به المرء لا محلّ الزينة، لكنّه بملاحظة النصوص يُفهم أنَّ المراد به هو مواضع الزينة.

ثُمَّ يقول (قدس سره) فيما بعد: (والذي يظهر - والله العالم - أنَّ الروايات الواردة في تفسير هذه الآية الكريمة تؤكِّد ما ذكرناه من التفصيل في الزينة بين ما يجب سترها في نفسه، وما يحرم إبداؤها لغير الزوج، فإنَّ بعضها تسأل عن القسم الأوّل، وبعضها الآخر تسأل عن القسم الثاني في الآية الكريمة.

ص: 25


1- مباني العروة الوثقى/ كتاب النكاح: 1/ 55 - 56.

فمن الأوّل: معتبرة أبي بصير عن أبي عبد الله (علیه السلام): (قال: سألته عن قول الله ¨: ﴿لَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾؟ قال: الخاتم، والمسكة، وهي القلب)(1).

فهي صريحة في أنَّ السؤال عن القسم الأوّل من الآية الكريمة دون القسم الثاني فلا تدلّ إلَّا على جواز كشف الوجه واليدين، وعدم وجوب سترهما في نفسه، وقد عرفت أنَّ ذلك لا يلازم جواز النظر إليهما.

ومن الثاني: صحيحة الفضيل، حيث ورد السؤال فيها عن الذراعين من المرأة أهما من الزينة التي قال الله ¨: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾؟ فأجاب (علیه السلام): (نعم)(2). فدلّت على حرمة إبدائهما لغير الزوج ومَن ذُكر في الآية الكريمة، فبملاحظة هذه النصوص يتّضح جلياً أنَّ ما تفسره معتبرة أبي بصير غير ما تفسره صحيحة الفضيل، وأنَّهما منضمّان إنّما يفيدان أنَّ الزينة على قسمين: قسم منها يجب ستره في نفسه، وهو ما عدا الوجه والكفَّين من البدن. وقسم منها لا يجوز إبداؤه لغير المذكورين في الآية الكريمة مطلقاً، وهو تمام البدن من دون استثناء)(3).

ويتفرَّع على كلامه أحكام، هي:

1 - جواز كشف المرأة وجهها وكفَّيها في حدّ نفسه.

2 - عدم جواز نظر الأجنبيّ إلى بدن الأجنبيّة مطلقاً حتّى الوجه والكفَّين.

3 - عدم جواز اطّلاع الرجل الأجنبيّ على شيء من بدنها.

ص: 26


1- الكافي: 5/521، باب ما يحلّ النظر إليه من المرأة، ح: 4.
2- الكافي: 5/521، باب ما يحلّ النظر إليه من المرأة، ح: 1.
3- مباني العروة الوثقى/ كتاب النكاح: 1/ 61 - 62.

وقد سبقه إلى هذا التفسير للآية السيّد باقر الكشميريّ(1) حسب ما نقل عنه السيّد عليّ نقيّ في كتابه إثبات الحجاب(2).

أقول: كلامه (قدس سره) يرجع إلى عدّة أمور:

الأمر الأوَّل: أنَّ المراد من لفظ الزينة في الآية الكريمة مواضع الزينة ولو بمعونة بعض الروايات.

الأمر الثاني: أنَّ الإبداء بدون التعدّي باللام يعطي معنى غير المعنى الذي يعطيه عند التعدّي باللّام، فالأوّل هو الإظهار في نفسه مقابل الستر، والثاني هو جعل الغير مطّلعاً على الشيء الذي أظهره مقابل الإخفاء.

الأمر الثالث: أنَّه لا ملازمة بين جواز الكشف عن الوجه والكفَّين للمرأة وبين جواز نظر الرجل إليهما.

الأمر الرابع: أنَّ المراد من الزينة في الفقرة الثانية من الآية، وهي: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾ بدن المرأة كلّه بدون استثناء شيء منه.

الأمر الخامس: هناك ملازمة بين حرمة الكشف للغير وبين حرمة نظر الغير إليها.

ص: 27


1- هو السيّد محمّد باقر ابن السيّد أبي الحسن محمّد ابن السيّد علي شاه ابن صفدر شاه ابن السيّد صالح الرضويّ القميّ الكشميريّ (قدس سره) نزيل لكهنو، والمولود فيها سابع من صفر سنة 1285ﻫ، والمتوفّى بالحائر في سنة زيارته للعتبات المقدسة في عصر يوم الخميس السادس عشر من شعبان سنة 1346ﻫ. له كتاب (إسداء الرغاب بكشف الحجاب عن وجه السُنّة والكتاب)، في مسألة استثناء الوجه والكفين عن وجوب الستر الواجب في الصلاة على النساء، باللغة العربية. الذريعة إلى تصانيف الشيعة: 2/ 37.
2- كتاب مطبوع باللغة الأوردية لمؤلفه السيد عليّ نقيّ النقويّ (قدس سره).

الأمر السادس: أنَّ الروايات الواردة في تفسير الآية تؤيِّد التفصيل الذي اختاره في تفسير الآية.

ولكن يمكن المناقشة في ما ذكره (قدس سره) بعدّة أمور:

أمّا الأوّل وهو: أنَّ الزينة في نفسها - أي مع قطع النظر عن الروايات الواردة في تفسيرها - ظاهرة في إرادة ما تتزيّن به المرأة لا مواضعها، ولكن الروايات فسّرت الزينة بمواضعها.

فأقول: قد وقع النزاع قديماً وحديثاً في المراد من لفظ الزينة في قوله سبحانه: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾، فقد ذهب بعض المفسّرين والفقهاء إلى أنَّ المراد هو مواضع الزينة، والبعض الآخر ذهب إلى أنَّ المراد هو ما تتزيّن به المرأة من الثياب والقلادة والسوار وغير ذلك، وأكثر من قال بالقول الأوَّل اعترف بأنَّ الزينة في نفسها ظاهرة في ما يتزيّن به المرء، ولكن بقرينة المقام أو الروايات يفسّر بمواضعها: إمّا من باب إطلاق الحال وإرادة المحل منه، أو بتقدير كلمة (ذو) أو غير ذلك.

ويمكن ملاحظة القول الأوَّل في الخلاف للشيخ(1)، وأحكام القرآن للجصّاص(2)، ومتشابه القرآن ومختلفه لابن شهرآشوب(3)، ومجمع البيان للطبرسيّ(4)، وزبدة البيان في أحكام القرآن للأردبيليّ(5)، ومسالك الأفهام إلى آيات الأحكام للفاضل الشيخ جواد

ص: 28


1- يلاحظ: الخلاف: 1/ 393.
2- يلاحظ: أحكام القرآن: 5/ 175.
3- يلاحظ: متشابه القرآن ومختلفه: 1/ 11.
4- يلاحظ: مجمع البيان: 7/ 217.
5- يلاحظ: زبدة البيان في أحكام القرآن: 543.

ابن سعيد الكاظميّ(1)، وإرشاد الأذهان في تفسير القرآن للشيخ محمّد حبيب الله السبزواريّ(2)، والميزان في تفسير القرآن للسيد الطباطبائيّ(3)، والبلاغ في تفسير القرآن بالقرآن(4).

ومَن قال بالقول الثاني: الشيخ في التبيان(5)، والزمخشريّ(6)، والجرجانيّ(7)، والفاضل المقداد(8)، والآلوسيّ(9)، والإشتهارديّ(10).

وهذا الاختلاف بين العلماء في تفسير كلمة (الزينة) مبنيٌّ على عدم إمكان إرادة المعنى العامّ الجامع لكلا الأمرين - ما يتزيّن به، ومواضع الزينة - والحال أنَّه يمكن أن يدّعى عدم اختصاص لفظ الزينة بشيء منهما، بل الزينة هو مطلق ما يحسّن به شيء ويجمّل سواء حصل من ذات الشيء، أو بضمّ شيء من خارجه؛ لأنَّ الزينة اسم من الزَيْن وهو يقابل الشَيْن، فتخصيص الزينة بما هو من خارج الشيء هو من تخصيص المعنى العامّ بأحد أفراده لكثرة الاستعمال فيه.

ص: 29


1- يلاحظ: مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام: 3/ 269.
2- يلاحظ: إرشاد الأذهان في تفسير القرآن: 358.
3- يلاحظ: الميزان في تفسير القرآن: 15/ 111.
4- يلاحظ: البلاغ في تفسير القرآن بالقرآن: 353.
5- يلاحظ: التبيان في تفسير القرآن: 7/ 429.
6- يلاحظ: الكشّاف: 3/ 230.
7- يلاحظ: آيات الأحكام: 2/ 360.
8- يلاحظ: كنز العرفان في فقه القرآن: 2/ 223.
9- يلاحظ: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم: 9/ 335.
10- يلاحظ: مدارك العروة: 12/ 511.

وما يشهد بصحّة هذه الدعوى كلام بعض اللغويين:

قال الراغب في مفرداته: (الزينة الحقيقيّة: ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله لا في الدنيا ولا في الآخرة.. والزينة بالقول المجمل ثلاث: زينة نفسيّة كالعلم والاعتقادات الحسنة، وزينة بدنيّة كالقوّة وطول القامة، وزينة خارجية كالمال والجاه)(1).

وقال الجوهريّ: (الزينة: ما يتزيّن به، ويوم الزينة: يوم العيد... قال المجنون:

فيا رَبِّ إذ صَيَّرْتَ ليلَى لِيَ الهَوَى *** فزِنّي لِعَيْنَيْها كما زِنْتَها لِيَا

ورجل مزين، أي مقذذ الشعر)(2).

وقال الأزهريّ: (الزين: نقيض الشين، وسمعت صبيّاً من بني عُقيل يقول لصبي آخر: وجهي زين، ووجهك شين. أراد أنَّه صبيح الوجه، والآخر قبيحه، والتقدير وجهي ذو زين. قال الليث: الزينة اسم جامع لكلّ شيء يتزيّن به. زانه الحسن يزيّنه زيناً)(3).

وهذه الكلمات واضحة الدلالة على أنَّ الزينة تشمل الحسن والجمال من ذات الشيء بدون ضمّ شيء إليه، وعلى هذا لا تختصّ زينة النساء مفهوماً بالقلادة والقرط والخلخال وغيرها، إنّما هي مصاديق للزينة، بل وجههن وشعرهن ومحاسنهن الأخرى أيضاً هي زينتهن.

ولذا نرى في قوله ¨: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾(4) أنَّ عدداً غير قليل من المفسرين فسّروا الزينة بالمعنى العامّ من الثياب والتمشّط والغسل، على وفق

ص: 30


1- مفردات ألفاظ القرآن: 388.
2- الصحاح تاج اللّغة وصحاح العربية: 5/ 2132.
3- تهذيب اللغة: 13/ 134.
4- سورة الأعراف: 31.

ما جاء في الروايات، وذكر بعضٌ آخر هذا التفسير ناسباً إيّاه إلى غيره بدون الردّ عليه وإن كان الكثير منهم قد فسّروا الزينة بالثياب الجميلة.

ذكر الشيخ في التبيان(1): الزينة: هي الثياب الجميلة والحِلية. والحِلية في اللغة: هي صفة المرء(2) أو صفة المرء وصورته وخلقته(3). فإذا كان المرء جميلاً كان جماله زينة له.

وذكر السيّد هاشم البحرانيّ في البرهان(4) روايات متعدّدة بعضها تفسّر الزينة بالثياب، وبعضها بالتمشُّط، وبعضها بالغسل. وهذا أيضاً يشهد بعموم لفظ الزينة للشعر المُسرّح والوجه المغسول.

وعلى هذا كان استعمال الزينة في الآيات القرآنية بما يتزيّن به الشيء من الخارج، في مثل قوله تعالى: ﴿فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ﴾(5) أي: قارون، وفي وقوله تعالى: ﴿قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَٰلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ﴾(6) وغيرها من الآيات من باب استعمال المطلق في بعض أفراده بالقرينة.

وحينئذٍ لا مانع من استعمال كلمة (الزينة) وإرادة مطلق ما تتزيّن به النساء من أعضاء بدنها، أو الحُلي التي تلبسها، بل يكون هو مقتضى الإطلاق مع عدم القرينة على التقييد، بل نقول توجد في المقام أكثر من قرينة على إرادة مواضع الزينة إمّا بالخصوص، أو بإرادة المعنى العامّ الشامل لها:

ص: 31


1- يلاحظ: التبيان في تفسير القرآن: 4/ 386.
2- الصحاح: 6/ 2318، معجم مقاييس اللغة: 2/ 90، مفردات ألفاظ القرآن: 873، وغيرها.
3- المحكم والمحيط الأعظم: 3/ 442.
4- البرهان في تفسير القرآن: 2/530.
5- سورة القصص: 79.
6- سورة طه: 87.

الأولى: أنَّه لو أريد من (الزينة) ما تتزيّن به المرأة من الثياب والحلي لا يبقى انسجام بين فقرات الآية.

توضيحه: أنَّ هنا ثلاث فقرات متتالية:

الأولى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾.

الثانية: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ﴾.

الثالثة: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ...﴾.

فإذا فرضنا أنَّ المراد من الزينة هو الثياب والحُلي فقط تكون الفقرة الأولى دالة على المنع من إظهارها إلّا ما ظهر منها. والثانية دالة على وجوب ستر الجيوب، أي: الصدور بالخمر. والثالثة دالة على المنع من إظهار الثياب والحُلي أيضاً لغير الأزواج ومَن ذُكر بعدهم.

وهذا كما ترى لا يترك انسجاماً بين الفقرات الثلاث؛ لأنَّ الفقرة الثانية أصبحت غريبة عن الأولى والثالثة، وهذا بخلاف ما لو أريد من الزينة المعنى العامّ الشامل لأعضاء جسم المرأة؛ لأنَّه حينئذٍ تكون الفقرة الثانية منسجمة تماماً مع الأخريين.

وبالنظر إلى هذا قال السيّد الحكيم (قدس سره): (وحمله [أي: إلَّا ما ظهر منها] على زينة الثياب.. مع أنَّه خلاف الظاهر في نفسه مخالف لقرينة السياق مع قوله تعالى: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ﴾)(1).

القرينة الثانية: يمكن أن يقال: أنَّه من البعيد أنَّ الآية تتعرّض لحكمين، وهما: حرمة الكشف عمّا تزيّنت به المرأة من الحُلي، ووجوب ستر الجيب بالخمار، ثمّ تجوّز

ص: 32


1- مستمسك العروة الوثقى: 14/ 29.

الكشف عن الزينة للأزواج وبعض أصناف أخرى من الرجال، وتسكت عن لزوم ستر الجيوب بالخمار وعدمه أمام الأزواج والمحارم الآخرين.

إلى هنا انتهينا إلى أنَّ الزينة المذكورة في الآية في حدّ نفسها شاملة لمواضع الزينة حتى لو لم نستعن بالروايات الواردة في تفسيرها على هذا المعنى، مثل: صحيحة الفضيل، قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الذراعين من المرأة أهما من الزينة التي قال الله تبارك وتعالى: ﴿ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾؟ فقال: نعم، وما دون الخمار من الزينة وما دون السوارين)(1).

فهي وأمثالها - التي دلّت على أنَّ المراد هو مواضع الزينة - تكون مؤيّدة لهذا التفسير، ولا تكون هناك منافاة بينها وبين الرواية التي فسرت الزينة بما تتزيّن به المرأة من الحلي كما في خبر أبي بصير، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قَالَ: (قال سألته عن قول الله تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ قال: الخاتم والمسكة وهي القلب)(2).

ووجه عدم المنافاة هو أنَّ كلّ واحد من القسمين من الروايات تعرّض لمصداق من مصاديق الزينة.

ويؤيّد إمكان هذا الجمع: الرواية التي جمعت بين كلا الأمرين، وهي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (علیه السلام) في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ (قال: هي الثياب والكحل والخاتم وخضاب الكفَّ والسوار، والزينة ثلاث: زينة للناس، وزينة للمحرم، وزينة للزوج. أمّا زينة الناس فقد ذكرناه. وأمّا زينة المحرم فموضع القلادة فما فوقها والدملج وما دونه والخلخال وما أسفل منه. وأمّا زينة الزوج

ص: 33


1- الكافي: 5/ 520، باب ما يحلّ النظر إليه من المرأة، ح: 1.
2- الكافي: 5/ 521، باب ما يحلّ النظر إليه من المرأة، ح: 4.

فالجسد كلّه)(1).

والمراد من (زينة للناس) (وزينة للمحرم) (وزينة للزوج) هي الزينة التي يجوز إظهارها لهذه الأصناف، فهذه الرواية جمعت بين مواضع الزينة وبين الحلي التي تتزيّن بها المرأة.

هذا هو الأمر الأوَّل في كلام السيّد الخوئي (قدس سره).

وأما الأمر الثاني: وهي أنَّ لفظ (يبدين) في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ بمعنى، وفي قوله: ﴿ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾ بمعنى آخر؛ لأنَّ الإبداء قد يأتي متعدّياً بدون اللّام، فيكون بمعنى إظهار الشيء في نفسه، وقد يأتي متعدّياً باللّام، فيكون بمعنى إظهاره للغير واطلاع الغير عليه.

فيمكن المناقشة فيه..

أوّلاً: أنَّ هذا التفصيل لا تساعد عليه استعمالات هذه الكلمة، ولا أقوال أهل اللغة؛ فإنَّه بالنظر إلى استعمالات هذا اللفظ وما ذَكَر له أهل اللغة من المعنى فهو معنى واحد(2)، وهو: الإظهار وكشف الستر عن الشيء، ويتعدّى إلى المكشوف بدون حرف جر.

نعم، قد يكون الملحوظ فيه هو الكشف لناظرٍ معيّن فيذكر ويتعدّى إليه باللّام، وقد لا يكون هذا الأمر منظوراً، بل المقصود هو جعل الشيء مكشوفاً في معرض النظر لأيّ ناظرٍ فلا يذكر، بل يكتفى بالمفعول الأوَّل، وفي الحقيقة يكون المفعول الثاني

ص: 34


1- تفسير القميّ: 2/ 101.
2- يلاحظ مادة (بدو) في: العين: 8/ 83، معجم مقاييس اللغة: 1/ 212، شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم: 1/ 460، وغيرها.

مقصوداً دائماً: إمّا يكون خاصّاً فيتعيّن ذكره، أو مطلق مَن يصلح أن يكون ناظراً فيحذف، فلهذا السبب نرى الاختلاف في موارد استعماله، حيث يتعدّى باللّام إلى المفعول الثاني في مورد وبدونه في مورد آخر.

وكذلك في المقام، ففي الفقرة الأولى الإبداء مطلق من جهة الناظر، لكنّه مقيّد من جهة أعضاء جسم المرأة، وفي الفقرة الأخرى مطلق من جهة الأعضاء، لكنّه مقيّد من جهة الناظر فتعدّى إليه باللام، فكلام السيّد (قدس سره) خلاف استعمالات هذه الكلمة.

وثانياً: أنَّ النتيجة المتفرّعة على هذا التفريق في استعمال لفظ الإبداء غريبة. وهي أنَّ المقطع الأوَّل من الآية جوّز الكشف عن الوجه والكفَّين للمرأة في نفسه، والمقطع الثاني حرّم عليها هذا الأمر للناظر غير الزوج ومَن ذكر بعده.

ولازم هذا الكلام أنَّ الحكم الأوَّل يختصّ بحالة الشكّ في وجود الناظر الأجنبيّ وعدمه، فالإبداء للوجه والكفَّين جائز حينئذٍ، والحكم الثاني يختصّ بحالة العلم بوجود الناظر الأجنبيّ.

ويمكن أن يورد عليه:

أوّلاً: لا دلالة في الآية على هذا التفريق في الحكم، بل لا إشارة فيها، بل الظاهر أنَّ الحكم منصبّ على موضوعه الواقعي في كلتا الفقرتين.

وثانياً: لم يذهب أحد من العلماء - حسب تتبّعي - إلى هذا التفريق في الحكم، وهو أنَّه لا يجوز للمرأة الكشف عن وجهها وكفَّيها إذا علمت بوجود الناظر غير المحرم، ويجوز مع الشكّ والاحتمال في وجوده، على نحو أن يكون هذان حكمين شرعيين لموضوعين مختلفين. نعم، قد يدّعى عدم وجوب الستر عند الشكّ في وجود الناظر؛ لعدم تنجّز الحكم الشرعيّ، لعدم العلم بتحقّق الموضوع، وهذا أمر آخر، كما لا يخفى.

ص: 35

وأمّا الأمر الثالث - وهو أنَّه لا ملازمة بين جواز كشف المرأة لوجهها وكفَّيها في نفسه وبين جواز نظر الأجنبيّ إليها - فيمكن أن يكون الكشف جائزاً، ونظر الأجنبيّ إليها حراماً، كما هو كذلك عند جماعة بالنسبة إلى جسم الرجل؛ فإنَّه يجوز له الكشف عمّا عدا العورتين، لكنّه لا يجوز للنساء النظر إليه.

ولكنّك قد عرفت أنَّه لا معنى لجواز كشف المرأة وجهها وكفَّيها في نفسه، بل المراد هو جواز جعلهما في معرض نظر الغير، وحينئذٍ فالعرف يرى الملازمة بين هذا الحكم وبين جواز نظر الغير إليها، كما نفهم هذه الملازمة في موارد أخرى مثل جواز كشف المرأة عن بدنها للطبيب، فإنَّه يفهم منه جواز نظر الطبيب إليه، وكذلك جواز الكشف لضرورة إقامة الشهادة عليها.

لكن الإنصاف عدم وضوح دعوى الملازمة بين الحكمين في حدّ نفسيهما؛ لأنَّه من الممكن جدّاً أن يكون جواز الكشف للمرأة عن وجهها وكفَّيها لوجود مفسدة في وجوب الستر لهما غالبة على مفسدة جواز الكشف عنهما فجوّز لها الكشف، وهذا لا يستلزم جواز نظر الرجل الأجنبيّ إليها، وحينئذٍ لا مانع ثبوتاً من أن يجوّز المولى (قدس سرهما) للمرأة كشف وجهها وكفَّيها حتّى إذا كانت في معرض نظر الرجل الأجنبيّ، ولكنّه لا يجوز للرجل النظر إليهما.

وقياس المقام مع مورد الطبيب والشهادة قياس مع الفارق؛ فإنَّه لا يحصل الغرض من جواز الكشف إلَّا إذا جوّز النظر للطبيب والشاهد.

ولكن مع هذا يمكن دعوى الملازمة في هذا المورد بالنظر إلى أمور ثلاثة:

الأوَّل: أنَّ جواز الكشف للمرأة مع حرمة نظر الرجل مطلقاً حكم حرجيّ في حقّ الرجل؛ ولذا جوّز النظر إلى شعور مَن لا ينتهين، ولا يصحّ قياسه على جواز كشف

ص: 36

الرجل عن بعض جسمه مع حرمة نظر المرأة إليه، كما لا يخفى.

الثاني: أنَّ الملازمة بين هذين الحكمين من مرتكزات المتشرّعة؛ ولذا ذهب أكثر العلماء إلى الملازمة واستفادة أحد الحكمين من دليل الحكم الآخر أمر واضح مسلّم، ولم يذهب إلى التفكيك بينهما - حسب التتبع - إلَّا نادر.

الثالث: أنَّ التعبير الوارد في الآية - وهو الإبداء - لا يكون مناسباً لو لم يكن نظر الرجل جائزاً.

والوجه فيه: أنَّ القرآن لو عبّر عن هذا المعنى - مثلاً - ب-(لا يجب على المرأة ستر وجهها وكفَّيها) لكان لإنكار الملازمة بين الحكمين مجال، ولكن لما جاء بتعبير (لا يبدين زينتهن إلّا ما ظهر) وكان ظاهره أنّه لا مانع من ابداء الزينة الظاهرة، وفسّرت الزينة الظاهرة بالوجه واليدين، كان هذا الكلام ظاهراً في جواز نظر الرجل إليها؛ لأنَّ الإبداء هو إظهار الشيء للغير، فلا يناسب جواز الإبداء للغير مع حرمة نظر هذا الغير.

الأمر الرابع: وهو أنَّ المراد من الزينة في الفقرة الثانية - وهي قوله سبحانه: ﴿ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾ - هي مطلق بدن المرأة بدون استثناء شيء منه.

وللمناقشة فيه مجال من جهة أنَّ هذا خلاف ظاهر فقرات الآية؛ لأنَّه إذا ضُمّت الفقرة السابقة، وهي قوله سبحانه: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ إلى هذه الفقرة يكون الظاهر منها أنَّ المرأة يجب عليها ستر بدنها ما عدا الوجه والكفَّين عن كلّ ناظر، ولا يجوز لها الكشف عنه، وهذا مفاد الفقرة الأولى ثُمَّ استثنت الفقرة الثانية من هذا الحكم(1) بعض الرجال مثل الأزواج والمحارم، فالزينة في الجملة الثانية - التي حرم الكشف عنها في الفقرة الأولى التي هي بدن المرأة - عدا الوجه والكفَّين لا مطلق البدن.

ص: 37


1- وهو حرمة الكشف عن الزينة التي هي بدن المرأة ما عدا الوجه والكفَّين.

وإذا تنازلنا عن دعوى الظهور في هذا المعنى فعلى الأقلّ هو احتمال يساوي الاحتمال الذي اختاره السيّد الخوئي (قدس سره) فلا يتمُّ الاستدلال.

الأمر الخامس: وهو أنَّ حرمة الكشف عن مواضع البدن تستلزم حرمة نظر الأجنبيّ إليه؛ لأنَّ حرمة الكشف لا موضوعيّة لها، وإنَّما هي مقدّمة لعدم نظر الرجل إليها، فتثبت حرمة نظر الرجل إليها.

و يمكن أن تناقش هذه الدعوى بإمكان الانفكاك بين الحكمين، بأن يحرّم الشارع على المرأة الكشف عن جسدها، ولا يحرّم على الرجل النظر إليه، كما هو معمول بالنسبة إلى النساء اللاتي لا ينتهين عند النهي عن كشف شعورهن؛ فإنَّه يجوز نصّاً وفتوى نظر الرجل إليهن.

ولكن الفهم العرفي للملازمة بين الحكمين هنا وارتكاز المتشرّعة على أنَّ وجوب الستر للبدن وعدم جواز الكشف عنه للمرأة لأجل الاجتناب عن وقوع النظر الحرام أقوى من المورد السابق، فلا يتنازل عنه إلَّا بالنصّ الخاصّ كما في المورد المذكور في الإشكال؛ فإنَّه لولا النصّ الخاصّ على جواز نظر الرجل إلى شعور السافرات لما التزم بالجواز. مضافاً إلى الإجماع المركّب على عدم التفكيك بين حرمة كشف المرأة لبدنها وبين حرمة نظر الرجل إليها؛ لأنَّ العلماء بين قائل بحرمة كشف البدن كلّه للمرأة حتى الوجه والكفَّين مع حرمة نظر الرجل إليها، وبين قائل بحرمة كشف البدن مع استثناء الوجه والكفَّين وحرمة نظر الرجل إليه دونهما، وبين عدم حرمة الكشف لها عن وجهها وكفَّيها مع حرمة النظر إليهما، ولا يوجد من يفتي بحرمة الكشف وجواز نظر الرجل الأجنبيّ إليهما، ومع كلّ هذا فدعوى الملازمة لا تخلو من تأمّل.

الأمر السادس: هو تأييد الروايات للتفصيل الذي اختاره السيّد الخوئي (قدس سره) حيث

ص: 38

جاء في معتبرة أبي بصير عن أبي عبد الله (علیه السلام): قال: (سألته عن قول الله (قدس سرهما): ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾؟ قال: الخاتم، والمسكة، وهي القلب).

وورد في صحيحة الفضيل السؤال عن الذراعين من المرأة هما من الزينة التي قال الله (قدس سرهما): ﴿ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾ فأجاب (علیه السلام): (نعم).

يقول السيّد (قدس سره): إنَّ الأولى صريحة في أنَّ السؤال عن القسم الأوَّل من الآية الكريمة دون القسم الآخر، مقصود السائل هو السؤال عن تفسير الزينة الظاهرة التي لا يحرم الكشف عنها في نفسها، ودلّت الأخرى على حرمة إبداء الذراعين لغير الزوج ومن ذكر بعده.

ويمكن الخدش فيما ذكره (قدس سره)، والوجه فيه:

أوّلاً: أنَّ السؤال في معتبرة أبي بصير يتعلّق بالمستثنى أي ما ظهر منها، فأراد أبو بصير أن يسمع تفسيره من الإمام (علیه السلام)، والسؤال الآخر وقع عن حدود المستثنى منه وهل إنَّه شامل للذراعين أو لا؟ فأجاب الإمام (علیه السلام) بدخولهما فيه، فلا يستفاد من الروايتين أنَّ الأولى تعرضت لبيان حكم جواز الكشف وعدمه في حدّ نفسه، والأخرى الكشف للرجال الأجانب.

وثانياً: يمكن أن يقال: إنّ صحيحة الفضيل تدلّ على عكس مدعى السيّد (قدس سره)؛ لأنَّ السؤال المذكور يكشف عن وجود ارتكازٍ في ذهن السامع على أنَّ هناك قسماً من الزينة لا يحرم على المرأة إبداؤه لغير الزوج والمحارم، وقد علم هذا الأمر في الجملة ويسأل عن تفصيله، وجواب الإمام (علیه السلام) تقرير لهذا الارتكاز، وإلّا لزجره، وقال: (جسم المرأة كلّه من الزينة التي قال الله فيها: ولا يبدين زينتهن إلّا لبعولتهن) ولم يكتفِ بقوله: (نعم).

وحينئذٍ تكون الصحيحة دالة على أنَّ الزينة المذكورة في جملة الذيل هي ما عدا

ص: 39

المستثنى في صدر الآية - أي الزينة غير الظاهرة - وهي حرام إبداؤها لغير الزوج والمحارم، فسأل الفضيل عن الذراعين بالخصوص وهل هما من الزينة الظاهرة التي يجوز إبداؤها للأجانب أيضاً، أو من غير الظاهرة التي لا يجوز إبداؤها إلَّا للزوج والمحارم؟

هذا هو التقريب الأوَّل لاستنطاق هذه الفقرة من الآية للدلالة على حرمة نظر الأجنبيّ إلى وجه المرأة وكفَّيها، وقد تبيّن من خلال البحث المتقدّم عدم تماميّته.

التقريب الثاني

أنَّ قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ دلّ على حرمة إظهار الزينة، والمراد من الزينة هو معنى عامّ يشمل ما تتزيّن به المرأة، ويشمل مواضع الزينة أيضاً فيحرم على المرأة الكشف عن جسمها مطلقاً. والمراد من قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ هي الأعضاء التي تظهر بسبب عدم الالتفات بدون قصد، كما يقع عند الركوب والنزول عن المركب وغيره بإطارة الريح مع التحفّظ والأمن من الناظر حيث تظهر بعض الأعضاء خارج الاختيار فيكون الاستثناء منقطعاً؛ لأنَّه استثناء لما هو خارج الاختيار وإن كانت مقدّماته اختياريّة، لكن الشارع تفضّل وسمح بخروج النساء وإن استلزم أحياناً الكشف عن بعض الأعضاء مع التحفُّظ بالستر، فتكون الدلالة على حرمة الإبداء آكد لاستيعاب المستثنى منه، فتكون هذه الآية دالّة على حرمة الكشف عن كلّ جسم المرأة إلَّا إذا ظهر ما يظهر عند الضرورة، أو بدون قصد كما قد يقع هذا في الوجه واليدين.

وهذا التقريب للاستدلال ورد في كتاب إثبات الحجاب للسيّد عليّ نقيّ النقويّ نقلاً عن السيّد الكشميري (قدس سره) (1)، وأيضاً جاء في كلمات المحقّق الداماد (قدس سره) (2).

ص: 40


1- يلاحظ: إثبات الحجاب (باللغة الأوردية): 44.
2- يلاحظ: كتاب الصلاة: 2/ 42.

وهذا التفسير للاستثناء لا يمكن الالتزام به؛ وذلك..

أوَّلاً: - مضافاً إلى أنَّه لا معنى لأنْ يقال يحرم على النساء الكشف عن جميع بدنهن أمام الناظر الأجنبيّ إلَّا ما ظهر بدون قصد، بل لضرورة، أو قهر، فإنَّ هذا لا يحتاج إلى بيان - أنَّ هذا خلاف ظاهر لفظ الآية، فإنَّها ظاهرة في الاستثناء عن الزينة - التي هي متعلّق الحكم - لا عن الحكم.

وهذا الوجه من التفسير يرجع إلى أنَّه استثناء عن الحكم بالحرمة. نعم، لو كان لفظ الآية هكذا (يحرم على النساء الكشف عن زينتهن إلّا ما ظهر) لكان لهذا الاحتمال وجه، ولكن التعبير المذكور في الآية بعيد كلّ البعد عن أداء هذا المعنى.

وثانياً: أنَّ السيّد (قدس سره) بنفسه فسّر الاستثناء بالزينة الظاهرة مثل الخاتم والكحل على تقدير أن يكون المراد من الزينة ما تتزيّن به المرأة، وهذا يناقض ما اختاره على التقدير الأوَّل في تفسير كلمة الزينة؛ لأنَّه على أيّ تفسير لهذه الكلمة يكون المراد من الاستثناء: إمّا هو ما يظهر بلا قصد واختيار، أو ما هو ظاهر بطبيعته سواء كان المراد هو الأعضاء أم الحلي، فقوله الآخر يؤيّد ما أوردناه على قوله الأوَّل.

وثالثاً: أنَّ هذا التفسير ينافي الروايات الواردة في تفسير هذه الآية كما سوف نبحث عنها في أدلّة القول الثاني.

ورابعاً: أنَّه لا يبقى وجه مناسب لقوله تعالى: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ﴾ مع الفقرة الأولى على هذا التفسير، فإنَّه على تقدير دلالتها على حرمة الكشف عن أيّ شيء من بدنها لا وجه للأمر بضرب الخمر على الجيوب إلَّا مجرّد التأكيد، وهو خلاف الظاهر.

ص: 41

التقريب الثالث

ما نقله الخواجوئي (قدس سره) في رسائله الفقهية(1) عن تفسير البيضاوي وارتضاه.

توضيحه ببيان منّا: أنَّ قوله تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ يدلّ على حرمة إظهار الحلي والثياب والأصباغ للأجانب فبالأولويّة يدلّ على حرمة إظهار شيء من جسدها، والمراد من الاستثناء في قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ هو عدم وجوب ستر ما يظهر منها عند مزاولة الأشياء كالثياب والخاتم فإنَّ في سترها حرجاً. وأمّا تفسيره عن البعض بالوجه والكفَّين فهو في الصلاة لا في النظر.

وفيه وجوه من الإشكال:

الأوَّل: أنَّه مبني على أنَّ المراد من الزينة في قوله تعالى: ﴿زِينَتَهُنَّ﴾ هو الزينة الخارجيّة فقط، وقد عرفت ما فيه.

الثاني: ليست هناك أولويّة قطعيّة لحرمة إظهار الوجه والكفَّين من حرمة الكشف عن الحلي والأصباغ، فإنَّه لا مانع من تحريم الشارع الآخر فقط دون الأوَّل.

الثالث: لو سلّمنا الأولويّة القطعيّة تنزّلاً فإنَّما نسلّمها لو كان إظهار مطلق الزينة الخارجيّة محرّماً، لكنّه قد وجد الاستثناء لبعض أقسامها من هذا الحكم، ومعه لا وجه لدعوى الأولويّة.

الرابع: لا معنى لكون تفسير قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ بالوجه والكفَّين أنَّه تفسير له في مقام الصلاة، فإنَّ الآية تعرّضت لوجوب الستر عن الناظر، لا حكم لباس المرأة في الصلاة، بقرينة صدر الآية وذيلها، فمَن فسّر الاستثناء بهذا التفسير فمقصوده الاستثناء عن حكم الستر أمام الناظر الأجنبيّ.

ص: 42


1- يلاحظ: الرسائل الفقهيّة (رسالة في حرمة النظر إلى وجه الأجنبيّة): 1/ 43.

الخامس: لو سلّمنا هذا التفسير في حدّ نفسه، إلَّا أنَّه ينافي ما جاء في الروايات المفسِّرة لهذه الآية من جواز الكشف عن الوجه واليدين للأجنبيّ، كما سيأتي البحث عن هذه الروايات في أدلّة القول الثاني.

إلى هنا تبيّن أنَّ الاستدلال بهذه الآية على الحرمة لم يتمّ بجميع تقريباته.

الآية الثانية
اشارة

قوله سبحانه وتعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾(1).

وممّن استدلّ بهذه الآية المحقّق الداماد(2) ومحصَّل ما قرّب به الاستدلال بالآية هو: أنَّ الغضّ معناه الكسر والإطراق، فيكون التعبير بغضّ البصر مبالغة في عدم جواز النظر إلى ما لا يجوز النظر إليه، وما يجب غضّ النظر عنه هو مطلق غير المماثل، وعورة المماثل، وتعيين متعلق الغضّ بهذا المذكور مع عدم ذكره صراحة لأمرين:

الأوّل: بقرينة مقابلتها لقوله تعالى: ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾(3) فبإطلاقها تشمل جميع البدن.

والآخر: بمعونة الروايات الواردة في تفسير هذه الآية، فالآية تأمر بالغضّ عن غير المماثل مطلقاً بدون استثناء شيء من جسده، ولا يشمل النظر إلى كلّ شيء مثل الحيوانات والجمادات؛ لأنَّها خارجة تخصّصاً بمناسبات الحكم والموضوع وبقرينة مقابلة الآيتين، فلا يقال: إنَّ دعوى الإطلاق في الآية تستلزم تخصيص الأكثر، ولا يفرق في الاستدلال بالآية كون (من) زائدة، أو بيانيّة، أو تبعيضيّة.

ص: 43


1- سورة النور: 30.
2- يلاحظ: كتاب الصلاة: 1/ 24 - 25.
3- سورة النور: 31.

نعم، هذه الآية لمّا دلّت بإطلاقها على حرمة النظر إلى وجه وكفَّي المرأة الأجنبيّة فهي صالحة لأن تقيَّد إذا وجد المقيّد لها من هذه الجهة، كما وجد بعض التقييدات الأخرى(1).

ولكن هذا الاستدلال ضعيف لتوجّه عدّة إيرادات عليه..

الإيراد الأوَّل

أنَّ الآية في حدّ نفسها مجملة من جهة ما يجب غضّ النظر عنه، فإنَّ هنا احتمالات:

الأوَّل: أنْ يغضّوا أبصارهم عن فرج الغير، فيكون مقتضى الآية حرمة النظر إلى فرج الغير، ووجوب حفظ فرجه عن نظر الغير. وعلى هذا الاحتمال فالآية لا تصلح للاستدلال على المدّعى كما هو واضح.

الثاني: أنْ يغضّوا أبصارهم عن كلّ ما حرّم الله النظر إليه، فالآية دلّت على حرمة النظر إلى كلّ ما حرم النظر إليه، وأمّا ما هو الذي حرّم الله النظر إليه فلا دلالة لها عليه، وإنَّما يستفاد من مقام آخر. وهذا الاحتمال - أيضاً - يمنع الاستدلال بالآية.

الثالث: أنْ يغضّوا البصر عن كلّ شيء، فالآية مطلقة من جهة أنَّ حذف المتعلّق دليل العموم، فتكون موارد جواز النظر الثابت بالدليل خارجة عنها تخصيصاً. وهذا الاحتمال إذا بني عليه يتمّ الاستدلال بالآية على المدّعى.

الرابع: أنْ يغضّوا أبصارهم عن النساء - مطلقاً - وفروج الرجال. وهذا الاحتمال هو الذي اعتُمد عليه في الاستدلال بالآية، وحينئذٍ الآية تدلّ على حرمة النظر إلى النساء مطلقاً فيخرج عنها ما يخرج بالمخصِّص.

ويمكن أن يدّعى أنَّ الاحتمال الثاني هو أقرب إلى لفظ الآية، فيكون مفاد الآية هو

ص: 44


1- يلاحظ: كتاب الصلاة: 2/ 24.

وجوب غضّ النظر عن كلّ ما حرّم الله النظر إليه، وما ثبتت حرمته هو النظر إلى فروج الرجال وأجسام الأجنبيّات ما عدا الوجه والكفَّين إذا لم يكن بقصد التلذُّذ أو خوف الفتنة، وإلَّا يحرم مطلقاً، فحينئذٍ لا إطلاق للآية حتّى يتمسّك به لإثبات حرمة النظر إلى ما يشكّ في حرمة النظر إليه.

وهذا الاحتمال له ما يؤيّده من الداخل ومن الخارج..

أمّا المؤيّد الداخلي فهو أنَّ الآية - مضافاً إلى تعرّضها لحكم النظر إلى فرج المماثل - جاءت في سياق أحكام الحجاب وتعامل الصنفين فيما بينهما من هذه الجهة، فمن المناسب أن تكون ناظرة إلى حكم النظر إلى غير المماثل، مضافاً إلى النظر إلى فرج المماثل، وهذا الأمر وإن كان يتناسب مع الاحتمال الثالث والرابع أيضاً ولكنّه لمّا لا يصحّ الالتزام بهما لعدم إمكان الالتزام بالإطلاق، كما سيأتي في مناقشة هذين الاحتمالين يكون مؤيّداً للاحتمال الثاني.

وأمّا المؤيّد الخارجي فهو من وجوه..

أوَّلها: أنَّ أغلب مَن تعرّض لتفسير الآية من المفسّرين سواء من العامّة(1) أو من الخاصّة(2) اختار هذا الاحتمال.

ثانيها: كثير من الفقهاء استدلّوا بها على حرمة النظر في موارد ثبتت حرمة النظر فيها بأدلّة أخرى، مثلاً: الشيخ الطوسي في المبسوط تمسّك بها لإثبات حرمة النظر إلى ما

ص: 45


1- يلاحظ: تفسير الكشّاف: 3/ 229، روح المعاني: 9/ 333، تفسير المراغي: 8/ 97.
2- يلاحظ: التبيان في تفسير القرآن: 7/ 428، تفسير مجمع البيان: 7/ 217، الأصفى في تفسير القرآن: 2/ 843، زبدة البيان في أحكام القرآن: 541، كنز العرفان في فقه القرآن: 2/ 220، الميزان في تفسير القرآن: 15/ 110.

هو عورة من المرأة، وهو ما عدا الوجه والكفَّين(1). والعلّامة في التذكرة استدلّ بها على حرمة النظر مع خوف الفتنة، لا مطلقاً(2). وفخر المحقّقين في الإيضاح استدلّ بها على الحرمة إذا كان بقصد التلذُّذ وخوف الفتنة(3)، مع أنَّهما ذهبا إلى حرمة النظر إلى الأجنبيّة مطلقاً، ولكن لم يستفيدا هذا الإطلاق من هذه الآية.

بل بعضهم اقتصر في الاستدلال بها على حرمة النظر إلى الفروج فقط، كابن سعيد في الجامع(4)، والصدوق في الفقيه(5). ولم أجد من الفقهاء إلى القرن الثالث عشر - فيما تتبّعت - من تمسّك بإطلاق هذه الآية لإثبات حرمة النظر إلى مطلق بدن المرأة.

ثالثها: أنَّ الرواية الواردة في شأن نزول هذه الآية تؤيّد أنَّ الأمر بالغضّ ورد في مورد النظر المحرّم، وهي معتبرة سعد الإسكاف عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (استقبل شابٌّ من الأنصار امرأة بالمدينة وكان النساء يتقنّعن خلف آذانهن فنظر إليها وهي مقبلة، فلمّا جازت نظر إليها، ودخل في زقاق - قد سمّاه ببني فلان - فجعل ينظر خلفها، واعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشق وجهه، فلمّا مضت المرأة فإذا الدماء تسيل على صدره وثوبه، فقال: والله لآتينّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ولأخبرنّه، قال: فأتاه فلمّا رآه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال له: ما هذا؟ فأخبره فهبط جبرئيل (علیه السلام): ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ﴾)(6)، فمورد

ص: 46


1- يلاحظ: المبسوط: 4/ 160.
2- يلاحظ: تذكرة الفقهاء: 2/ 573 (ط. ق).
3- يلاحظ: إيضاح الفوائد: 3/ 6.
4- يلاحظ: الجامع للشرائع: 63.
5- يلاحظ: من لا يحضره الفقيه: 2/ 627.
6- الكافي: 5/ 521، باب ما يحلّ النظر إليه من المرأة، ح: 4.

النزول فيه خصوصيّتان:

الأولى: أنَّ النساء كنّ يتقنعنّ خلف آذانهن، وهذا يوجب كشف بعض الشعر وأطراف الوجه إلى الآذان، والنظر إليهما حرام.

والأخرى: أنَّه لم يكن من الأنصاري مجرّد نظر، بل غرق في هذا النظر حيث لم يشعر بما أصابه من الجرح الحاصل من الاصطدام بالعظم أو الزجاجة إلَّا بعد غياب المرأة، وهكذا نظر لا يفارق - عادة - قصد التلذُّذ فيكون حراماً، فهذا المورد كان مورد النظر الحرام مع قطع النظر عن هذه الآية.

فهذه الرواية تؤيّد هذا الاحتمال من جهةٍ أنَّ الآية ليست آمرة بغضّ النظر عن الفروج فقط. ومن جهة أخرى أنَّ الأمر بالغضّ نزل في مورد النظر الحرام، ولكنّه مجرّد مؤيّد وإلَّا فالمورد لا يخصّص الوارد.

وبهذا المعنى فسّرت الآية في بعض الروايات، كما في خبر أبي عمرو الزبيريّ، عن الصادق (علیه السلام) قال: قال (علیه السلام): (وفرض على البصر أن لا ينظر إلى ما حرّم الله عليه وأن يعرض عمّا نهى الله عنه، ممّا لا يحلّ له وهو عمله، وهو من الإيمان، فقال تبارك وتعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾، فنهاهم أن ينظروا إلى عوراتهم، وأن ينظر المرء إلى فرج أخيه، ويحفظ فرجه أن ينظر إليه)(1).

والمراد من العورات ما يجب ستره عن نظر الغير، وهذا الإطلاق وإن شمل المرأة الأجنبيّة فيجب غضّ النظر عنها، ولكن بمقدار ما يصدق من بدنها أنَّه عورة، والثابت المتيقّن كونه عورةً هو ما عدا الوجه والكفَّين، فمفاد الرواية هو أنَّ الآية أوجبت الغضّ

ص: 47


1- الكافي: 2/ 35، باب في أنّ الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلّها، ح: 1.

عن كلّ ما قد ثبت أنَّه عورة، وعن فروج الآخرين، ويحتمل أن يكون قوله (علیه السلام): (وأن ينظر المرء إلى فرج أخيه) عطف تفسير للجملة الأولى، فتكون الرواية مؤيّدة للاحتمال الأوَّل.

وهذا المعنى هو ظاهر بعض الروايات الأخرى، مثل مرسلة الصدوق عن عليّ (علیه السلام) في وصيّته لابنه محمّد ابن الحنفيّة: (وفرض على البصر أن لا ينظر إلى ما حرّم الله عزّ وجلّ عليه، فقال عزّ من قائل: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ فحرّم أن ينظر أحد في فرج غيره)(1).

فاستدلّ الإمام (علیه السلام) بهذه الآية على حرمة النظر إلى فروج الآخرين.

فيمكن أن يدّعى أنَّ الآية ظاهرة في الاحتمال الثاني، وعلى الأقلّ فهي مردّدة بين الأوَّل والثاني، فلا يصحّ الاستدلال بها لإثبات المدّعى، الذي هو الاحتمال الرابع من بين هذه الاحتمالات.

وعلى هذا لا وجه لحمل الآية على الاحتمال الثالث أي الغضّ عن كلّ شيء لوجود أكثر من قرينة على التقييد، ولزوم التخصيص بالأكثر المستهجن لو حملت عليه.

ودون الاحتمال الثاني في القوة الاحتمال الأوَّل، والوجه في قوّته مقابل الاحتمالين الثالث والرابع: هو أنَّ لفظ الآية وإن كان مطلقاً - أي غضّ البصر - بلا تعيين ما يغضّ عنه البصر، ولكنّه وجد ما يصلح قرينة على تعيّنه في الفروج، وهي قوله سبحانه: ﴿وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ فمن المحتمل أنَّ المراد من الجملتين هو الأمر بحفظ الفروج عن أبصار الآخرين، والأمر بغضّ النظر عن فروج الآخرين.

ص: 48


1- من لا يحضره الفقيه: 2/ 627، ح: 3215.

وأمّا الاحتمال الرابع فهو مجرّد احتمال لا قرينة عليه؛ لأنَّه لا هو تمسّك بإطلاق اللفظ، ولا هو تقييد بمقدار ما قامت عليه القرينة.

وبالنظر إلى هذا اعترف بعض مَن ذهب إلى هذا القول بعدم إمكان الاستدلال بهذه الآية على حرمة النظر إلى وجه الأجنبيّة وكفَّيها، وعلّل عدم إمكان الاستدلال بالآية: بأنَّ الاستدلال بها على هذا المدّعى يتوقّف على أن يكون وجه المرأة وكفَّاها من المبصرات التي وجب غضّ البصر عنها، ويحرم النظر إليها(1).

وأيضاً ناقش السيّد الحكيم (قدس سره) (2) في الاستدلال بهذه الآية من جهة أنَّ غضّ البصر أعمّ من ترك النظر، ومن جهة أنَّ هذا العموم مقيّد بما دلّ على جواز النظر إلى وجه المرأة وكفَّيها، وإن كان (قدس سره) قد مال إلى الحرمة.

وكذلك السيّد الخوئي (قدس سره) رفض الاستدلال بهذه الآية على المدّعى مدّعياً أنَّه لا تستفاد الحرمة من الآية، ومع الغضّ عنه لا إطلاق لها يشمل المورد(3).

الإيراد الثاني

أنَّه ادّعى وجود روايات تدلّ على أنَّ المراد من الآية هو المعنى الذي اختاره، ثُمَّ ذكر روايتين للوصول إلى مرامه:

الأولى: خبر الزبيريّ المتقدّم(4) في تأييد الاحتمال الثاني، وفسّر لفظ (عورات) في الرواية ب-(النساء) قائلاً: إنَّ إطلاق العورة على المرأة شائع.

وهذا كلام ضعيف؛ لأنَّه قد تقدّم أنَّ هذه الرواية تؤيّد الاحتمال الأوَّل على تقديرٍ،

ص: 49


1- يلاحظ: الخواجوئي في رسائله: 1/ 41.
2- يلاحظ: مستمسك العروة الوثقى: 14/ 29.
3- يلاحظ: موسوعة الإمام الخوئيّ: 12/ 69.
4- تقدّم في الصفحة 47.

والاحتمال الثاني على تقديرٍ آخر؛ لأنَّ كلمة (العورة) الواردة في الروايات إمّا قصد منها القبل والدبر، كما هو الإطلاق الشائع فيها، وإمّا هو مطلق ما يجب على الإنسان أنْ لا يُطْلِع الغيرَ عليه من عيوبه ونقائصه وحرمته وأسراره، فإنَّه قد ورد إطلاق لفظ العورة على هذا المعنى، كما لعلّه يظهر من صحيحة إسحاق بن عمار عن الصادق (علیه السلام)، قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): لا تتبعوا عوراتهم - المسلمين - فإنَّه من تتبّع عوراتهم تتبّع الله عورته)(1). وغيرها من الروايات الكثيرة.

فعلى الإطلاق الأوَّل تؤيّد الاحتمال الأوَّل، وعلى الإطلاق الثاني تؤيّد الاحتمال الثاني؛ لأنَّ هذا المعنى المطلق يشمل نظر الرجل إلى نساء الآخرين؛ لأنَّها من عوراتهم، لكنّه - كما قلنا - بمقدار ما ثبت من بدن المرأة أنَّه عورة.

أمّا الإطلاق الثالث - وهو أنَّ المراد من العورات هو النساء - فهو وإن ورد في بعض الروايات، كما في معتبرة سماعة بن مهران عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: (اتقوا الله في الضعيفين - يعني بذلك اليتيم والنساء - وإنَّما هنّ عورة)(2).

ولكن - مضافاً إلى أنَّه إطلاق قليل مقابل الإطلاق الأوَّل والثاني وليس شائعاً كما ادّعى؛ فإنَّ المتمثّل بكثرة في الروايات هو الإطلاق الأوَّل والثاني لا الثالث - يستبعد في المقام إرادته؛ لأنَّ الإمام (علیه السلام) في مقام بيان الفرض الذي فرضه الله على البصر، وهو أن لا ينظر إلى ما حرّم الله النظر إليه، فالذي ينسجم مع هذا الكلام هو أن يكون المراد من قوله (علیه السلام): (فنهاهم عن أن ينظروا إلى عوراتهم) هو مطلق ما يحب الإنسان عدم إطلاع غيره عليه، أو خصوص الفروج بقرينة ما عطف عليه.

ص: 50


1- الكافي: 2/ 354، باب من طلب عثرات المؤمنين وعوراتهم، ح: 2.
2- الكافي: 5/ 511، باب حقّ المرأة على الزوج، ح: 3.

ثُمَّ إنَّ هذه الرواية لا تصلح للاعتماد عليها؛ لضعفها سنداً من جهة (بكر بن صالح) فإنَّه ضعيف(1)، ومن جهة الزبيري فإنَّه مجهول(2).

ومن الغريب جداً ما دُفعَ به الإشكال السندي، حيث قيل: (إنَّ الضعف السندي لا يضرّ؛ لأنَّ جملة (فنهاهم أن ينظروا إلى عوراتهم) لو فرضناها مجعولة على الإمام (علیه السلام)، لكنّها لا تكون خلاف قواعد اللغة العربية)(3).

ومقصوده (قدس سره) من هذا الكلام أنَّ هذا الكلام يثبت مطلقاً حتّى لو فرضنا أنَّه لم يصدر عن الإمام (علیه السلام) إطلاق العورة على المرأة في اللغة العربية، وإلَّا يلزم التكرار في ذكر الفروج.

ووجه الغرابة: هو أنَّه على تقدير الجعل فغاية ما يثبت معه صحّة إطلاق العورة على النساء عند العرب، لكنّه حينئذٍ كيف يثبت أنَّ لفظ الآية شامل لغضّ البصر عن العورات مضافاً إلى الفروج مع احتمال أنَّ هذه إضافة من الراوي؟! والمقصود إثباته هو هذه التوسعة والشمول في لفظ الآية.

هذه هي الرواية الأولى.

أمّا الرواية الثانية - التي تمسّك بها - فهي معتبرة سعد الإسكاف التي تقدّمت(4) وقلنا أنَّها وردت في شأن نزول هذه الآية، وبعد ما ذكر هذه الرواية قال: فإنَّ ورود الآية في مورد نظره إليها شاهد على أنَّها تنهى عن النظر.

ص: 51


1- يلاحظ: فهرست أسماء مصنّفي الشيعة (رجال النجاشيّ): 109.
2- يلاحظ: فهرست أسماء مصنّفي الشيعة (رجال النجاشيّ): 220.
3- كتاب الصلاة/ تقرير بحث المحقّق الداماد: 337.
4- تقدّمت في الصفحة 46.

لكنّك قد عرفت أنَّ المذكور فيها ليس مطلق النظر، بل النظر الموجب لتركيز الناظر فيما ينظر إليه حيث غفل تماماً عمّا كان في الطريق ممّا يمكن أن يحصل له، وهذا لا يفارق التلذُّذ والريبة عادة، وكذلك لا يعلم أنَّ نظر الشاب كان إلى وجه المرأة فقط، بل كانت النساء آنذاك يتقنعن خلف الآذان، فلعل نظره كان إلى ما يحرم النظر إليه ولو بدون قصد التلذُّذ، وهي مواضع أطراف الوجه القريبة إلى الآذان وشيء من الشعَر والآذان نفسها، فلا يصح الاستدلال بها على وجوب الغضّ عن وجه وكف المرأة الأجنبيّة.

الإيراد الثالث

الاستدلال على هذا المدّعى بهذه الآية مبنيٌّ على أنَّ مفاد قوله تعالى: ﴿يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ هو أن لا تنظروا، وهذا يمكن أن يناقش فيه: بأنَّ معنى الغضّ لغة هو النقصان من طرف الشي سواء كان صوتاً أو بصراً أو غير ذلك كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ ۚ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾(1).

ويقال: غضّضت السقاء أي نقصت ممّا فيه، وفي المثل يقال: (مات فلان ببطنته لم يتغضغض منها شيء. أي لم ينقص)(2).

هكذا ذكر في معجم مقاييس اللغة، والمفردات في مادة (غضّ)(3).

قال في العين: (الغضّ والغضاضة: الفتور في الطرف)(4)، وفي تهذيب اللّغة: (قال

ص: 52


1- سورة الحجرات: 3.
2- مجمع الأمثال: 2/ 221.
3- معجم مقاييس اللغة: 4/ 383، مفردات ألفاظ القرآن: 606.
4- العين: 4/ 341.

الليث: الغضّ والغضيضة: الفتور في الطرف. ويقال: (ما أردت بذا غضيضة فلان ولا مَغَضَّتَه كقولك: ما أَردت نقيصته ومَنْقَصَته).

ثُمَّ قال: (قال الله جلّ وعزّ: ﴿وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ﴾، أي: اخفض الصوت، وغضّ الطرف: أي كفّ النظر)(1)، وهكذا في المحيط(2).

وعلى هذا ليس المعنى المراد من الأمر بغضّ البصر هو عدم النظر، بل المراد هو إيجاد النقص في حدود ما يمكن أن ينظر إليه الإنسان، فهو في قوّة النهي عن إرسال البصر بلا حدود، فالمطلوب هو تضييق دائرة جولان البصر، فهو يشبه أن يكون حكماً أخلاقيّاً؛ لإبعاد المكلف عن الوقوع في الحرام، فإنَّ إرسال النظر يجرّ الإنسان إلى ما لم يكن يريده من الأوَّل من الوقوع في النظر المحرم، فلأجل التجنُّب عنه أمرنا بتحديد جولان النظر، فلا دلالة فيها على حرمة النظر من الأساس على هذا الاحتمال حتّى نبحث عن متعلّقه.

ومن هنا اتّضح وجه مجيء كلمة (من) بين الغضّ والبصر؛ وهو أنَّه لما كان المراد جعل الحدّ من طرف البصر لا مطلق كفّ البصر وغمضه احتيج إلى (من) التبعيضيّة حتى تدلّ على أنَّ المطلوب هو النقص عن بعض البصر، والنقص في أطراف البصر لا يتحقق إلَّا بترك النظر إلى بعض المبصرات.

فتحصَّل: أنَّ مفاد الآية هو وجوب ترك النظر إلى ما حُرّم النظر إليه، فلا يتمُّ الاستدلال بها على المدّعى؛ لأنَّ ما نحن فيه - وهو وجه المرأة وكفَّاها - لم يثبت كونه ممّا يحرم النظر إليه، أو هو مجرّد حكم أخلاقيّ مقدّميّ للاجتناب عن الوقوع في الحرام.

ص: 53


1- تهذيب اللّغة: 8/ 7.
2- يلاحظ: المحيط في اللّغة: 4/ 496.
الآية الثالثة

قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾(1).

استدلّ بها على الحرمة الخواجوئي(2)، والسيّد البروجردي (قدس سرهما) (3) مفسّراً الجلباب بأنَّه ثوب يغطي رأس المرأة ووجهها، وكذلك ما جاء عنه (قدس سره) (4) - نقلاً عن الكشّاف - من أنَّ (يدنين) إذا تعدّت ب-(على) يكون معناها الإرخاء والإسدال، ولا معنى لإرخاء الجلباب إلَّا ستر الوجه.

ويمكن المناقشة في هذا الاستدلال من وجوه..

الوجه الأوَّل: أنَّه مبنيّ على أنَّ الجلباب هو ثوب يغطّي رأس المرأة ووجهها، وهذا غير ثابت؛ لأنَّ كلمة (الجلباب) وإن اختلف في تفسيرها، لكنّه يبدو بالنظر إلى أقوال أهل اللّغة واستعمال هذه الكلمة في الروايات وكلام العرب أنَّه ثوب أوسع من الخمار يشبه العباءة يغطي جسد الإنسان أو معظمه من فوق الثياب وإن كثر استعماله في حقّ المرأة.

قال في لسان العرب: (الجِلْبابُ: ثوب أَوسَعُ من الخِمار، دون الرِّداءِ، تُغَطِّي به المرأَةُ رأْسَها وصَدْرَها، وقيل: هو ثوب واسِع، دون المِلْحَفةِ، تَلْبَسه المرأَةُ، وقيل: هو المِلْحفةُ)(5).

ص: 54


1- سورة الأحزاب: 59.
2- يلاحظ: رسائل فقهية: 1/ 51.
3- يلاحظ: تبيان الصلاة، تقرير بحث السيّد البروجرديّ للشيخ الصافي كلبايكانيّ: 3/ 249.
4- يلاحظ: تبيان الصلاة: 1/ 57.
5- لسان العرب: 1/ 272.

وقال في القاموس: (الجلباب: القميص، وثوب واسع للمرأة دون الملحفة، أو ما تغطّي به ثيابها من فوق كالملحفة)(1).

وقال ابن الأثير: (الجلباب: الإزار والرداء، وقيل: الملحفة، وقيل: هو كالمقنعة تغطّي به المرأة رأسها وظهرها وصدرها، وقيل غير ذلك)(2).

وقال الخليل: (الجلباب: ثوب أوسع من الخمار دون الرداء، تغطّي به المرأة رأسها وصدرها)(3).

وذكر في تهذيب اللغة خمسة أقوال في الجلباب، وليس فيها القول بأنَّه يغطّي الوجه(4)، ويمكن مراجعة الصحاح(5)، ومعجم مقاييس اللّغة(6)، والفائق(7) وغيرها من كتب اللّغة.

وأمّا الروايات فهي ما يلي:

1. معتبرة علي بن عقبة بن خالد، قال: (دخلت أنا ومعلّى بن خنيس على أبي عبد الله (علیه السلام) فأذن لنا وليس هو في مجلسه، فخرج علينا من جانب البيت من عند نسائه، وليس عليه جلباب)(8). فهي تدلّ على أنَّه ثوب مشترك بين الرجل والمرأة ولا يستر الوجه.

ص: 55


1- القاموس المحيط: 1/ 47.
2- النهاية في غريب الحديث والأثر: 1/283.
3- العين: 6/ 132.
4- يلاحظ: تهذيب اللّغة: 11/ 64.
5- يلاحظ: الصحاح: 1/ 101.
6- يلاحظ: معجم مقاييس اللّغة: 1/ 470.
7- يلاحظ: الفائق في اللّغة: 1/ 199.
8- المحاسن: 1/ 169.

2. القول المأثور عن عليّ (علیه السلام) لمَن قال له: إنّي لأحبّك في السرّ كما أحبّك في العلانية. قال: (اتّخذ للفقر جلباباً). كما في معتبرة الأصبغ في البصائر(1)، وغيرها من الكتب الحديثيّة، فلو كان هذا الثوب من مختصّات المرأة لما حسن استعماله في مثل هذا المعنى.

3. مرسلة محمّد بن سنان، عن أبي عبد الله (علیه السلام) الواردة في قصة عابد من بني إسرائيل مع الشيطان، قال: (فقام [العابد] فدخل المدينة بجلابيبه)(2).

ولذا فسّر الطبرسي (قدس سره): كلمة (الجلباب) في تفسير هذه الآية: بالملاءة والمقنعة للمرأة، والإدناء بتغطيتهن جباههن ورؤوسهن(3).

والشيخ فسّره بخمار المرأة، وهي المقنعة تغطّي جيبها ورأسها(4).

فبالنظر إلى هذا كلّه من الصعب جدّاً إثبات أنَّ الجلباب هو ثوب يستر الوجه أيضاً، كما جاء في بعض التفاسير(5).

مضافاً إلى هذا نوقش في الاستدلال بهذه الآية:

تارةً: بعدم كون هذا الحكم إلزاميّاً بدعوى أنَّ ذيل الآية: ﴿ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ﴾، وما ذكر في شأن نزولها يقرّبان كون هذا الحكم أخلاقيّاً.

وأخرى: أنَّ هذا الحكم لم يثبت أنَّه دائمي، بل يحتمل أن يكون مؤقّتاً ينتهي بانتهاء

ص: 56


1- بصائر الدرجات: 1/ 391.
2- روضة الكافي: 8/ 385.
3- يلاحظ: مجمع البيان: 8/ 580.
4- يلاحظ: التبيان في تفسير القرآن: 8/ 361.
5- يلاحظ: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل: 3/ 560.

علّته المذكورة في الآية.

وثالثة: لا نعلم بعموم الحكم لجميع النساء، بل كان لطائفة معيّنة، ولمزيد الاطّلاع على هذه الإشكالات يمكن مراجعة كتاب الصلاة للمحقّق الداماد(1)، وما ذكر في كتاب النكاح للسيّد الشبيريّ الزنجانيّ(2)، نقلاً عن الشهيد مطهري.

ونحن لسنا بحاجة إلى الخوض في هذه الإشكالات للغنى عنها بالإشكال الأوَّل فهو العمدة في المقام.

إن قلت: هب أنَّ الجلباب وحده لا يستلزم تغطية الوجه، ولكن الآية أمرت بإدنائه متعدياً ب-(على) ولا معنى له إلَّا تغطية الوجه.

أقول: لا ينحصر تفسير إدناء الجلباب على بدن المرأة بإسداله على وجهها، بل هذا مجرّد احتمال مقابل احتمال أن يكون المقصود ستر جميع بدنها ما عدا الوجه والكفَّين، واحتمال أنَّ المراد هو إحكامه وإلصاقه مع الجسم حتّى لا يبتعد عن البدن بالهواء والحركة فينكشف للناظر ما يجب ستره عنه.

وعلى الأوَّل يكون معنى الآية: أن يقرّبن الجلباب من أبدانهنّ محيطاً على الجسم كلّه الذي يجب ستره عن الأجانب. وقد استعمل هذا التعبير في هذا المعنى في بعض الآيات وكلام العرب، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا﴾(3)؛ أي قربت منهم الظلال محيطة بهم.

وقال الشاعر:

ص: 57


1- يلاحظ: كتاب الصلاة: 1/ 354، 2/ 52.
2- يلاحظ: كتاب النكاح: 2/ 472.
3- سورة الإنسان: 14.

ولمّا دنا عالي ركابك هزّني *** إليك اشتياق ضاع في جنبه صبري(1)مقصوده أنَّه عندما اقترب مجيئك منّي سيطر على مشاعري.

وقال ساعدة بن جويّة واصفاً جبلاً:

إذا سَبَلُ العَماء دَنا عليه *** يَزِلُّ بِرَيْدِه ماءٌ زَلولُ(2)

أي إذا دنا منه مطر السحاب غطّاه.

وما ذكره السيّد عليّ نقيّ النقويّ(3) - من أقوال المفسّرين من العامّة والخاصّة القائلة بأنَّ إدناء الجلباب على البدن معناه إسداله وستر الوجه به - لا ينفع؛ لأنَّه اجتهاد منهم بلا شاهد من اللّغة العربيّة، ولم أجد مثل هذا الاستعمال لأداء هذا المعنى في الروايات ولا في الأدب العربيّ حسب التتبّع.

فالمحصَّل: أنَّ كلمة (الجلباب) ليست اسماً لثوب يستر الوجه، ولا (إدنائه) متعدّياً ب-(على) يفيد هذا المعنى، فالاستدلال بالآية قاصر عن إثبات المدّعى، بل وجه التعدّي ب-(على) هو بيان لكون (الجلباب) يغطي بدنها.

والمؤيّد لما اخترناه من المعنى: هو أنَّ الحكم في الآية معلّل بقوله تعالى: ﴿ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ﴾، معناه أنَّ الحكمة وراء هذا الحكم هو حصول معرفة الحرائر عن الإماء، وهذا لا يقتضي أكثر من ستر الشعر والرقبة وإسدال الثوب الكبير على البدن، لأنَّه يحصل به التمييز بينهنّ وبين الإماء؛ لأنَّ الإماء لم يكنّ يلبسن الخمار زمان نزول الآية.

ص: 58


1- النكت العصريّة في أخبار الوزراء المصريّة: 1/ 136.
2- المحكم والمحيط الأعظم: 9/ 8 نقلاً عنه.
3- يلاحظ: إثبات الحجاب: 30 وما بعد.

ثُمَّ إذا سلّمنا دلالة هذا التعبير على إسدال الثوب وإرخائه فمن أين هذا التعيين بأن يكون الإسدال على الوجه بالخصوص؟ لِمَ لا يكون المراد إسدال الجلباب على الصدر والظهر إلى القدمين.

الآية الرابعة

<وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ> (1).

وهذه الفقرة جزء من الآية الأولى التي ذكرناها أوّلاً من سورة النور. وقد استدلّ بها على الحرمة السيّد عليّ نقيّ (قدس سره) قائلاً: (إنّ الآية أمرت بضرب الخمار وهو ثوب يستر الوجه كما يظهر من تتبع كلام العرب، قال المتنبي:

إنّي على شغفي بما في خمرها *** لأعف عمّا في سراويلاتها

والمراد (بما في خمرها) هو الوجه كما ذكر العكبري في شرح هذا البيت في التبيان.

وقال السيّد الرضي (رحمة الله):

أحنّ إلى ما تضمر الخمر والحلي *** وأصدف عمّا في ضمان المآزر

وقال: وما تضمّنه الخمر هو الوجه.

وقال القاضي أبو علي التنوخي:

قل للمليحة في الخمار المذهّب *** أفسدت نسك أخي التقى المترهّب

نور الخمار ونور خدك تحته *** عجباً لوجهك كيف لم يتلهّب

فجعل الخدّ تحت الخمار معناه أنَّ الخمار يستر الخدّ.

وقال المتنبي:

ص: 59


1- سورة النور: 31.

سفرت وبرقعها الحياء بصفرة *** سترت محاسنها ولم تك برقعا

قال العكبريّ في شرح هذا البيت: إنّ الشاعر يقول لمّا ألقت خمارها وأسفرت عن وجهها برقعها الحياء بصفرة، فلمّا يلزم من إلقاء الخمار الإسفار عن الوجه معناه الخمار يستر الوجه)(1).

ثم ذكر بعض الروايات استظهر منها أنَّها استعملت الخمار في ثوب ساتر للوجه، وأنّ الآية أمرت بضرب الخمار على الصدور حتّى لا يقتصر الخمار على حدود الوجه فيطير ويرتفع عن الوجه بالهواء أو الحركة، وأمّا إذا كان مسدلاً إلى الصدر فيبقى ساتراً في جميع الأحوال.

وعلى هذا تتمُّ دلالة الآية على وجوب ستر المرأة وجهها عن الأجانب(2).

أقول: هذه الآية أمرت النساء بضرب الخمر على جيوبهن واكتفت به، ولم تذكر الوجه، والمراد من الجيب هو النحر وما يليه من الصدر.

والخمار: هو ثوب تغطي به المرأة رأسها، وهذا هو ظاهر قول اللّغويين كما في مجمع البحرين(3)، وتهذيب اللّغة(4)، ولسان العرب(5)، والمصباح المنير(6)، وتاج العروس(7)،

ص: 60


1- إثبات الحجاب (باللغة الأوردية): 28.
2- يلاحظ: إثبات الحجاب (باللغة الأوردية): 28.
3- يلاحظ: مجمع البحرين: 3/ 294.
4- يلاحظ: تهذيب اللّغة: 7/ 162.
5- يلاحظ: لسان العرب: 4/ 257.
6- يلاحظ: المصباح المنير: 2/ 181.
7- يلاحظ: تاج العروس: 6/ 366.

والزاهر(1)، ومفردات الراغب(2)، والمغرب(3).

قال في جمهرة اللّغة: (الخمار: المقنعة ونحوها)(4)، والمقنعة ليست ممّا يستر الوجه. وعدّ الثعلبي الخمار من ملابس ستر الرأس نقلاً عن الفرّاء(5).

وقال الحميري: (الخمار: ما يلي الرأس)(6). وقال السعدي: (خمار المرأة: ثوب تغطي به المرأة رأسها)(7).

بل هذا هو ظاهر عبارة الخليل حيث قال: (الجلباب أوسع من الخمار دون الرداء تغطي به المرأة رأسها وصدرها)(8)، وهذا التعبير يدلّ على أنَّ الخمار أضيق من الجلباب حيث لا يصل إلى الصدر مثل الجلباب، بل يغطي الرأس والرقبة أو الجيب إلى حدّ أقصى، ويفهم منه أنَّه لا يستر الوجه، وإلّا كان ثوباً مغايراً للجلباب في الهيئة والتركيب، ولم يكن من المناسب جعل الجلباب أوسع من الخمار. ومثله عبارة الزمخشري في الفائق(9)، وابن سيده في المخصّص(10)، ولم أجد من اللّغويين من فسّر الخمار بثوب يستر

ص: 61


1- يلاحظ: الزاهر في معاني كلمات الناس: 1/ 408.
2- يلاحظ: المفردات للراغب: 298.
3- يلاحظ: المغرب: 1/275.
4- يلاحظ: جمهرة اللّغة: 1/592.
5- يلاحظ: فقه اللّغة: 269.
6- يلاحظ: شمس العلوم: 6/3785.
7- يلاحظ: القاموس الفقهي لغةً واصطلاحاً: 122.
8- يلاحظ: كتاب العين: 6/132.
9- يلاحظ: الفائق في اللّغة: 2/313.
10- يلاحظ: المخصّص: 4/ 39.

الوجه، بل ذُكر في البرقع أنَّه ثوب تغطي به المرأة وجهها(1)، وكذا في النقاب ذكر في لسان العرب (سفرت المرأة وجهها: إذا كشفت النقاب عن وجهها)(2).

وفي قباله هناك شواهد كثيرة على استعمال الخمار في ما كان ساتراً للرأس دون الوجه، وتقدّمت بعض الروايات التي استعمل فيها الخمار في هذا المعنى، وبعضها الآخر فيما يلي:

جاء في خبر جميع بن عمير، سألت عائشة: فما حملك على ما كان منك؟ (يقصد مبارزة عليّ (علیه السلام)) فأرسلت خمارها على وجهها وبكت(3).

وقال الشاعر جران العود:

وإذا ما انتضينا فانتزعتُ خمارها *** بدا كاهلٌ منها ورأسٌ صمحمحُ(4)

وفي تهذيب اللّغة: (أصل الجلع: الكشف، يقال: جلعت المرأة خمارها إذا كشفت عن رأسها)(5).

وقال الراجز:

تبدي نقياً زانها خمارها *** وقسطة ما شانها غفارها(6)

فهي كاشفة الوجه حيث يرى غفارها، وهو ميسم في الخد، مع أنَّها لابسة خمارها.

ص: 62


1- يلاحظ: شمس العلوم: 1/493.
2- لسان العرب: 4/ 370.
3- المحاسن والمساوئ: 1/ 137.
4- منتهى الطلب من أشعار العرب: 1/ 40.
5- تهذيب اللّغة: 1/ 241.
6- الصحاح تاج اللّغة وصحاح العربيّة: 3/ 1152.

وقال الشاعر أبو النجم:

ليست بحوشبة يبيت خمارها *** حتى الصباح مثبتاً بغراءِ(1)

يقصد أنَّه لا شعر على رأسها، فهي لا تضع خمارها طول الليل، فاستعمل الخمار في ما يكون ساتراً للرأس فقط.

والحوشب لغةً هو منتفخ الجبين، والشاعر كنّى به عن وجود الشعر على طرفي الجبين.

وفي الحديث (خرجت تلوث خمارها) أي تلويه على رأسها(2).

وحينئذٍ يقال: إنّ الاستعمال قد وجد في كلا المعنيين فلا يصلح شاهداً على شيء، فيسلم تسالم اللّغويين عن أيّ معارض.

وهذا المعنى هو الذي اختاره المفسّرون في تفسير الآية(3)، قال الطبرسي: (الخُمر: المقانع، جمع خمار، وهو غطاء رأس المرأة)(4)، وقال في التبيان: (فالخمار غطاء رأس المرأة المنسبل على جنبيها. وقال الجبائي: هي المقانع)(5)، وفسّر الراوندي: الخُمر بالمقانع وليس ممّا يستر به الوجوه(6).

ص: 63


1- المحكم والمحيط الأعظم: 3/ 115.
2- يلاحظ: غريب الحديث لابن الجوزي: 2/ 333.
3- يلاحظ: مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام: 3/ 274.
4- مجمع البيان: 7/217. وأيضاً يلاحظ: كنز العرفان في فقه القرآن: 2/ 224، الكشّاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل: 3/ 231.
5- تفسير التبيان: 7/ 430.
6- يلاحظ: فقه القرآن: 2/ 128.

وبهذا المعنى استُعمل لفظ الخمار في الروايات التي أمرت المرأة بلبس الخمار في الصلاة مثل صحيحة ابن أبي يعفور، قال: قال: أبو عبد الله (علیه السلام): (تصلي المرأة في ثلاثة أثواب: إزار، ودرع، وخمار)(1)، وغيرها من روايات هذا الباب، ومعلوم أنَّه لا يجب على المرأة ستر وجهها في الصلاة بالاتفاق.

ومن هنا يمكن أن يقال: إنَّ اقتصار الآية على الأمر بضرب الخمار - وهو الثوب الساتر للرأس على الصدور دون الوجوه - كاشف عن عدم لزوم ستر الوجه، وإلَّا كان أولى بالذكر، ولاسيمّا إذا لوحظ ما في صحيحة سعد الإسكاف التي فيها: (وكان النساء يتقنّعن خلف آذانهن)(2)؛ فإنّ تبديل التقنُّع خلف الآذان بالضرب على الجيب يلزمه كشف الوجه بلا إشكال، وقد اعترف بتأييد هذه الآية للقول بالجواز من لا يقول بالجواز(3)، وبإشعارها للجواز بعض آخر(4).

وأمّا ما ذكره السيّد عليّ نقيّ النقويّ من الشواهد فهي لا تثبت إلّا أنَّ الخمار قد استعمل في هذه الموارد في ما يستر الوجه بالقرينة، مع إمكان الخدش في شهادتها على المدّعى؛ لعدم صراحة استعمال الخمر في ساتر الوجه؛ لاحتمال أنّ مراد المتنبي شغفه بما تحت الخمر، وهو شعرها ورقبتها ونحرها وصدرها، بل إرادة الصدر وهو أولى؛ لأنَّه يقابل ما تستره السراويل.

ص: 64


1- الكافي: 3/ 395، باب الصلاة في ثوب واحد والمرأة في كم تصلّي وصلاة العراة والتوشح، ح: 11.
2- الكافي: 5/ 521، باب ما يحلّ النظر إليه من المرأة، ح: 5.
3- يلاحظ: كتاب الصلاة للمحقّق الداماد: 2/ 49.
4- يلاحظ: مستمسك العروة الوثقى: 5/ 243.

والكلام نفسه في شعر الرضيّ (رحمة الله)، بل ذكره للحُلي يقرّب الاحتمال المذكور؛ لأنَّ الحُلي لا تستر الوجه، بل أهمّها هو العقد الذي يمكن أن يستر بعض النحر والصدر.

وأمّا ما نسب إلى التنوخي فهو أكثر إشكالاً من هذه الجهة؛ لعدم وجود ما يقتضي تفسير الخمار بساتر الوجه إلَّا كلة (تحته)، وهي لا تأبى إرادة ما هو أسفل من الخمار وهو الوجه.

وبتعبير آخر: إنَّ هذه الكلمة غير ظاهرة في أنَّ المراد ممّا تحت الخمار هو المكان المستور به، بل يصح استعماله فيما هو أسفل من الخمار، والوجه أسفل منه.

وأمّا البيت الثاني للمتنبي فهو شاهد على أنَّ ما يستر الوجه يقال له البرقع ولا اعتداد بقول الشارح، وهذا حال بقية الأبيات.

واستشهاده ببعض الروايات أضعف منه لم نتعرّض لها؛ لضعف الاستشهاد بها، وعلى أفضل التقادير فهو مجرّد استعمال، وهو أعمّ من الحقيقة، فلا تصلح هذه الفقرة من الآية للاستدلال بها على القول الأوّل، بل يمكن جعلها من أدلّة القول الثاني، وعلى أقل التقادير تكون الآية مجملة فلا تصلح للاستدلال للقول الأوّل.

* * *

وبهذا يتمّ الكلام في الدليل الأوّل للقول الأوّل، وسنتناول في الحلقة القادمة الدليل الثاني - وهو الروايات - لهذا القول كما نتناول بقيّة الأقوال إن شاء الله تعالى.

ص: 65

ص: 66

نكاح ذات البعل (الحلقة الثانية) - الشيخ علي سالم الناصري (دام عزه)

اشارة

ربَّما غمرت السعادة امرأة تعيش في كنف زوجٍ يرعاها وهي قريرة العين بذرّيّة تحنو عليهم، وتجد في غدوّهم ورواحهم عليها ما ينسيها تبعات ماضٍ طوت صفحاته، لكنّه لم يتركها ليطلّ عليها بشبحه، فالعلاقة بالزوج السابق التي ظنّت أنَّ عراها تقصَّمت وأنَّ أسبابها قد تقطَّعت لم يكن الأمر فيها كما حسبته، وعادت عليها بما لا يرجى، وتسبّبت بحرمتها على الرجل الثاني وإلى الأبد.

هذا الوصف أثر لمسألة فقهيّة مشهورة، وهي الحرمة المؤبَّدة بين الرجل والمرأة إذا كان زواجهما قد تمّ في حال بقاء زوجيّة المرأة لرجل سابق.

وهذا البحث أُعد لتلمّس مفاتيح للحلّ من خلال إعادة النظر في أدلّة المسألة.

ص: 67

ص: 68

المقدّمة

بسم الله الرحمن الرحیم

تقدَّمت الإشارة في الحلقة الأولى إلى أنَّ الكلام يقع في المقصد الأساس - الحرمة المؤبَّدة بسبب نكاح ذات البعل - بعد الكلام في نقاط ثلاث:

الأولى: في حرمة التعريض بخطبة ذات البعل.

الثانية: في الحرمة التكليفيَّة لإجراء العقد عليها.

الثالثة: في بطلان العقد عليها.

وكانت النتائج هي أنَّه لا دليل مستقل ينهض بإثبات حرمة التعريض بخطبة ذات البعل، والبناء عليها مرهون بحصول الوثوق من أقوال مَن ذهب إليها، ونفي الخلاف، ونقل الاتفاق، وغير ذلك ممَّا ذكر من وجوه.

وأمَّا حرمة إجراء العقد عليها فهي متوقِّفة على حرمة التعريض بخطبتها، وإلَّا فالمحاولتان الأخريتان لتقريب الحرمة بالأولويَّة محلّ تأمُّل، كما وأنَّ الإجماع غير ناهض للإثبات، والروايات المثبتة للرجم أو الحدّ على مَن تزوجت وهي ذات بعل محمولة على حالة الدخول مع القصد. نعم، بطلان العقد عليها تامُّ الدليل.

وأيضاً تقدَّم في الحلقة الأولى شطرٌ من الحديث عن المقصد الأساس تضمَّن بيان الصور الأربع المنظورة للأعلام (رضوان الله تعالی علیهم) والأقوال الخمسة فيها. وشرعنا بعد ذلك في الاستدلال على حكم المسألة، وكان المقام الأوَّل في الاستدلال بأولويَّة الحرمة المؤبَّدة

ص: 69

في ذات البعل من الحرمة المؤبَّدة في ذات العدَّة، والأخيرة ثابتة نصَّاً وفتوى ولكن الأولويَّة لم تتمّ.

وكان المقام الثاني في الاستدلال بالروايات، وقد قسَّمناها إلى قسمين:

القسم الأوَّل منها الروايات الدالَّة على الحرمة المؤبَّدة، وهي خمس رواياتٍ:

معتبرة أديم، وهي تامَّة سنداً ودلالةً في الجملة، وقدرها المتيقَّن علم المرأة، وتشمل حالات علم الزوج ودخوله وعدمه.

ومعتبرتا زرارة، وهما تامَّتان سنداً ودلالةً، وموردهما جهل المرأة مع الدخول، وتعمّان حالتي علم الرجل وجهله، ولعلَّ المناسبات تساعد على شمولهما لحالة علم المرأة مع الدخول، وسيأتي حديثٌ حول اتحادهما مع معتبرة أخرى له.

ومرفوعة أحمد بن محمَّد، وهي دالّة بمنطوقها على الحرمة المؤبَّدة في حالة علم الزوج، ونافية بمفهومها للحرمة المؤبَّدة في حالة جهله، لكنَّها غير تامَّة سنداً.

ورواية علي بن جعفر، ويمكن البناء على تماميَّتها سنداً ودلالةً، وهي تزيد على معتبرتي زرارة بشمولها لفرض عدم الدخول.

وبهذا وصل الكلام إلى القسم الثاني من الروايات، وهي الدالَّة على الحلّيّة.

ص: 70

القسم الثاني: ما يدلُّ على عدم الحرمة المؤبَّدة

الرواية الأولى

صحيحة عبد الرحمن بن الحجَّاج، قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل تزوّج امرأةً، ولها زوج، وهو لا يعلم، فطلّقها الأوّل، أو مات عنها، ثُمَّ علم الأخير، أيراجعها؟ قال: لا، حتَّى تنقضي عدَّتها)(1).

وموردها جهل الزوج بأنَّها متزوّجة، وتعمّ جهل المرأة وعلمها، وفرضيّة الدخول وعدمه, وقد حكمت بالحرمة المغيّاة بانقضاء العدَّة.

الرواية الثانية

اشارة

رواية عبد الرحمن، قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل تزوّج امرأةً، ثُمَّ استبان له بعد ما دخل بها أنّ لها زوجاً غائباً فتركها، ثُمَّ إنَّ الزوج قدم فطلّقها، أو مات عنها، أيتزوّجها بعد هذا الذي كان تزوّجها، ولم يعلم أنّ لها زوجاً؟ قال: فقال: ما أحبُّ له أن يتزوّجها حتَّى تنكح زوجاً غيره)(2).

وتماميَّة الاستدلال بها في المقام تتوقَّف على الكلام في جهتين:

الجهة الأولى: في السَّند
اشارة

والرواية من حيث السَّند معتبرة إلى عبد الرحمن، وأمّا هو فبدءاً يمكن أن يقال: إنَّ هذا العنوان هنا يحتمل أكثر من شخص؛ فإنَّ ثلاثة ممّن توسَّطوا بين الحسن بن محبوب وأبي عبد الله (علیه السلام) يسمَّون ب-(عبد الرَّحمن) وهم: ابن الحجَّاج، وابن أبي عبد الله، وابن

ص: 71


1- تهذيب الأحكام: 7/477، وسندها: (وعنه - أحمد بن محمَّد -، عن محمَّد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجَّاج).
2- تهذيب الأحكام: 7/ 483، وسندها (عنه - الحسن بن محبوب -، عن عبد الرحمن).

سَيَابة، والأوّلان موثّقان دون الأخير.

وهل يمكن التغلُّب على هذه المشكلة؟

أمامَنا ثلاثُ محاولات للوثوق بكون عبد الرحمن أحد الموثَّقَينِ:

المحاولة الأولى: الاستعانة بنظريّة حساب الاحتمالات
اشارة

وهي بطريقتين:

الطريقة الأولى: من خلال حساب الاحتمال المجرّد من الخصوصيّات

أي بقصر النظر على عدد الروايات.

ولكنَّها عقيمة؛ لأنَّ مجموع الروايات الَّتي توسَّط فيها أحد الثقَتَينِ بين ابن محبوب والإمام الصادق (علیه السلام) (1) - حسب تتبّعي - ستٌّ وثلاثون رواية، واحدة منهما لابن أبي عبد الله(2)، والباقي لابن الحجَّاج(3). ومجموع الروايات التي توسّط فيها غير الموثق - ابن

ص: 72


1- كما هو الأصحّ في طريقة الحساب فللمروي عنه دخالة في قيمة الاحتمال.
2- تهذيب الأحكام: 1/372، وهناك رواية أخرى وردت في الاستبصار: 4/263، ولكن لم أعتنِ بها لورودها في الكافي: 7/358، وتهذيب الأحكام: 10/176، ومرآة العقول: 24/180، والوافي: 16/867، ووسائل الشيعة: 29/114ب-(عبد الرحمن) مجرّداً فلا وثوق بما في الاستبصار.
3- منها في الكافي: 2/ 252، 4/ 283، 5/ 92، 6/ 163، 293.. علماً أنَّ عشرين منها بدأ بها الصدوق ب-(عبد الرحمن)، وأدخلناها في الحساب؛ لأنَّ طريقه إليه يمرُّ بالحسن بن محبوب. وقد أدخلنا في الحساب ما ورد في الكافي: 7/136 فإنَّها وإن وردت في من لا يحضره الفقيه: 4/306 بعبد الرحمن مجرّداً إلّا أنَّه يمكن الوثوق بكون المراد به ابن الحجَّاج بملاحظة ما ورد في الكافي في عقيب الرواية محل البحث، فقد ذكر سنداً ينتهي إلى عبد الرحمن بن الحجَّاج، وقال: (مثله إلّا أنَّه قال كذلك وجدناه في..) والموجود في المتن المتقدّم: (كذلك هو في..) وبملاحظة الوافي: 25/861 ووسائل الشيعة: 26/307.

سيابة - أربع روايات(1)، فالقيمة الاحتماليّة لكون الواسطة هو ابن سيابة (10%)، وهي نسبة كبيرة تمنع من الوثوق بكون الواسطة ثقة.

الطريقة الأخرى: من خلال حساب الاحتمال مع ضمّ أمر آخر

وهو وقوع الحسن ابن محبوب كراوٍ مباشر عن عبد الرحمن بن الحجَّاج في طريق الصدوق إلى عبد الرحمن ابن الحجَّاج في مشيخة الفقيه(2)، وهو ما يقرِّب الوثوق بكون المراد من عبد الرحمن هنا عبد الرحمن بن الحجَّاج ما دام الحسن بن محبوب راوياً لكتابه - حسب مشيخة الصدوق - وهو الراوي المباشر في المقام.

ولكن لو تمّ فإنّما يتمّ في مَنْ كان راوياً للكتاب. وطرق الصدوق في المشيخة طرق لروايات الفقيه، ولا وثوق بكونها طرقاً لكتب مَن بدأ به في الأسانيد(3).

المحاولة الثانية

دعوى أنَّ المراد ب-(عبد الرحمن) المتوسّط بين ابن محبوب والإمام الصادق (علیه السلام) إذا ورد مجرّداً هو عبد الرحمن بن الحجَّاج؛ فإنَّه قد ورد في بعض الموارد رواية ابن محبوب عن عبد الرحمن مجرّداً، ووردت في موضع آخر عن عبد الرحمن بن الحجَّاج، كما في ما روي في ميراث الغرقى: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن القوم يغرقون في السفينة.. الحديث)؛ فإنَّها رويت في الفقيه عن ابن محبوب عن عبد الرحمن مجرّداً(4)،

ص: 73


1- الكافي: 7/313، علل الشرائع: 1/308، أمالي الصدوق: 417، تهذيب الأحكام: 3/285.
2- من لا يحضره الفقيه: 4/447، حيث قال: (وما كان فيه عن عبد الرحمن بن الحجَّاج فقد رويته عن أحمد بن محمَّد بن يحيى العطار (علیهما السلام) عن أبيه، عن أحمد بن محمَّد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، والحسن بن محبوب جميعاً، عن عبد الرحمن بن الحجَّاج البجليّ الكوفيّ).
3- قد أكّد عليه السَّيّد الأستاذ (دامت برکاته) كثيراً، وقد ذكر طريقة الصدوق في المشيخة في قبسات من علم الرجال: 2/583.
4- من لا يحضره الفقيه: 4/306.

وفي الكافي عنه عن عبد الرحمن بن الحجَّاج(1).

فيمكن أن يدّعى أنَّه متى أُطلق عبد الرحمن المتوسّط بين ابن محبوب والصادق (علیه السلام) أريد به ابن الحجَّاج.

ولكن حدث مثل هذا لبعض روايات عبد الرحمن بن أبي عبد الله؛ فإنَّه قد ورد في الاستبصار في باب (ليس للنساء عفوٌ ولا قَوَدٌ) (عن ابن محبوب عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سألته عن رجل قتل رجلين عمداً ولهما أولياء.. الحديث)(2)، ولكن في الكافي، والتهذيب، والمرآة، والوافي، والوسائل: (عبد الرحمن) فقط(3)، فغاية ما يستنتج من هذا أنَّ المراد من المجرّد في خصوص الموضع المعيّن هو مَنْ بُيِّن في الموضع الآخر، ففي المورد الأوّل يحرز أنَّ الذي في الفقيه هو ابن الحجَّاج بقرينة الكافي، وفي المورد الثاني يحرز أنَّ الذي في المواضع المتعدّدة هو ابن أبي عبد الله بقرينة الاستبصار - إذا حصل لنا وثوق بما فيه(4) - وليس له دلالة على أنّه متى أطلق أريد منه هذا المعيّن؛ فإنَّ مثل هذه الدعوى لا يحصل الوثوق بها بمجرد وجود موردٍ واحدٍ أطلق فيه عبد الرحمن وتبيّن أن المراد به ابن الحجَّاج.

إن قلت: لعلَّ عدم ذكر الوصف المعيّن لعبد الرحمن ناشٍ من عدم الحاجة؛ فإنَّ كلَّاً منهما ثقة.

ص: 74


1- الكافي: 7/136.
2- الاستبصار: 4/263.
3- الكافي: 7/358، تهذيب الأحكام: 10/176، مرآة العقول: 24/180، الوافي: 16/867، وسائل الشيعة: 29/114.
4- قد قلنا في الهامش رقم (2) من ص 72: (فلا وثوق بما في الاستبصار).

قلت: أوَّلاً: هذا غفلة عن وجود احتمال ثالث معتدّ به، وهو كون المراد ب-(عبد الرحمن) هو ابن سيابة.

ثانياً: عدم الحاجة للتعيين إنَّما يتصوَّر في حقِّ المعصومين (علیهم السلام)، ولذا استسيغ التعبير ب-(أحدهما) عن الإمامين الباقر والصادق (علیهما السلام) من بعض أعلام الرواة من الطبقة الرابعة. وأمّا ما عدا المعصومين (علیهم السلام) - ممّا أمكن أن يقع اختلاف الأنظار في حقِّهم من حيث الوثاقة والدقة والفقاهة - فلا يصحُّ بحقِّهم الإطلاق وإرادة أحدهما من غير مثبت أو سبب قاهر.

المحاولة الثَّالثة

البناء على اتِّحاد الرواية مع سابقتها - صحيحة عبد الرحمن بن الحجَّاج -؛ فإنَّ من البعيد توجّه سؤال واحد للإمام الصادق (علیه السلام) مشتمل على نفس الفرضيّات - ما عدا اختلاف يسير - من قبل اثنين يُسمّيان ب-(عبد الرحمن)؛ إذ عمدة الفرق بين الروايتين نقطتان، وما عداهما سهل يدخل بيسر في الاختلاف بين الروايتين الناتج عن النقل بالمعنى، والنقطتان هما:

1: تصريح الثانية بالدخول بها، بينما الأولى مطلقة من هذه الجهة.

2: اختلاف جواب الإمام (علیه السلام).

وكلاهما ممّا يمكن أن يقع بحسب طريقة نقل النصوص المتاحة في العصر السابق، وما تسمح به طريقة النقل بالمعنى.

فالنقطة الأولى يمكن أن يقال بلحاظها: إنَّ التعبير ب-(تزوّج) وإن كان يشمل العقد على المرأة من دون دخول بها إلَّا أنَّه يستبعد حمله عليه؛ فإن انكشاف حال المرأة وكونها ذات بعلٍ عادةً ما يكون بعد الاختلاط والمعاشرة، وهو ما يكون بعد الدخول بحسب العادة أيضاً. ولذا نرى اهتمام السائل ينصبّ على فرضية الدخول، ومن هنا مَن صرّح

ص: 75

بالدخول صرّح بالمراد، ومَن لم يذكره يقصده واقعاً.

كما وأنَّ النقطة الأخرى يمكن توجيهها بأنَّ مَن ذكر الحكم الإلزامي ركّز عليه وأغفل التنزيهي، ومَن نقل التنزيهي افترض الإلزامي واضحاً.

لكن هذه المحاولة عقيمة، فما ذكر لا يمكن الالتزام به، والوثوق بعدمه غير بعيد.

والحاصل: أنَّ مَنْ لا يقبل روايات عبد الرحمن بن سيابة يصعب عليه تجاوز هذه المشكلة صناعياً، وإن كان قد يحصل عنده وثوق شخصيّ بكون المراد ب-(عبد الرحمن) هو ابن الحجَّاج، ولا أقل من أنَّه أحد الثقتين، ولو بضمّ السعة النسبيّة لروايات الحسن بن محبوب عن عبد الرحمن بن الحجَّاج عن غير الإمام الصادق (علیه السلام)، فله - وفق هذه الدائرة - ما يقرب من ستّ عشرة رواية(1)، وإن كانت تدخل - وفقها - روايتان لعبد الرحمن بن كثير الهاشمي المضعّف(2).

الجهة الأخرى: في الدّلالة
اشارة

مورد ألفاظ الرواية هو فرض جهل الرجل بأنَّها ذات بعل مع الدخول، وتعمّ فرضي جهل المرأة وعلمها.

أمّا الحكم فبيانه يحتاج إلى الكلام في نقطتين:

النقطة الأولى
اشارة

في ما يستظهر من قوله (علیه السلام): (ما أحبُّ)، إذ الأعلام مختلفون في المستفاد من هذا التعبير وأشباهه على قولين:

القول الأوَّل

ذهب الشيخ الطوسي (قدس سره) إلى أنَّها ظاهرة في الكراهة الاصطلاحيّة، فقد قال بعد ذكر الخبر أعلاه: (فالوجه في هذا الخبر ضرب من الكراهيّة؛ ولأجل ذلك

ص: 76


1- سبعة منها عن الكاظم (علیه السلام): (منها في الكافي: 2/650، 322)، والباقي توزّعت على سبعة أشخاص.
2- الكافي: 1/132، مختصر بصائر الدرجات: 159.

قال: (ولا أحبُّ له أن يتزوّجها)، ولم يقل ولا يجوز)(1), واختار ذلك السَّيّد صاحب العروة (قدس سره) (2).

القول الآخر

ما اختاره السَّيّد الخوئي (قدس سره) من عدم ظهورها في الكراهة الاصطلاحيّة، وأنَّها تستعمل في الحرمة، وفي الأعم من الحرمة والكراهة، قال في كتاب الحج: (جملة (لا أحبُّ) غير ظاهرة في الكراهة بالمعنى الأخصّ، بل استعملت في القرآن المجيد في الموارد المبغوضة المحرّمة كثيراً، كقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾(3)، وقوله عزّ وجلّ: ﴿لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ﴾(4) وهو الغيبة المحرّمة.

وكذلك ما نسب إلى الذوات كقوله عزّ من قائل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾(5)، ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾(6)، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾(7)، وغير ذلك من الآيات الكريمة؛ فإنّ الظاهر منها أنّه تعالى لا يحبّهم لأجل إسرافهم واعتدائهم وكفرهم وظلمهم، ولمبغوضيّة هذه الأفعال عنده تعالى، بل تستعمل هذه الجملة في المبغوضية حتَّى في المحاورات فيما بين العقلاء.

وبالجملة: جملة (لا أحبُّ) غير ظاهرة في الجواز مع الكراهة، بل إمّا تستعمل في

ص: 77


1- الاستبصار: 3/189.
2- العروة الوثقى مع حواشيها: 4/617 - 618.
3- البقرة (2): 205.
4- النساء (4): 148.
5- البقرة (2): 190.
6- آل عمران (3): 57.
7- آل عمران (3): 32.

المبغوضية المحرّمة، أو الأعمّ منها ومن الكراهة(1)، فلا تكون هذه الجملة صالحة لرفع اليد عن ظهور تلك الروايات في الحرمة)(2)، وأكّد ذلك في المقام(3).

ووافقه السَّيّد الأستاذ (دامت برکاته)، فقد قال - معلّقاً على ما في التقرير الآخر(4)-: (لفظة (ما أحبُّ) أعم - كما ذكره (رضوان الله تعالی علیه) - فقد تستعمل في مورد الحكم التنزيهي كقوله (علیه السلام): (ما أحبُّ أن تدع مسّه - أي الحجر الأسود - إلّا أن لا تجد بُداً)(5)، وقد تستعمل في مورد الحكم الإلزامي كقوله (علیه السلام): (ما أحبُّ أن أصلّي فيها)(6) أي جلود الثعالب)(7).

ولكن يمكن أن يقال: موارد استعمالها وإن كانت متنوعة، لكنَّه لا يعدّ دليلاً على عدم دلالتها على الكراهة، فهل يمنع دلالة صيغة (افعل) على الوجوب استعمالُها في موارد الاستحباب؟!

وموارد استعمال هذا التعبير كثيرة في النصوص الشرعيّة، فهناك موارد أخرى غير ما أشير إليها فيما تقدّم، وهي على أصناف - بغض النظر عن صحّة السَّند - منها ما لم يتبيّن المراد منه من خارج العبارة؛ ولذا لا فائدة من ذكر أمثلتها، ومنها ما يراد منها غير

ص: 78


1- ظاهر التعبير ب-(بل إمّا تستعمل في المبغوضية المحرّمة أو الأعمّ منها ومن الكراهة) أنَّها لا تستعمل في الكراهة بالمعنى الأخص، ولكن في مستند العروة: 2/268 التعبير يختلف، فقد ورد فيه هكذا: (فلا يراد من كلمة (لا أحبُّ) مجرّد أنَّه لا يستحسنه، بل قد يراد ذلك وقد يراد المبغوضيّة).
2- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/209، ونحوه في مستند العروة الوثقى: 2/268.
3- مباني العروة الوثقى: 32/191.
4- مستند العروة الوثقى: 2/268.
5- الكافي: 4/405.
6- تهذيب الأحكام: 2/205.
7- بحوث في شرح المناسك: 10/89 (بتصرّف لإلغاء خصوصيّة المورد).

الإلزام، مثل:

1- (ما أحبُّ لأحد أن يدع الغسل يوم الجمعة إلّا من عذر أو لعلّة مانعة)(1).

2- (قلت له: الرجل يعلف الشاة والشاتين ليضحّي بهما، قال: لا أحبُّ ذلك)(2).

3- (المرأة تغسل فرج زوجها، فقال: ولم، من سقم؟ قلت: لا، قال: ما أحبُّ للحرّة أن تفعل)(3).

4- (لا أحبُّ أن يدخل بطني شيء لا أعرف سبيله)(4).

5- (عمّن قرن عشرة أسابيع أو أكثر أو أقل، أله أن يلتزم في آخرها التزامة واحدة؟ قال: لا أحبُّ ذلك)(5).

6- (سألته عن الرجل يُحلُّ فرج جاريته، قال: لا أحبُّ ذلك)(6).

7- (وغسل يوم الفطر وغسل يوم الأضحى سنّة لا أحبُّ تركها)(7).

8- (يخرج الرجل مع قوم مياسير...، فقال: ما أحبُّ أن يذلّ نفسه، ليخرج مع

ص: 79


1- مستدرك الوسائل: 2/499 - 500 عن الجعفريات.
2- تهذيب الأحكام: 9/ 83.
3- تهذيب الأحكام: 1/356.
4- الوافي: 11/249 عن تهذيب الأحكام ( 4/200)، ولكن في تهذيب الأحكام هكذا: (لا أحبُّ أن يدخل بطني شيء أعرف سبيله)، وما في التهذيب فيه سقط بلا إشكال، وفي روضة المتقين: 3/291 هكذا: (لا أحبُّ أن يدخل بطني إلّا شيء أعرف سبيله)، والكلام في موضع أنَّ الإمام (علیه السلام) كان قد ختم على طعامه وهو درجة من التحفُّظ فوق مقتضى الأصول العمليّة فليس بواجب.
5- تهذيب الأحكام: 5/108.
6- تهذيب الأحكام: 7 /243.
7- الكافي: 3/40.

من هو مثله)(1).

9- (الرجل يشتري من الرجل الدراهم بالدنانير فيزنها وينقدها...، فقال: ما أحبُّ أن يفارقه حتَّى يأخذ الدنانير)(2).

10- (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إنّي لا أحبُّ المتكلّفين)(3).

11- (عن دواء عجن بالخمر، فقال: لا والله ما أحبُّ أن أنظر إليه فكيف أتداوى به)(4).

12- (أكتفي من الدهن باليسير فأتمسّح به كلّ يوم، فقال: ما أحبُّ لك ذلك، فقلت: يوم، ويوم لا، فقال: وما أحبُّ لك ذلك)(5).

13- (ما أحبُّ أن أقصّر عن تمام إحدى وخمسين ركعة في كلّ يوم وليلة)(6).

14- (عن زيارة قبر الحسين بن علي (علیهما السلام) فقال: ما أحبُّ لك تركه)(7).

15- (لا أحبُّ أن أكون أوّل الشهود الأربعة، أخشى أن ينكل بعضهم فأُجلد)(8).

ص: 80


1- الكافي: 4/287.
2- الكافي: 5/252.
3- الكافي: 6/276.
4- الكافي: 6/414.
5- الكافي: 6/520.
6- دعائم الإسلام: 1/208.
7- كامل الزيارات: 426.
8- علل الشرائع: 2/540.

16- (عن الجنب يختضب أو يجنب وهو مختضب، فكتب: لا أحبُّ له)(1).

ومنها ما يراد منه الإلزام، مثل:

1- (ما أحبُّ أن يتزوّج ابنة فحل قد رضع من لبنه)(2).

2- (لا أحبُّ للرجل أن يقلِّب جارية إلّا جارية يريد شراءها)(3).

3- (يقول له الربّ تبارك وتعالى: أوَ لم أرزقك وأغنيك، أفلا اقتصدت ولم تسرف؟! إنّي لا أحبُّ المسرفين)(4).

4- (إنَّ لنا خلطاء من النصارى وإنّا نأتيهم فيذبحون لنا الدجاج والفراخ والجداء أفنأكلها؟ قال: فقال: لا تأكلوها ولا تقربوها؛ فإنّهم يقولون على ذبائحهم ما لا أحبُّ لكم أكلها)(5).

والذي يبدو لي أنَّها بنفسها ظاهرة عرفاً بأنَّه ليس في البين إلزام، وأنَّ الذي للمتكلّم تجاه الفعل ليس إلّا عدم الحبِّ والرغبة لا أكثر، وليس أنَّها غير ظاهرة في الإلزام، بحيث لا يفهم السامع إلّا أنَّ المتعلّق أمر مرجوح من غير تعرّض لمرتبة المرجوحيّة.

نعم، ظهورها ليس قويّاً، فيمكن رفع اليد عنه بيسر، ولا تكون عبارة: (لا أحبُّ ونحوها) قرينة على رفع اليد عن الحرمة لو كانت مدلولاً عليها بالنهي المساوي لها مورداً.

ص: 81


1- الاستبصار: 1/117.
2- الكافي: 5/441، ح: 5 ونحوه ح: 6.
3- تهذيب الأحكام: 7/236.
4- قرب الإسناد: 80.
5- الكافي: 6/241.

نعم، قرينيّتها على رفع اليد عن الإطلاق ليست عصيّة على القبول، فتدبّر!

وللسيّد الأستاذ (دامت برکاته) كلام آخر ربّما لا يتنافى مع ما نقلناه عنه سابقاً، ويمكن عدّه تعميقاً له، قال فيه: (لفظة (لا أحبُّ) وإن كانت لا تدلُّ إلّا على نفي محبوبيّة الفعل عند الإمام (علیه السلام)، وهو أعم من أن يكون ممنوعاً في الشرع الشريف، ولكن الملاحظ استعمالها عند وجود المصلحة في كتمان الحكم الواقعي، كأن يكون الحكم الواقعي هو الحرمة، ولكن الإمام (علیه السلام) تقية من الجمهور - القائلين بالجواز - يستخدم التعبير ب-(لا أحبُّ)، أو يكون الحكم الواقعي هو الجواز ولكن لسوق السائل إلى ما هو الأفضل يستخدم الإمام (علیه السلام) التعبير ب-(لا أحبُّ))(1).

أقول: كونها تدلُّ على نفي المحبوبيّة الأعم من كون المورد ممنوعاً شرعاً خلاف ما نستظهره منها من كونها دالّة على مرتبة مخفضة من المرجوحيّة، وأمَّا كون المتعارف استعمالها من قبلهم (علیهم السلام) في موارد الحاجة لإخفاء الحكم الواقعي فهو ممّا يحتاج إلى شواهد، ومجرّد تعبير الإمام (علیه السلام) بهذا التعبير في مورد اتّفاق العامّة على الجواز لا يعني أنَّه (علیه السلام) قد اتّقى، فلعلّ الحكم الواقعيّ هو الكراهة، واستكشافه من مورد السوق إلى الكمال غير يسير أيضاً.

وبعبارة أخرى: ظهور كلام الإمام (علیه السلام) في عدم المحبوبيّة بنفسه وظهور حاله (علیه السلام) في كونه يتكلّم بما هو مشرِّع أو مبلِّغ للشريعة ومبيِّن للحكم الواقعي لا يَسهُل رفع اليد عنهما.

النقطة الأخرى

فيما يستظهر من قوله (علیه السلام): (حتَّى تنكح زوجاً غيره).

ص: 82


1- شرح المسألة 383 من مناسك الحج، مجلس البحث الشريف/ الأحد 25 ذي القعدة 1438ﻫ.

قال السَّيّد الخوئي (قدس سره): (كلمة (حتَّى) فيها ليست للتحديد جزماً؛ إذ كيف يمكن أن يكون تزوّجها من الغير مجوزاً لتزوّجه منها، بل ذلك إنّما يوجب عظم حالها، وشدّة أمرها به، حيث تصبح به ذات بعل؛ إذ لم يذكر فيها كون تزوّجه منها ثانياً بعد طلاق الزوج الجديد لها، وانقضاء عدّتها منه. وإنّما هذه الكلمة (حتَّى) فيها مستعملة للغاية، وبذلك فيكون معنى الرواية أنَّه لا يتزوّجها كي يتزوّجها غيره، فتكون الغاية من ترك تزوّجه منها هي عدم جعلها معطّلة، بل فتح الباب لغيره كي يتزوّج منها)(1).

أقول: الظاهر أنَّ المراد أنَّه إنّما يسوغ له تزوّجها فيما إذا تزوّجها الآخر ثمّ افترقت عنه، لا أنَّ المراد أنَّه يراجعها وهي في ذمّة الآخر، والتعبير عن هذا المعنى بقوله: (حتَّى تنكح زوجاً آخر) دارج في الروايات. وإنّما ترك التصريح بأنَّه (بعد أن يفارقها الآخر) لوضوحه. وقد أوردنا آنفاً بعض الروايات التي تبيّن أنّه ما من مسلمة في دار الهجرة لا تعلم أنّه ليس لها أن تجمع بين زوجين.

وقد ورد هذا التعبير وأريد منه ما بعد خلوّها من الآخر في عدّة روايات، بعضها على لسان الراوي:

منها: معتبرة أبي بصير: (قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن الطلاق الذي لا يحلُّ له حتَّى تنكح زوجاً غيره، فقال.. الحديث) (2).

وبعضها على لسان الراوي والإمام (علیه السلام):

منها: معتبرته الأخرى: (عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قلت له: المرأة التي لا تحلُّ لزوجها حتَّى تنكح زوجاً غيره؟ قال: هي التي تطلّق، ثُمّ تراجع، ثُمّ تطلّق، ثُمّ تراجع،

ص: 83


1- مباني العروة الوثقى (كتاب النكاح): 32/191.
2- الكافي: 6/75.

ثُمّ تطلّق، فهي التي لا تحلُّ له حتَّى تنكح زوجاً غيره، وقال: الرجعة بالجماع.. الحديث) وغيرهما(1).

ثمّ ما معنى (جعلها معطّلة) إذا لم تتزوّج بآخر؟! وهل الزواج بالأوّل تعطيل حتَّى يكون الغرض من تحريمه عدم جعلها معطّلة بزواجها من الآخر ؟!

والحاصل أنّ ما ذكره (قدس سره) بعيد غايته.

والنتيجة: أنَّ دلالتها بنفسها على الكراهة يمكن قبولها, ودلالتها على أنَّ الحكم - كراهةً أو حرمةً - مغيّى بالتزويج من الآخر والافتراق عنه لا يتنازل عنها.

فإذا ثبتت الحلّيّة مع فرض الدخول يأتي حديث المناسبات، لشمول فرض عدم الدخول بالحلّيّة؛ فإنَّه يمكن أن يقال: إنَّه لا يمكن الالتزام بالحلّيّة في فرض الدخول، وبالحرمة في فرض عدم الدخول، فهل يحتمل أن يكون الدخول مقتضياً للحلّيّة، أو مانعاً من الحرمة، أم المحتمل فيه أنّه مانعاً من الحلّيّة أو مقتضياً للحرمة؟ فتأمّل!

الرواية الثالثة

معتبرة زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام): (قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن امرأةٍ نُعِي إليها زوجها فاعتدّت وتزوّجت، فجاء زوجها الأوّل, ففارقها وفارقها الآخر، كم تعتد للناس؟ قال: ثلاثة قروء، وإنّما يستبرأ رحمها بثلاثة قروء تحلّها للناس كلّهم، قال زرارة: وذلك أنّ أناساً قالوا: تعتد عدّتين من كلّ واحد عدّة، فأبى ذلك أبو

ص: 84


1- يلاحظ: الكافي: 6/76، باب (التي لا تحلّ لزوجها حتَّى تنكح زوجاً غيره)، ففيه ما نقلنا وغيرها. وقد ورد في ومسائل علي بن جعفر: 109 في جواب الإمام (علیه السلام): (إنْ كان دخل بها زوجها فرّق بينهما، فاعتدت ما بقي عليها من زوجها الأوّل، ثمّ اعتدّت عدّة أخرى من الزوج الأخير، ثمّ لا تحلّ له أبداً وإنْ تزوّجت غيره.. الحديث). يلاحظ قوله: (وإن تزوّجت غيره). وورد في قرب الإسناد: 249 قريب منه مع تغيير يؤثِّر على مورد الاستشهاد به.

جعفر (علیه السلام)، قال: تعتدّ ثلاثة قروء فتحلّ للرجال)(1).

وتقريب الاستدلال بها: هو أن يقال بدلالتها على حلّيّة المرأة للثاني بالعموم المستفاد من قوله (علیه السلام): (تحلّها للناس كلّهم) و(فتحلّ للرجال).

ولكن قد يناقش فيه: بأنَّ الظاهر من لفظ (الناس) في كلام السائل - بمقتضى المقابلة بينه وبين الزوجين - ما عداهما, وهو ما يلقي بظلاله على كلام الإمام (علیه السلام)، فيكون العموم غير شامل لهما, ولكن تأكيد الإمام (علیه السلام) - المستفاد من قوله: (كلِّهم) - ليس له وجه واضح لو لم يرد إدخالهما, فتأمّل!

وكيفما كان، فإنَّ موردها خصوص جهل الزوجة مع الدخول بقرينة قوله (علیه السلام): (يستبرأ رحمها بثلاثة قروء).

ويجدر التعرُّض لاحتمال اتِّحاد روايات زرارة الثلاث(2) أو أيِّ اثنين منها، فإنَّه قد يؤدي إلى سقوطها عن الحجّيّة جميعاً فيما هو المهمّ في المقام.

فنقول: قد يقال باتِّحاد الأولى مع الثانية؛ لأنَّ الأولى لا ظهور فيها بأنَّها على نحو السؤال والجواب، فالتعبير الوارد فيها يتلاءم مع كون الكلام من الإمام (علیه السلام) بلا سؤال فلا تكون هذه النقطة موضع خلاف بينهما، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى: الاختلاف في الأحكام المنقولة لا يوجب تعدُّد الواقعة؛ فإنَّه في

ص: 85


1- الكافي: 6/151 وسندها هكذا: (محمَّد بن يحيى، عن أحمد بن محمَّد، عن علي بن الحكم، عن موسى بن بكر، عن زرارة)، وموسى بن بكر هو (الواسطي) الذي هو من الواقفة، وقد وردت في من لا يحضره الفقيه: 3/548، وفي تهذيب الأحكام: 7/489 مع بعض الاختلاف.
2- الأولى والثانية هما الروايتان الثانية والثالثة من القسم الأوَّل، يلاحظ: مجلّة دراسات علميَّة، العدد (12): 59، 62. وأمّا الثالثة فهي الرواية الثالثة من القسم الثاني والتي ذكرناها آنفاً.

الرواية الأولى تمَّ التعرُّض للعدَّة والحرمة المؤبَّدة، وفي الثانية تمَّ التعرُّض لأحقيَّة الأوَّل، واستحقاق المرأة للمهر، والحرمة المؤبَّدة، فيمكن أن يكون هناك إغفال، أو اشتباه، أو نسيان بلحاظ بعض الأحكام من الراوي المباشر أو من غيره، وممّا يؤكِّد ذلك أنَّه لم يشكِّك أحد باتِّحاد ما رواه موسى بن بكر عن زرارة مع ما رواه عبد الكريم عن زرارة، وعدُّ ما روياه روايةً واحدةً مع عدم نقل أحدهما للحرمة المؤبَّدة(1).

لكن يمكن أن يقال: التعبير في الأولى ظاهر بوجود سؤال، والتعرُّض لحكم العدَّة فيها مطلب رئيسيّ، فلا يسع مَن نقلَها عدم التعرُّض له، فتأمَّل!

وقد يقال: باتِّحادهما مع الثالثة من القسم الثاني، أو على الأقل اتِّحاد خصوص الثانية من القسم الأوَّل مع الثالثة من القسم الثاني، فكلٌّ منهما فيه سؤال، وتعرّض لحكم العدَّة كمطلب أساس، واختلاف الحكم ناشئ من الاشتباه، ومن هنا لا يكون الحكم في أيِّ واحدة منها موثوقاً بصدوره.

لكن لو سُلِّم الاتِّحاد فلا موجب للالتزام باشتباه الحكم؛ فإنَّه يمكن الالتزام بأنَّ حكم الحرمة المؤبَّدة كان موجوداً، وإن لم ينقل في أحد الطرق، ولو كان موجوداً لا يتنافى مع الحكم في الثالثة؛ لأنَّه يكون قرينة على تخصيص العام بغير الرجل الثاني، فتأمَّل!

و يظهر الحال في اتِّحاد الأولى مع الثالثة ممّا تقدَّم.

الرواية الرابعة

معتبرة شعيب عن أبي الحسن (علیه السلام): (قال: سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن رجل تزوّج امرأةً لها زوج، قال: يفرّق بينهما، قلت: فعليه ضرب؟ قال: لا، ماله يضرب؟!)(2).

ص: 86


1- مجلة دراسات علمية، العدد (12): 62 - 63.
2- تهذيب الأحكام: 10/25، وسندها: (أحمد بن محمَّد عن ابن أبي عمير عن شعيب).

هكذا وردت في هذا الموضع من التهذيب، وهي رواية ابن أبي عمير عن شعيب، ولكنها وردت في موضع آخر منه برواية صفوان عن شعيب(1) وليس فيها (قال: يفرق بينهما) مع اختلاف في القيود والألفاظ، أهمّها تقييد السؤال بفرض عدم علم الرجل، وهذا الاختلاف يجعلها خاصّة بفرض جهل الرجل، ويجعل السؤال عن عقوبتهما فقط، فلا تنفع في الاستدلال.

لكن الظاهر أنَّ رواية صفوان تعرّضت للسؤال الثاني فقط، وهذا لا يمنع من التمسّك بجواب الإمام (علیه السلام) للسؤال الأوَّل؛ فإنَّه ليس من موارد تعارض أصالة عدم الغفلة في جانب الزيادة مع أصالة عدم الغفلة في جانب النقيصة، حتَّى يُعترض ويُقال الأولى لا تقدَّم على الثانية.

الرواية الخامسة

معتبرة أبي بصير عن أبي جعفر (علیه السلام): (قال: سُئِل عن امرأةٍ كان لها زوج غائب عنها فتزوّجت زوجاً آخر، قال: فقال: إنْ رفعت إلى الإمام ثُمَّ شهد عليها شهود أنَّ لها زوجاً غائباً(2) وأنَّ مادته وخبره يأتيها منه، وأنَّها تزوّجت زوجاً آخر، كان على الإمام أن يحدّها ويفرّق بينها وبين الذي تزوّجها)(3).

الرواية السادسة

خبر الدعائم عن أبي جعفر (علیه السلام): (أنَّه سُئل عن امرأة تزوّجت

ص: 87


1- تهذيب الأحكام: 7/487، وسندها: (علي بن الحسن، عن أيوب بن نوح وسندي بن محمَّد، عن صفوان بن يحيى، عن شعيب العقرقوفي، قال: سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن رجل تزوّج امرأةً لها زوج ولم يعلم، قال: ترجم المرأة وليس على الرجل شيء إذا لم يعلم.. الحديث). ومَن يلاحظ تمام الروايتين يطمئن بوحدة الواقعة المنقولة.
2- في هذا الموضع من الرواية في الاستبصار: 3/189 زيادة (عنها).
3- تهذيب الأحكام: 7/477، وسندها: (ابن محبوب، عن يونس بن يعقوب، عن أبي بصير).

ولها زوج غائب، قال: يفرّق بينها وبين الزوج الذي تزوّجته، وتحدّ حدّ الزاني)(1).

وتقريب الاستدلال بالثلاثة الأخيرة على عدم الحرمة بالإطلاق المقامي؛ فإنَّه من المناسب أن يتعرّض الإمام (علیه السلام) لحكم تحريمها عليه مؤبَّداً لو كان ثابتاً.

لكن يمكن التشكيك بالمناسبة؛ فإنَّها ليست واضحة بقدرٍ يجعل للرواية إطلاقاً مقاميّاً، فلعلّ توجهه (علیه السلام) لما هو محل ابتلائهما ممّا له أثر عملي حال السؤال، فتأمّل!

الرواية السابعة

معتبرة زرارة بن أعين، وداود بن سرحان، وأُديم بيّاع الهرويّ عن أبي عبد الله (علیه السلام): (أنّه قال: الملاعنة إذا لاعنها زوجها لم تحلّ له أبداً، والذي يتزوّج المرأة في عدّتها وهو يعلم لا تحلّ له أبداً، والذي يطلق الطلاق الذي لا تحلّ له حتَّى تنكح زوجاً غيره ثلاث مرّات وتزوّج ثلاث مرّات لا تحلّ له أبداً، والمحرم إذا تزوج وهو يعلم أنَّه حرام عليه لم تحلّ له أبداً)(2).

وتقريب الاستدلال بها بالإطلاق المقامي أيضاً, ولكنَّه ضعيف.

ص: 88


1- دعائم الإسلام: 2/454.
2- الكافي: 5/426، والسند هكذا: (عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، ومحمَّد بن يحيى، عن أحمد بن محمَّد جميعاً، عن أحمد بن محمَّد بن أبي نصر، عن المثنى، عن زرارة بن أعين، وداود بن سرحان، عن أبي عبد الله (علیه السلام). وعبد الله بن بكير، عن أديم بياع الهروي، عن أبي عبد الله (علیه السلام)).

مواقف الأعلام من الروايات

ثُمَّ إنَّه اختلف التعاطي مع هذه الروايات من قبل الأعلام (رضوان الله تعالی علیهم) - الذين تعرّضوا للمسألة -:

فمنهم من أنكر وجودها كالعلّامة في القواعد(1) والشهيد الثاني في الروضة(2)، وإنْ احتمل إغفالهم لها؛ لعدم الاعتداد بها كما تقدَّم(3).

ومنهم مَنْ اقتصر على بعض ما يدلّ على الحرمة المؤبّدة، ولم يتعرّض للأخرى، كالشهيد الثاني في المسالك(4).

ومنهم مَنْ تعرّض لأغلب روايات الحرمة دون التعرّض للأخرى، كصاحب الحدائق(5)، مع أنَّه ذكر صحيحة ابن الحجَّاج في الزنا بذات البعل(6)-

ومنهم مَنْ تعرّض لبعضٍ من كلِّ قسمٍ مومئاً إلى القدح في رواية التحريم كالعلّامة في التحرير(7).

ومنهم مَنْ تعرّض للقسمين - ولو في الجملة - محاولاً الجمع بينهما كما سيتبيّن إن شاء الله تعالى، ونحو هذه التعاطيات.

ص: 89


1- يلاحظ: قواعد الأحكام: 3/31.
2- يلاحظ: الروضة البهية: 5/199 - 200.
3- يلاحظ: مجلة دراسات علمية عدد (12): 39.
4- يلاحظ: مسالك الأفهام: 7/338.
5- يلاحظ: الحدائق الناضرة: 23/578.
6- يلاحظ: الحدائق الناضرة: 23/581.
7- يلاحظ: تحرير الأحكام: 3/469.

والمهمّ التعرّض لكلام المجموعة الأخيرة، وهم مَن تعرّضوا للقسمين مع محاولة الجمع؛ فإنَّه لا بُدَّ من ملاحظة روايات القسمين، ولا وجه لإغفال أيِّ قسمٍ منهما، ويمكن إجمال ذلك بمسلكين:

الجمع بين الروايات

المسلك الأوَّل

اشارة

ما ذكره الشيخ الطوسي(1) (رضوان الله تعالی علیه)، وهو على خطوتين:

الخطوة الأولى

حمل رواية عبد الرحمن على ضربٍ من الكراهة، وحملها مع صحيحة عبد الرحمن بن الحجَّاج على فرض جهل المرأة؛ لأنَّ فرض العلم يدخلها بذات البعل الزانية، التي ذكر أنَّها محرّمة مؤبَّداً بما بيّنه هو في التهذيب - والظاهر أنّ نظره إلى معتبرة أديم بن الحر، ومرفوعة أحمد بن محمد؛ فإنَّهما اللتان ذكرهما هناك مبيّناً فيهما قول المفيد: (ومَن سافح امرأة وهي ذات بعل لم يحلّ له العقد عليها أبداً)(2) - وقد دلّت الروايات على أنَّ مَن تعمّدت الزواج بالثاني تكون زانية(3)، فتكون نتيجة ذلك أنَّهما خاصّتان بحالة جهلهما مع الدخول.

ص: 90


1- يلاحظ: الاستبصار ج3، بالجمع بين كلاميه في ص189 بعد روايتي عبد الرحمن وعبد الرحمن ابن الحجَّاج، وص190 بعد رواية ابن بكير.
2- يلاحظ: تهذيب الأحكام: 7/305.
3- يلاحظ: الاستبصار: 3/189، معتبرة أبي بصير، عن أبي جعفر (علیه السلام): (قال: سُئل عن امرأة كان لها زوج غائباً عنها فتزوّجت زوجاً آخر، قال: فقال: إن رفعت إلى الإمام ثمّ شهد عليها شهود أنّ لها زوجاً غائباً عنها، وأنّ مادته وخبره يأتيها منه، وأنّها تزوّجت زوجاً آخر، كان على الإمام أن يحدّها، ويفرّق بينها وبين الذي تزوّجها، قيل له: فالمهر الذي أخذته منه كيف يُصنع به؟ قال: إن أصاب منه شيئاً فليأخذه وإن لم يصب منه شيئاً فإنّ كلّ ما أخذت منه حرام عليها مثل أجر الفاجرة)، ومعتبرة شعيب العقرقوفي عن أبي الحسن (علیه السلام): (قال: سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن رجل تزوّج امرأة لها زوج ولم يعلم، قال: يُرجم المرأة وليس على الرجل شيء إذا لم يعلم).
الخطوة الأخرى

حمل معتبرة زرارة الثانية - مضافاً إلى ما أورده هو عن عبد الله بن بكير - على خصوص العالم، ثُمّ أرجع ذلك إلى الزنا بذات البعل، وظاهر الإرجاع ومورد الروايتين اختصاصها بالعالم مع الدخول.

وعلى هذا تكون النتيجة أنَّه في فرض الدخول يحكم بالحرمة المؤبَّدة إذا كان أحدهما عالماً، وبالحلّيّة إذا كانا جاهلين. أمّا فرض عدم الدخول فلم يتعرّض له.

ويلاحظ على الخطوة الأولى:

أوّلاً: لم يفرض في صحيحة عبد الرحمن بن الحجَّاج حصول دخول فما الموجب لتخصيصها بالجاهلة، ومساواتها برواية عبد الرحمن - التي فرض فيه الدخول -؟ فإنَّه لا زنا من غير دخول, وعليه يمكن أن تشمل الحلّيّة فرض علم المرأة مع جهل الزوج وعدم الدخول.

ثانياً: أنَّ بعض ما ذكره في التهذيب دليلاً على نشر الزنا للحرمة المؤبَّدة - كمعتبرة أديم - بنفسه صالح لإثبات الحرمة مع علم المرأة؛ فإنَّ موضوعها المتزوّجة، وقدرها المتيقَّن فرض علم المرأة.

وعليه فلا وجه لتوسيط كونها زانية، ثمّ القول بأنَّ الأدلة أثبتت الحرمة المؤبّدة مع الزنا؛ فإنَّه تطويل للمسافة، مع ما عرفت من قصور دلالة الأدلّة المزعومة عن إثبات ذلك(1).

هذا لو أراد إثبات الحكم في حالة علم المرأة وحسب، إلّا أنَّ ظاهر عبارته أنَّه يريد

ص: 91


1- يلاحظ: مجلة دراسات علمية، العدد (12): 55.

أن يخصّص الروايتين الدالّتين على الحلّيّة بما دلَّ على ثبوت الحرمة المؤبَّدة بالزنا، وهو لا يتمّ؛ فإنَّ الروايتين أخصّ.

أمّا المرفوعة فهي بمفهومها - الحاكم بالحلّيّة - تشمل فرض جهل الزوج سواء علمت المرأة أو جهلت.

وأما الخطوة الأخرى فيلاحظ عليها: بأنَّه لا وجه لتخصيص معتبرة زرارة وأختها بالعالم تعويلاً على ملاك الزنا، فإنَّه:

إنْ أراد العالم مطلقاً - أي مع الدخول وعدمه - فلا ربط للزنا بذلك؛ فإنَّه لا زنا بلا دخول، مع حديث التطويل المتقدّم.

وإنْ أراد خصوص فرض الدخول فأدلّة سببيّة الزنا لتأبيد الحرمة - لو تمّت - لا مفهوم لها يمنع من ثبوت الحرمة في فرض عدم الدخول، والمفروض شمول معتبرة زرارة وأختها له.

ولو كان مراده أنّ روايتي الحلّيّة هما المخصِّصتان للمعتبرة وأختها فإنّه غير تامّ؛ فإنَّ روايات الحلّيّة لا تكون أخصّ على كلّ حال, وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.

المسلك الآخر

ما تبنّاه مجموعة من الأعلام: منهم السَّيّد صاحب الرياض، وصاحب الجواهر، والشيخ الأنصاري، والسَّيّدين الحكيم والخوئي (رضوان الله تعالی علیهم) (1).

ويمكن تلخيصه بالآتي(2):

ص: 92


1- رياض المسائل: 10/205, جواهر الكلام: 29/434, كتاب النكاح: 417، مستمسك العروة الوثقى: 14/132، مباني العروة الوثقى (كتاب النكاح): 32/189.
2- مع الإغماض عن اختلافهم في تسلسل المطلب، وفي زيادة رواية، أو نقيصتها في صنف أو أكثر.

تصنيف الروايات إلى ثلاثة أصناف:

الأوّل: مطلقة تشمل علم الرجل وجهله، وحالتي الدخول وعدمه، وقد حكمت بالحرمة المؤبّدة، وهي معتبرة أديم.

الثاني: أخصُّ من الأولى؛ فقد اختصّت بحالة جهل الرجل، مع شمولها لحالتي الدخول وعدمها، وقد حكمت بالحلّيّة بعد فراق الأوَّل والاعتداد منه، ومنها صحيح ابن الحجَّاج.

الثالث: وهي - عند أغلبهم - أخصُّ من الجميع؛ لاختصاصها بفرضيّة جهل الرجل مع الدخول، وقد حكمت بالحرمة المؤبَّدة، وهما روايتا زرارة.

والنتيجة هي تخصيص روايات الصنف الثاني - النافية للحرمة المؤبَّدة - بصورة الجهل وعدم الدخول، بواسطة روايات الصنف الثالث كمرحلةٍ أولى، ثُمّ تخصيص الأولى بالثانية، فتكون النتيجة الحرمة المؤبّدة فيما عدا فرض الجهل وعدم الدخول.

ثُمَّ إنَّهم (رضوان الله تعالی علیهم) - رغم اختلافهم بين مَنْ قَبِلَ منهم اختصاص الأخيرة بالجاهل، كالسَّيّد صاحب الرياض، وصاحب الجواهر، والشَّيخ الأنصاري، والسَّيّد الحكيم، وبين مَنْ توقّف كالسَّيّد الخوئي (قدس سره) - قد تعرّضوا- عدا الأوَّلين - لفرض كون العموم من وجه هو النسبة بين الصنفين الأخيرين، فأدخلوا محلّ الاجتماع - وهو جهل الرجل مع الدخول بعد التعارض والتساقط - تحت مرجعيّة معتبرة أديم، فكانت النتيجة نفسها.

وأمّا رواية عبد الرحمن - المساوية مورداً لمعتبرتي زرارة، حسب نظر السَّيّدين الحكيم والخوئي (رضوان الله تعالی علیهما) - فمنهم مَنْ لم يتعرّض لها، وهم كلٌّ من السَّيّد صاحب الرياض، والشَّيخ صاحب الجواهر، والشَّيخ الأنصاري (رضوان الله تعالی علیهم). ومنهم مَن تعرّض لها، وهما السَّيّدان الحكيم والخوئي (قدس سرهما).

ص: 93

أمّا السَّيّد الحكيم (قدس سره) فإنَّه - بعد أن رجّح ما ذكره الحرّ العاملي (رحمة الله) (1) من حمل الدخول فيها على الخلوة رغم بعده عنده على ترك العمل بالأخبار الأخرى - تأمّل في حقّها في الاستدلال، إلّا أنَّه في الفتوى لم يعتنِ بها.

وأمّا السَّيّد الخوئي (قدس سره) فقد منع من معارضتها للبقيَّة؛ لأنَّ كلمة (ما أحبُّ) ليست ظاهرة في الترخيص، و(حتَّى) في (حتَّى تنكح زوجاً غيره) ليست للتحديد، كما تقدّم في بيان دلالتها.

ونتيجة هذا الوجه هي الحكم بالحرمة المؤبّدة في حالة العلم مطلقاً، وكذا في حالة الجهل مع الدخول, وبالحلّيّة مع الجهل وعدم الدخول.

التعليق على ما أفادوه (رضوان الله تعالی علیهم):

أوّلاً: قد يعترض عليهم بأنَّهم أهملوا حال المرأة - من حيث العلم وعدمه - في تعاملهم مع الصنفين الأخيرين من الروايات في مقام تحديد النسبة بينهما، وتعاملوا مع علم الرجل وجهله، والدخول وعدمه فقط، والحال اختصاص معتبرتي زرارة بحالة جهل المرأة، وشمول صحيح عبد الرحمن بن الحجَّاج لحالة علمها.

ويمكن القول - مع أنَّه في غير عبارة السَّيّد الخوئي (قدس سره) لا ظهور لقصر النظر عن حال المرأة - إنَّه لا ثمرة في لحاظ حال المرأة من حيث العلم والجهل؛ فهو لا يؤثّر على النسبة، فالمعتبرتان أضيق من الصحيحة؛ لأنَّهما خاصّتان بحالة الدخول، ولا يعمّان غيرها، وإضافة عنصر تضييق آخر - وهو كونهما خاصّتين بجهل المرأة، ولا يعمّان حالة علمها - لا يؤثّر في النسبة، فإنَّه على كلِّ حالٍ الصحيحة أعمّ؛ إذ إنَّها انفردت بمورد

ص: 94


1- وسائل الشيعة: 20/447.

عنهما، وهو عدم الدخول، فإضافة علم المرأة كمورد آخر لا أثر له في النسبة. هذا على فرض العموم المطلق.

وعلى فرض العموم من وجه فمورد تفرّد المعتبرتين - وهو علم الزوج؛ لأنَّ الصحيحة خاصّة بحالة جهله - باقٍ على حاله لا يتغيّر.

ثانياً: إنَّما تكون معتبرة أديم مرجعاً لمحلِّ الاجتماع بعد التساقط لو قبلنا إطلاقها لحالة جهل المرأة، وإلّا كانت نسبتها مع صحيحة عبد الرحمن بن الحجَّاج العموم من وجه؛ لتفرّدها بفرض علمهما، وتفرّد الصحيحة بفرض جهلهما، ويجتمعان في حالة علم الزوجة وجهل الرجل.

ثالثاً: إغفال السَّيّد صاحب الرياض والشَّيخ صاحب الجواهر والشَّيخ الأنصاري (قدس سرهم) رواية عبد الرحمن في غير محلّه كما هو واضح. وما أخرجت به من الحساب من قبل السَّيّد الحكيم (قدس سره) غير تام، لأنَّ ما ذكره الحرّ العاملي (رحمة الله) لا يمكن قبوله، إذ أيّ موجب للتعبير عن الخلوة بالدخول بها؟ وما هو المصحّح لذلك؟ وكون الدخول إنّما يكون في الخلوة يناسب التعبير عن الدخول بالخلوة؛ لأنَّها أبعد عن الإيحاء الجنسي واستثارة المخيّلة، وهذا أمر مقبول، وأمّا العكس فلا.

كما أنَّ ترجيحه (قدس سره) لهذا الوجه مع اعترافه ببعده، لأجل عدم التنازل عن الروايات الأخرى غير ظاهر الوجه، فلا الروايات من الكثرة بمكانٍ بحيث لا يمكن التنازل عنها، ولا هي مدعومة بشهرة قدمائيّة إذا لم يكن العكس.

وقد تقدّمت المناقشة فيما أفاده السَّيّد الخوئي (قدس سره)، فلا أقلَّ من دلالتها على الحرمة المغيّاة بالتزويج من الغير.

ثُمَّ إنَّ الظاهر منهم (رضوان الله تعالی علیهم) إغماض النظر عن حالة المرأة من حيث العلم والجهل في

ص: 95

التعامل مع معتبرتي زرارة؛ إذ إنَّهم لم يناقشوا في رواية عبد الرحمن في أنَّ نسبتها مع المعتبرتين أيضاً عموم وخصوص من وجه وإنَّما لجأوا إلى منع دلالتها.

اللهم إلّا أن يقال: لعلَّهم عمَّموا المعتبرتين لفرض علمها لمكان المناسبات، فتأمَّل!

وكيفما كان لو أغمض النظر عن حالة المرأة في معتبرتي زرارة فالمفروض أن تكون نتيجة الصورة الثالثة وفق تعاطيهم (رضوان الله تعالی علیهم) مع الروايات كالتالي:

أوَّلاً: على فرض اختصاص معتبرتي زرارة بالجاهل فسوف تعارضان رواية عبد الرحمن ويكون المرجع صحيحة عبد الرحمن؛ لأنَّها تعمُّ حالة عدم الدخول ويمكن أن تُحمل عليها، هذا لو قلنا بكونها أخصُّ من معتبرة أديم، من خلال الالتزام بشمول معتبرة أديم لحالة جهل المرأة. أمّا لو لم نلتزم بذلك فتكون النسبة بينهما العموم من وجه فتدخل الصورة تحت مطلقات الحلّ في المورد(1) لو تمّت دلالتها وإلّا فتدخل تحت المطلقات الأوسع(2).

ثانياً: على فرض عدم اختصاص معتبرتي زرارة بالجاهل، وتعميمها لحالة علم الرجل فسوف تكون النسبة بينهما وبين صحيحة عبد الرحمن بن الحجَّاج العموم من وجه، لكن لمّا كانت رواية عبد الرحمن ناظرةً لحالة الدخول مع الجهل، وهي أخصّ - لو أغمضنا النظر عن عمومها لعدم الدخول لمكان المناسبات - تثبت الحلّيّة المغيّاة.

ص: 96


1- وهي صحيحة شعيب ومعتبرة أبي بصير ومعتبرة زرارة وشركائه.
2- كقوله تعالى - في سورة النساء آية:24 -: ﴿وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾.

نتيجة الجمع بين الروايات

وبهذا يتّضح أنَّ النتيجة - بعد الالتزام بدلالة رواية عبد الرحمن على الحلّيّة المعلّقة على أقلِّ تقدير، وعموم معتبرتي زرارة للعالم، ومغايرتها مع معتبرته الثالثة، وعدم الالتزام بتماميَّة رواية علي بن جعفر سنداً ودلالةً(1) - هي:

1- إذا لم تقبل فكرة المناسبات أو غضّ النظر عنها فسوف يحكم ب-:

أ- الحرمة المؤبّدة في فرض علم الرجل، دخل أو لم يدخل؛ فإنَّه داخل تحت معتبرة أديم ومعتبرتي زرارة، ولا تشمله صحيحة عبد الرحمن بن الحجَّاج، ولا رواية عبد الرحمن. وفرض جهل المرأة وإن خرج من معتبرة أديم - لو قيل باختصاصها بالعالمة - إلّا أنّه داخل تحت معتبرتي زرارة.

ب-الحرمة في فرض جهل الرجل إذا كان قد دخل بها وهي جاهلة؛ وذلك عند البناء على عموم معتبرة أديم لحالة جهل المرأة؛ لدخولها تحتها.

ولا ينفع دخولها تحت صحيحة عبد الرحمن بن الحجَّاج ورواية عبد الرحمن في إخراجها منها؛ لتعارض صحيحة عبد الرحمن بن الحجَّاج مع معتبرتي زرارة، لكون النسبة بينهما العموم من وجه؛ لانفراد الصحيحة بحالتي عدم الدخول وعلم المرأة، والمعتبرتان بحال علم الرجل، وكذلك الحال في رواية عبد الرحمن مع معتبرتي زرارة؛ لانفراد رواية عبد الرحمن في صورة علم المرأة، اللهم إلَّا أن يبنى على قبول عموم معتبرة زرارة - الثالثة من القسم الثاني التي

ص: 97


1- مع أنّها تقبل الحمل على ما قبل مفارقة الزوج الأوّل وإكمالها العدّة منه فلا تؤثّر على روايات الحلّيّة لأنّها ناظرة إلى ما بعد ذلك فتقيّدها، فتأمل!

ورد فيها (تحلُّ للناس كلِّهم) - فإنَّها تعارض معتبرة أديم ويكون المرجع حينئذٍ عمومات الحلِّ.

ت-الحلّيّة في الفرض السابق مع منع عموم معتبرة أديم؛ لعمومات الحلّيّة بعد تعارض الثلاثة - المعتبرتين والصحيحة ورواية عبد الرحمن - وخروجها عن معتبرة أديم، سواء قبلنا عموم معتبرة زرارة - الثالثة من القسم الثاني - أو لم نقبله.

ث-الحلّيّة في فرض جهل الرجل ودخوله وعلم المرأة، مع قبول إطلاق معتبرة

أُديم لخروجها عن معتبرتي زرارة، وشمول صحيحة عبد الرحمن بن الحجَّاج ورواية عبد الرحمن لها مع أخصّيتهما من معتبرة أديم، ومع عدم قبول إطلاق معتبرة أديم كذلك؛ لعمومات الحلّيّة بعد معارضتها بهما. ولا يعتنى بكون نتيجة ذلك الحكم بالحلّيّة مع علمها، وبالحرمة مع جهلها؛ لأنَّ المفروض عدم قبول المناسبات.

ج- الحلّيّة في فرض جهل الرجل إن لم يكن قد دخل، لصحيحة عبد الرحمن ابن الحجَّاج، إن التزمنا بعموم معتبرة أديم للجاهلة؛ لأخصّية الصحيحة. وإلّا فعمومات الحلّيّة بعد تعارضهما؛ لأنَّ النسبة عموم من وجه.

2- أمّا إذا أدخلنا المناسبات مطلقاً - في المعتبرتين وفي رواية عبد الرحمن - في الحساب فسوف تكون رواية عبد الرحمن مساوية لصحيحة عبد الرحمن بن الحجَّاج؛ لأنَّ الحلّيّة مع عدم الدخول أَوْلى، وتكون المعتبرتان شاملتين لفرض علم الرجل وفرض علم الزوجة، فتكون النسبة بين الطائفتين العموم من وجه، لتتفرّد المعتبرتان بحالة علم الزوج مع الدخول، وصحيحة ابن الحجَّاج وأختها بحالة جهله مع عدم الدخول،

ص: 98

ويجتمعان في فرضية جهل الرجل مع الدخول، وحينئذٍ:

أ- إن التزم بإطلاق معتبرة أديم دخلت تحتها وحكم بالحرمة، اللهم إلّا أن يقبل عموم معتبرة زرارة - الثالثة من القسم الثاني التي ورد فيها (تحلّها للناس كلّهم) - فتكون النسبة بينهما العموم من وجه، لتتفرّد معتبرة أديم بحالة علم المرأة، ومعتبرة زرارة بحالة كون الزوج غيرهما، ويجتمعان في صور جهل المرأة مع الدخول، سواء علم الرجل أم لا، والمرجع في غير صور علم الرجل إلى إطلاقات الحلّ.

ب- وإن التزم بعدم إطلاقها فلا تشمل الجاهلة، وكانت نسبتها مع صحيحة ابن الحجَّاج ورواية عبد الرحمن العموم من وجه، فالمرجع إطلاقات الحلّيّة في المورد أو خارجه.

ثُمَّ لو التزم بتساقط روايات زرارة الثلاثة؛ للاتِّحاد وعدم الوثوق بالمتون، فإن قلنا بعموم معتبرة أديم للجاهلة حكم بالحلّيّة في جميع الصور؛ لصحيحة عبد الرحمن ابن الحجَّاج، ورواية عبد الرحمن المشاركة لها في بعض الصور إلّا صور علم الزوج، فإنَّها خارجة عنها، وباقية تحت معتبرة أديم.

وإن قلنا باختصاصها بالعالمة صارت النسبة بينهما وبينها عموماً من وجه، ومورد التعارض والموارد الخارجة عنها يرجع فيها لعمومات الحلِّ، وتكون النتيجة الحلّيّة إلَّا في صور علمها.

ص: 99

تأثير العلم بالحكم

تقدَّم أنَّ بعض الفقهاء (رضوان الله تعالی علیهم) أدخل عنصرين في العلم، وهما العلم بالحكم والعلم بالموضوع، وبعضهم اقتصر على العلم بالموضوع(1)، والظاهر أنَّه لعدم تعرّض الروايات للعلم بالحكم، وتقدّم أنَّ السَّيّد الخوئي (قدس سره) لم يتعرّض للعلم بالحكم في تعليقته على العروة كما في متنها(2)، ولكنَّه في رسالته العمليَّة صرّح باعتبار العلم بالحكم(3)، وبيّن في شرح المسألة من العروة أنَّ العلم بالحكم له دخالة وإن لم تتعرّض له الروايات، وإنّما تركه لتحقّقه خارجاً(4).

أقول: ذكر السَّيّد الخوئي (قدس سره) دليلاً لاعتبار العلم بالحكم، وهو صحيحة عبد الرحمن بن الحجَّاج عن أبي إبراهيم (علیه السلام): (قال: سألته عن الرجل يتزوّج المرأة في عدّتها بجهالة، أهي ممّن لا تحلُّ له أبداً؟ فقال: لا، أمّا إذا كان بجهالة فليتزوّجها بعدما تنقضي عدتها، وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك، فقلت: بأيِّ الجهالتين يعذر؟ بجهالته أن يعلم أنّ ذلك محرّم عليه، أم بجهالته أنّها في عدّة؟ فقال: إحدى الجهالتين أهون من الأخرى، الجهالة بأنَّ الله حرّم ذلك عليه، وذلك بأنّه لا يقدر على الاحتياط معها، فقلت: فهو في الأخرى معذور؟ قال: نعم، إذا انقضت عدّتها فهو معذور في أن يتزوّجها. فقلت: فإنْ كان أحدهما متعمّداً والآخر يجهل، فقال: الذي تعمّد لا يحلّ له

ص: 100


1- يلاحظ: مجلَّة دراسات علميَّة عدد (12): 31.
2- يلاحظ: مجلَّة دراسات علميَّة عدد (12):32.
3- يلاحظ: منهاج الصالحين (السَّيّد الخوئي): مسألة (1257) من المعاملات.
4- يلاحظ: مباني العروة الوثقى: 32/193.

أن يرجع إلى صاحبه أبداً)(1).

قال (قدس سره): (فإنَّها دالّة بوضوح على أنّ الجهل بالموضوع وإنْ كان عذراً إلّا أنَّ الجهل بالحكم أعظم؛ وذلك لعدم إمكان الاحتياط معه)(2).

هذا، ولكن السّيّد الأستاذ (دامت برکاته) لم يقبل دلالة الصّحيحة على هذا المعنى، وناقشها بالتَّالي:

(ولكن هذا الكلام ليس بتام؛ لأنَّه ورد في ذيل الصَّحيحة التَّعليل بأنَّه لا يقدر على الاحتياط معها، أي أنَّه مع الجهل بالحكم لا يقدر على الاحتياط، ومعنى هذا الكلام وروحه هو التَّفصيل بين الجاهل القاطع بالخلاف - وهو الجاهل المركّب - وبين الجاهل البسيط بسبب عدم قدرة الأوَّل على الاحتياط وقدرة الثَّاني عليه، فإنَّه من الواضح أنَّه لا فرق في القدرة على الاحتياط بين الشُّبهة الحكميَّة والشُّبهة الموضوعيَّة، فكما يمكن أن يكون في الشُّبهة الحكميَّة بالنِّسبة إلى الحكم جاهلاً مركّباً لا يسعه الاحتياط كذلك يمكن أن يكون جاهلاً بسيطاً متمكِّناً من الاحتياط، وكذلك بالنِّسبة إلى الموضوع، فواقع الحال المستفاد من كلام الإمام (علیه السلام) هو التَّفصيل بين الجاهل المركَّب والجاهل البسيط بأنَّ الجاهل المركَّب أقوى عذراً من حيث إنَّه ليس قادراً على الاحتياط، فهو لا يحتمل الخلاف حتَّى يحتاط، وإنَّما الاحتياط يقوم به مَن يحتمل الخلاف الذي ليس هو قاطعاً بالأمر وهو الجاهل البسيط).

ثُمَّ تعرَّض (دامت برکاته) إلى إشكالٍ على الرِّواية، ودفع ذلك الإشكال قائلاً:

(نعم، هنا إشكال ورد على هذه الرِّواية أشار له الشَّيخ الأعظم في الرَّسائل ولم

ص: 101


1- الكافي: 5/427.
2- مباني العروة الوثقى: 32/193.

يذكره بتفصيل، وتعرَّض له مَن تأخَّر عنه من الأعلام في الأصول، وفي كتاب النِّكاح في الفقه، وهو أنَّه كيف خصَّ الإمام (علیه السلام) الجهل بالحكم بالجهل المركّب، والجهل بالموضوع بالجهل البسيط مع أنَّه في كليهما يُتصوَّر كلا القسمين؟! وقد تعرَّض الأعلام للجواب عن هذا الإشكال بوجوهٍ، وممَّا يمكن أن يقال في المقام - وهو مذكور في كلماتهم بصورة أو بأخرى - إنَّه في مورد الحكم يكون الجهل عذراً فيما إذا كان قاطعاً بالخلاف، وأمَّا إذا كان جاهلاً بسيطاً فلا يكون معذوراً، بل هو ملزم بأن يسأل، وأن يحتاط.. إلى آخر ما ذُكر في محلِّه، وحيث فُرض في المقام أنَّ الجاهل هذا معذور حيث يستفاد من كلام الإمام (علیه السلام) أنَّه معذور في كلا الجهلين - أي الجهل بالحكم والجهل بالموضوع - ولذلك فرض في مورد الجهل بالحكم أن يكون قاطعاً بالخلاف حتَّى يكون عذراً، وإلَّا فلا يكون عذراً.

هذا بالنِّسبة إلى الجهل بالحكم.

أمَّا في مورد الجهل بالموضوع فكلاهما عذر - سواء الجهل المركّب والجهل البسيط -، فلا يجب عليه أن يفحص، ويسأل عن المرأة الّتي يَحتمل أن تكون في عدَّتها،هل هي في عدَّة أو لا؟ على كلام في المتهمة ذُكر في محلِّه، فكلاهما - الجهل المركّب والجهل البسيط - عذر، ولكنَّ الغالب هو الجهل البسيط في مورد الموضوع، فإنَّ هذا الذي يعلم بأنَّ هذه امرأة قد تزوّجت من قبلُ بطبيعة الحال يشكّ في أنَّه هل انتهت عدَّتها أو لا؟ ومع ذلك لا يجب عليه الفحص - على ما ذُكر - فالجهل في مورد الموضوع في الأعم الأغلب يكون من قبيل الجهل البسيط؛ ولذلك جعل الإمام (علیه السلام) مورد الجهل بالحكم من قبيل الجهل المركّب، ومورد الجهل بالموضوع من قبيل الجهل البسيط.

إذاً هذه الرِّواية على كلِّ تقدير لا يستفاد منها التَّفصيل، والقول بأنَّ الجهل

ص: 102

بالموضوع ليس أهون من الجهل بالحكم ليس كذلك، وإنَّما الذي يستفاد من الرِّواية أنَّ الجهل المركّب أهون من الجهل البسيط من حيث إنَّ الجاهل المركّب لا يتمكَّن من الاحتياط)(1).

أقول: ما ذكره (دامت برکاته) في فقه الصَّحيحة والإشكال عليها ودفعه يتلاءم فيما هو المهمّ في المقام من كون روح التَّفصيل بين الجهل المركَّب والجهل البسيط مع ما ذكره جماعة من الأعلام كالسّيّد المجدِّد الشِّيرازيّ(2)، والسّيِّد الفشاركيّ(3)، والأشتيانيّ(4)، والمحقِّق الخراسانيّ(5)، والمحقِّق النّائينيّ(6)، والمحقِّق العراقيّ(7) (قدس سرهم) وغيرهم، غير أنَّه (دامت برکاته) اعتمد فكرة الحمل على المثاليَّة وتوسيط المعذِّر، وهم اعتمدوا فكرة المفهوم العامّ، و اختلاف الموردين من حيث الفرد الغالب والنَّادر.

والشَّيخ عبد الكريم الحائريّ ناقش جواب شيخه - المجدِّد الشّيرازيّ - وذلك بالتَّسوية بين وضوح الحكم بين المسلمين و غلبة التَّفتيش عن حال المرأة من حيث اقتضائهما العلم بالحكم، والتَّعرف على حال المرأة عند الالتفات، فعدم معرفة حال

ص: 103


1- شرح المناسك، شرح قوله ( ولكن لو قدّمه عليهما أو على الذبح نسياناً أو جهلاً منه بالحكم أجزأه ولم يحتج إلى الإعادة ) تحت عنوان الحلق والتقصير - ما قبل المسألة 403، مجلس البحث ليوم الثلاثاء (21 شعبان 1439 ﻫ)، بتصرّف -
2- تقرير بحث المجدّد الشيرازي للروزدري: 4/ 45 - 46.
3- الرسائل الفشاركية: 54.
4- بحر الفوائد في شرح الفرائد: 2 / 22.
5- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 1/ 201.
6- أجود التقريرات: 2 / 183 حيث ركز على الغلبة ولم يهتم بفكرة المفهوم العام.
7- نهاية الأفكار: 3/ 232.

المرأة بعد الالتفات نادر كعدم العلم بالحكم بعد الالتفات إليه، وبعد تأمّله في مناقشته أجاب هو عن الإشكال بما أمر بعده بالفهم، من حمل الجهالة على الغفلة في كلتا الصُّورتين، وحمل قول السَّائل بجهالة (إنَّ الله حرَّم عليه ذلك) على الجهالة في الحكم التّكليفيّ، وقوله (أم بجهالته) أنَّها في العادة على جهالته بأنَّ العدَّة موضوعة للأمر الوضعيّ أعني الحرمة الأبديّة.

و عليه يكون وجه قدرته على الاحتياط في الثَّاني أنَّه بعد الالتفات يتمكَّن من رفع اليد عن الزّوجة بخلاف الأوَّل فإنَّه عمل بالفعل المحرَّم شرعاً ولا يتمكَّن من تداركه بعد الالتفات(1).

وما ذكره السّيّد الأستاذ (دامت برکاته) لو تمّ فإنَّما يتمّ بناءً على اتّحاد العذر في الحكمين الوضعيّ والتَّكليفيّ فإنَّه اعتمد في دفع الإشكال على المعذِّرات التَّكليفيَّة في حين أنَّ المراد في الصَّحيحة المعذِّرات الوضعيَّة كما هو واضح، وبذلك نوقشت دلالتها على البراءة في كلمات غير واحد(2)، والاتِّحاد في المعذِّرات قابل للتَّأمُّل.

ثُمَّ إنَّه لعلَّ الوجه في ما سلكه السّيّد الأستاذ (دامت برکاته) من توسيط التَّعذير هو إشكال الشّيخ الحائريّ على شيخه.

وكيفما كان، وفق ما تقدَّم من وجوه لا تصلح الصَّحيحة دليلاً على أهونيّة الجهل بالحكم من الجهل بالموضوع.

ولكن يمكن أن يقال: هناك وجه آخر يحافظ على موضوعيَّة الشُّبهتين - لعلَّه مراد

ص: 104


1- درر الفوائد: 2 / 248.
2- منهم السّيّد الفشاركي في الرسائل الفشاركيّة: 53، والشيخ الأنصاري في فرائد الأصول: 2/ 45، والمحقق النائيني في أجود التقريرات: 2/ 183.

المحدّث البحرانيّ(1) والنراقيّ(2)، فتأمّل! - وهو أنَّ المراد بالجهالة في الموضعين الغفلة وعدم الالتفات، ومعه لا يتيسَّر الاحتياط ممّن لم يطرق ذهنه الحكم بالحرمة. أمَّا من كان ملتفتاً إلى الحكم عالماً به فسوف يلتفت إلى تحقُّق الموضوع وعدمه، وبالتالي يمكنه الاحتياط.

وبعبارة أخرى: مع كون المراد في الموضعين هو الغفلة يمكن أن يكون الوجه في التَّفريق هو أنَّ العالم بالحكم يتوفَّر على منشأ للاحتياط في موضوعات الأحكام بعد علمه بنفس الأحكام، فيلاحظ ويوجّه نظره الى موضوعاتها, وهذا غير متحقِّق بحقِّ مَن لم يطرق ذهنه وجود هكذا حكم.

وقد يقال: بأنَّ هذا الوجه أوْلى ممَّا أفاده السّيّد الأستاذ (دامت برکاته)؛ لأنَّه مستغنٍِ عن مؤنة الحمل على المثاليّة، وهي أكثر من مؤنة حمل الجهالة على خصوص الغفلة.

اللهم إلَّا أن يقال: إنَّ مرجع هذا الى التردُّد في الموضوع، غايته من جهة علمه بالحكم، والمفروض أن نفرّق بينهما مع افتراض بقاء الغفلة عن تحقُّق الموضوع، والغافل عن الموضوع حين هو غافل لا يمكن أن يحتاط، فتأمَّل!

والحاصل: إن قبلت دلالة الرِّواية يتمّ ما ذهب إليه السّيّد الخوئيّ (قدس سره) من اعتبار العلم بالحكم مع العلم بالموضوع في الحرمة في بعض الصور، وإلَّا فالمدار على العلم بالموضوع.

ثُمَّ إنَّه يمكن أن يقال - كما ذهب إليه السّيّد الأستاذ (دامت برکاته) (3)- إنَّ الأمر على عكس ما

ص: 105


1- الحدائق الناضرة: 1/ 74.
2- جامعة الأصول: 100.
3- شرح المناسك، شرح قوله (ولكن لو قدّمه عليهما أو على الذبح نسياناً أو جهلاً منه بالحكم أجزأه ولم يحتج إلى الإعادة) تحت عنوان الحلق والتقصير - ما قبل المسألة 403، مجلس البحث الشريف ليوم الثلاثاء (21 شعبان 1439 ﻫ).

أُريد الاستدلال عليه بالصّحيحة فإنَّ الارتكاز على أهونيّة الجهل بالموضوع من الجهل بالحكم وليس العكس، وذلك للزوم الفحص في الشُّبهة الحكميَّة دون الموضوعيَّة.

ولكن قد يقال: بأنَّ ارتكاز التَّفريق بين الشُّبهتين ليس ناشئاً من حاقّ الموضوعيَّة والحكميَّة، وإنَّما من تراكمات خارجيَّة، فإنَّه في الموضوعيَّة لعدم الدَّليل أو الدَّليل على العدم، وفي الحكميَّة إنَّما التزم بلزوم الفحص لخصوصية في طريقة تبليغ الأحكام الشَّرعيَّة، فإنَّها مبنيّة على القرائن المنفصلة أو نتيجة لظروف اعتورت تبليغها ممَّا وفّر دواعي إبراز غير الأحكام الواقعيَّة مكانها، أو إبرازها بغير حدودها من تقيَّة ونحوها، أو لكبرى عقلائيَّة في الاستنباط من المدوّنات القانونيَّة خاصَّة أو مطلق المدونات العلميَّة, كما وأنَّ العلم الإجمالي يغطّي مساحة وافرة، على ما هو مذكور في أدلّة لزوم الفحص؛ ولذا لم يكن العمل على الفحص عند أغلب مَن يسمع من المعصوم (علیه السلام) مباشرةً، ولم يتَّضح قيام سيرة عقلائيَّة من قبل غير المتخصّصين على الفحص في الشُّبهة الحكميَّة، وهذا جارٍ بلحاظ محدّدات الحكم ومعارضاته، وهو جارٍ أيضاً بلحاظ أصل الحكم، فتأمَّل!

وكيفما كان، يمكن أن يقرَّب ما وجّه به السّيّد الخوئيّ (قدس سره) عدم تعرّض الروايات لاعتبار العلم بالحكم من تحقّق العلم بالحكم خارجاً ما تقدّمت الإشارة إليه في تقريب دلالة رواية علي بن جعفر(1)، فقد ورد في معتبرة أبي عبيدة عن أبي عبد الله (علیه السلام): (قلت: فإنْ كانت جاهلةً بما صنعت؟ قال: فقال: أليس هي في دار الهجرة؟ قلت: بلى. قال: فما

ص: 106


1- يلاحظ: مجلَّة دراسات علميَّة، العدد (12): 71.

من امرأةٍ اليوم من نساء المسلمين إلّا وهي تعلم أنّ المرأة المسلمة لا يحلّ لها أنْ تتزوّج زوجين)(1). وفي رواية يزيد الكناسي عن أبي جعفر (علیه السلام): (قلت: أرأيت إنْ كان ذلك منها بجهالة؟ قال: فقال: ما من امرأةْ اليوم من نساء المسلمين إلّا وهي تعلم أنّ عليها عدّة في طلاق أو موت، ولقد كنّ نساء الجاهليّة يعرفن ذلك)(2), فإذا كانت تعلم أنّ عليها عدّة من زوجها لا تقرب فيها الرجال فكيف تجهل أن يحلّ لها الزواج، وهي في ذمّة رجل آخر؟!

لا تفصيل بين أقسام الجهل

ثمَّ إنّه لا فرق بين أقسام الجهل من حيث البساطة والتركيب، ولا من حيث التقصير وعدمه، فإنّه بالنسبة إلى الرجل يدور أمر الروايات - محطّ الاهتمام - بين عدم التعرّض لحاله من حيث العلم والجهل أصلاً، والتعرّض له على نحو كلّيّ فرضيّ.

أمّا بالنسبة إلى المرأة فالأمر يدور بين ما لم تتعرّض لحالها، وبين ما ذكر فيها عناوين لا يمكن حملها على خصوص حالات التردّد وعدم العذر، مثل: نعي إليها, فقدت زوجها، خبروها، بلغها، ولمّا كانت هذه الروايات دالة على الحرمة فهي تشمل كلّ حالات عدم العلم بما فيها حالات التردّد وعدم العذر، فلا يحتمل اختصاص الحرمة بحالات العذر وعدم التردّد.

نعم، ورد مثل هذه التعابير - نعي إليها - في إحدى روايات الحلّيّة، وهي معتبرة زرارة، فيمكن أن يقال بأنّها لا تشمل حالات التردّد وعدم العذر.

ص: 107


1- الكافي: 7/192.
2- المصدر السابق.

مفاتيح القول بالحلّيّة في الصورة الثالثة

من خلال ما تقدّم يمكن تعيين بعض المطالب كنقاط مفصليَّة في القول بالحلّيّة أو القول بالحرمة في المقام، فمَّما يدفع باتّجاه القول بالحلّيّة ما يلي:

1- الخدش السندي في معتبرة أديم، أو منع إطلاقها للجاهلة.

2- المناقشة في سند معتبرة زرارة الأولى - الثانية من القسم الأوّل -.

3- المناقشة في متن معتبرة زرارة الثانية - الثالثة من القسم الثاني -.

4- تعميم معتبرتي زرارة - الروايتين الثانية والثالثة من القسم الأوَّل - لعلم الرجل.

5- منع دلالة الاعتداد والاستحلال في معتبرتي زرارة على الدخول.

6- ترميم سند رواية عبد الرحمن.

7- قبول المناسبات في حقّ معتبرتي زرارة، ومنعها في حق رواية عبد الرحمن.

8- قبول دلالة معتبرة زرارة - الثالثة من القسم الثاني -.

9- فهم الدخول من لفظ التفريق.

10- الالتزام بتساقط روايات زرارة الثلاث.

وقد اتّضح موقفنا منها فيما تقدّم.

ص: 108

الخاتمة: فيها حصيلة النتائج وبعض التعميم

وممّا تقدّم يظهر أنَّ حاصل الروايات أنّ الحكم في الصور الأربع المتقدّمة كالآتي:

أمّا الصورتان الأولى والثانية - علم الزوج مع الدخول وبدونه - فالحكم فيهما هو الحرمة المؤبّدة، سواء علمت المرأة أم لم تعلم؛ لأنّها في صورة العلم داخلة تحت معتبرة أديم، وأيضاً تحت معتبرتي زرارة إن تمّت المناسبات، وفي صورة الجهل تحت معتبرتي زرارة، وأيضاً تحت معتبرة أديم لو لم يتأمّل في إطلاقها.

وأمّا الصورة الثالثة - جهل الرجل مع الدخول - فحكمها كالآتي:

1- الحلّيّة على فرض المنع من المناسبات في رواية عبد الرحمن، وقبولها في المعتبرتين مع قبول إطلاق معتبرة أديم؛ لأخصّيّة رواية عبد الرحمن منها ومن المعتبرتين، وكذلك يحكم بالحلّيّة لو لم نقبل إطلاق معتبرة أديم؛ وذلك للتعارض، والرجوع إلى عمومات الحلِّ.

2- الحلّيّة على فرض قبول إطلاق معتبرة أديم وقبول المناسبات مطلقاً - في معتبرتي زرارة وفي رواية عبد الرحمن - أو في خصوص رواية عبد الرحمن دون المعتبرتين، أو منعنا منها مطلقاً مع الاعتناء بمعتبرة زرارة - الثالثة من القسم الثاني - لعمومات الحلِّ بعد التعارض بينها وبين معتبرة أديم، فالنسبة هي العموم من وجه كما تقدّم.

3- الحرمة على الفرض السابق مع عدم الاعتناء بمعتبرة زرارة من القسم الثاني؛ وذلك لدخولها تحت معتبرة أديم بعد تعارض المعتبرتين من جهة، وصحيحة ابن الحجَّاج ورواية عبد الرحمن من جهة أخرى، فالنسبة هي العموم من وجه.

ص: 109

وأمّا الصورة الرابعة - جهل الزوج مع عدم الدخول - فالحكم فيها هو الحلّيّة سواء قبلنا إطلاق معتبرة أديم؛ لأخصّيّة صحيحة ابن الحجَّاج عنها، بعد خروجها عن مورد معتبرتي زرارة أو لم نقبل الإطلاق؛ لعمومات الحلِّ بعد تعارضها مع الصحيحة.

هذا بناءً على عدم تساقط روايات زرارة الثلاث، وإلّا فالحرمة مختصّة بصورة علمهما لو منع شمول معتبرة أديم للجاهلة، ومع التسليم بشمولها للجاهلة تتوسّع الحرمة لتشمل كلّ صور علم الزوج.

هذا، وقد ادّعى السَّيّد صاحب الرياض الإجماع على الحلّيّة في الصورة الأخيرة(1)، ونفى عنها الخلاف المحقّق البحراني(2)، والشَّيخ الأنصاري(3)، وقد اتّضح من نقل الأقوال أنّه لم يظهر مخالف فيها إلّا صاحب ما يعرف ب-(الفقه الرضوي)؛ لإطلاق عبارته.

والخلاف في الصورتين الثانية والثالثة يظهر ممّا تقدّم في نقل الأقوال.

والصورة الأولى وإنْ استشكل جماعة في مسألة الحرمة بعنوان نكاح ذات البعل، إلّا أنّها داخلة ضمن مسألة الزنا بذات البعل، والمعروف فيها الحرمة.

ثُمّ إنّه لم يفرّق في كلمات الأعلام (رضوان الله تعالی علیهم) بين كون الزوجة حرّة أو أمة مزوّجة، ولا بين الزواج بالعقد الدائم أو المنقطع في العقدين السَّابق واللاحق، وصرَّح في العروة بعدم الفرق، وتبعه مَنْ تأخّر. والوجه في ذلك إطلاق الأدلّة، مع عدم ظهور خلاف كما عن السَّيّد الحكيم (قدس سره) (4)، وأكد السَّيّد الخوئي (قدس سره) الإطلاق(5).

ص: 110


1- يلاحظ: رياض المسائل: 10/205، الشرح الصغير: 2/377.
2- يلاحظ: الحدائق الناضرة: 23/580.
3- يلاحظ: كتاب النكاح: 418.
4- يلاحظ: مستمسك العروة الوثقى: 14/133.
5- يلاحظ: مباني العروة الوثقى: 32/193.

أقول: يمكن أن يقال: بأنَّ الإطلاق متحقِّق في أغلب الروايات كما أنَّه في معتبرة زرارة الثانية - والتي هي الثالثة من القسم الأول - وصحيحة ابن الحجَّاج ورواية عبد الرحمن يحمل موت الزوج وطلاقه على المثاليَّة، فلا تختص بالدائميَّة. نعم، معتبرة زرارة الأولى - الثانية من القسم الأوَّل - يمكن أن يقال: ظاهرها الاختصاص بكون الزواج الأوَّل دائميّاً؛ لمكان الطلاق، كما يمكن أنْ يدَّعى في الزواج الثاني فيها، بل في الزواجين في بقية الروايات الانصراف إلى الزواج الدائمي، فتأمَّل!

والحمد لله ربِّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمَّد وآله الطّيّبين الطّاهرين.

* * *

ص: 111

مصادر البحث

القرآن الكريم.

1. الأبواب (رجال الطوسي): شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ (قدس سره) (ت 460ﻫ)، تحقيق: جواد القيّوميّ الأصفهاني، الناشر: مؤسسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المقدّسة، ط1، سنة الطبع: 1415ﻫ.

2. أجود التقريرات: تقرير بحث النائيني للسيد الخوئي (قدس سرهما)، مطبعة العرفان، صيدا سنة الطبع 1933م.

3. اختيار معرفة الرجال، المعروف ب-(رجال الكشي): شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسيّ (قدس سره) (ت 460ﻫ)، تصحيح وتعليق: المعلّم الثالث مير داماد الاسترباديّ، تحقيق: السَّيّد مهدي الرجائي، الناشر: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام)، طبع: مطبعة بعثت - قم، سنة الطبع: 1404ﻫ.

4. إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان: الشيخ جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف ابن المطهّر (قدس سره)، المعروف ب-(العلّامّة الحلّيّ) (ت 726ﻫ)، تحقيق: الشيخ فارس الحسّون، الناشر: مؤسسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة, طبع: مطبعة مؤسّسة النشر الإسلاميّ, ط1, سنة الطبع: 1410ﻫ ق.

5. الاستبصار فيما اختلف من الأخبار: شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ (قدس سره) (ت 460ﻫ)، تحقيق وتعليق: السَّيّد حسن الموسوي الخرسان (قدس سره)، الناشر: دار الكتب الإسلاميّة، طهران، بازار سلطانيّ.

6. أسد الغابة في معرفة الصحابة: عزّالدين أبو الحسن عليّ بن أبي الكرم محمّد الشيباني،

ص: 112

المعروف ب-(ابن الأثير) (ت 630ﻫ)، منشورات: إسماعيليان - طهران.

7. الإصابة في تمييز الصحابة: الحافظ أحمد بن عليّ بن حجر العسقلانيّ (ت 852ﻫ)، دراسة وتحقيق وتعليق: عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ عليّ محمّد معوّض، الناشر: دار الكتب العلميّة - بيروت، ط1، سنة الطبع: 1415ﻫ.

8. إصباح الشيعة بمصباح الشريعة: قطب الدين البيهقي الكيدريّ (قدس سره) (من أعلام القرن السادس)، تحقيق: الشيخ إبراهيم البهادريّ، الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (علیه السلام)، ط1، المطبعة: اعتماد - قم، سنة الطبع: 1416ﻫ.

9. الأصول الستّة عشر: نخبة من الرواة, الناشر: دار الشبستري للمطبوعات (قم)، ط2، المطبعة: مهديّة، سنة الطبع: (1405 - 1363ﻫ).

10. أصول الفقه: الشيخ محمّد رضا المظفر (قدس سره) (ت1383ﻫ)، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المقدّسة.

11. الأمالي: الشيخ الصدوق أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي (قدس سره) (ت 381ﻫ)، تحقيق: قسم الدراسات الإسلاميّة - مؤسّسة البعثة، مركز الطباعة والنشر في مؤسّسة البعثة، ط1، سنة الطبع: 1417ﻫ.

12. الإمامة والتبصرة من الحيرة: المحدّث أبي الحسن علي بن الحسين بن بابويه القمي، (ت 329 ﻫ)، تحقيق ونشر: مدرسة الإمام المهديّ (علیه السلام) - قم المقدّسة،ط1, تاريخ الطبع: 1404ﻫ.

13. الأنساب: أبو سعد عبد الكريم بن محمّد بن منصور التميميّ السمعانيّ (ت 562ﻫ)، تقديم وتعليق: عبد الله عمر الباروديّ - مركز الخدمات والأبحاث الثقافيّة، ملتزم الطبع والنشر والتوزيع: دار الجنان، ط1، سنة الطبع: 1408ﻫ.

ص: 113

14. إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد: فخر المحقّقين الشيخ أبو طالب محمّد ابن الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّيّ (قدس سره) (ت 771ﻫ)، نمَّقه وعلَّق عليه وأشرف على طبعه: السَّيّد حسين الموسويّ الكرمانيّ والشيخ علي پناه الإشتهارديّ والشيخ عبد الرحيم البروجرديّ، المطبعة العلميّة بقم، ط1، سنة الطبع: 1387ﻫ ق.

15. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار: العلّامّة محمّد باقر المجلسيّ (قدس سره) (ت 1111ﻫ)، مؤسّسة الوفاء بيروت - لبنان، ط2 المصحّحة، سنة الطبع: 1403ﻫ.

16. بحر الفوائد في شرح الفرائد: الميرزا محمّد حسن الآشتياني (قدس سره) (ت1319ﻫ) طبعة قديمة موجودة ضمن قرص مكتبة أهل البيت (علیهم السلام).

17. بحوث في شرح المناسك، تقرير أبحاث السَّيّد محمّد رضا السيستانيّ (دامت برکاته)، بقلم الشيخ أمجد رياض والشيخ نزار يوسف، المطبعة: دار المؤرِّخ العربي، ط2، سنة الطبع: 1437ﻫ - 2016م.

18. بصائر الدرجات الكبرى في فضائل آل محمد (علیهم السلام): الشيخ أبو جعفر محمّد بن الحسن بن فروخ (رحمة الله)، الملقَّب ب-(الصفّار) (ت 290ﻫ)، تصحيح: الحاج ميرزا محسن، منشورات الأعلميّ - طهران، المطبعة: الأحمديّ - طهران، سنة الطبع: 1404ﻫ ق.

19. تبصرة المتعلّمين في أحكام الدين: الشيخ جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهر (قدس سره) المعروف ب-(العلّامّة الحلّيّ) (ت 726ﻫ)، تقديم: الشيخ حسين الأعلميّ، تحقيق: السَّيّد أحمد الحسينيّ - الشيخ هادي اليوسفيّ، الناشر: انتشارات فقيه - طهران، المطبعة: أحمدي، ط1، سنة الطبع: 1368ﻫ ش.

20. تحرير الأحكام الشرعيّة على مذهب الإماميّة: الشيخ جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهّر (قدس سره)، المعروف ب-(العلّامّة الحلّي) (ت 726ﻫ), الناشر:

ص: 114

مؤسّسة الإمام الصّادق (علیه السلام)، تحقيق: الشيخ إبراهيم البهادريّ، المطبعة: اعتماد - قم, ط1، سنة الطبع: 1420ﻫ.

21. التحفة السَّنيّة في شرح النخبة المحسنيّة: السَّيّد عبد الله بن نعمة الله الجزائري (رحمة الله) (ت 1173 ﻫ)، نسخة رقمية في برنامج مكتبة أهل البيت (علیه السلام).

22. تذكرة الفقهاء: الشيخ جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهّر (قدس سره)، المعروف ب-(العلّامّة الحلّيّ) (ت 726ﻫ) تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت (علیه السلام) لإحياء التراث - قم، ط1، سنة الطبع: 1414ﻫ.

23. تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة: المحدِّث الشيخ محمّد بن الحسن (قدس سره)، المعروف ب-(الحرّ العامليّ) (ت 1104ﻫ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، ط2، المطبعة: مهر - قم، سنة الطبع: 1414ﻫ.

24. تقرير بحث المجدّد الشيرازي (قدس سره): للروزدري المتوفّى حدود سنة 1290 ﻫ، تحقيق مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التّراث.

25. تلخيص المرام في معرفة الأحكام: الشيخ أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهّر (قدس سره) المعروف ب-(العلّامّة الحلّيّ) (ت 726ﻫ)، تحقيق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة، قسم إحياء التراث الإسلاميّ، المحقّق: الشيخ هادي القبيسيّ، الناشر: مركز انتشارات دفتر تبليغات إسلاميّ، المطبعة: مطبعة مكتب الإعلام الإسلاميّ، ط1، سنة الطبع: 1421ﻫ ق - 1379ﻫ ش.

26. التنقيح الرائع لمختصر الشرائع: الشيخ جمال الدين مقداد بن عبد اللَّه السيوريّ الحلّيّ (قدس سره) (ت 826 ﻫ)، تحقيق: السَّيّد عبد اللطيف الحسينيّ الكوه كمريّ، نشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشيّ، المطبعة: الخيام - قم، تاريخ الطبع: 1404ﻫ.

ص: 115

27. تهذيب الأحكام في شرح المقنعة للشيخ المفيد (رضوان الله علیه): شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ (ت 460ﻫ)، حقّقه وعلّق عليه: السَّيّد حسن الموسويّ الخرسان (قدس سره)، نشر: دار الكتب الإسلاميّة - طهران، ط3، المطبعة: خورشيد، سنة الطبع: 1364ﻫ ش.

28. جامع الخلاف والوفاق بين الإماميّة وبين أئمّة الحجاز والعراق: عليّ بن محمّد ابن القمي السبزواريّ، تحقيق: حسين الحسنيّ البيرجنديّ، الناشر: انتشارات زمينه سازان ظهور إمام عصر (علیه السلام)، ط1، المطبعة: پاسدار إسلام - قم.

29. جامع المدارك في شرح المختصر النافع: السَّيّد أحمد الخوانساريّ (قدس سره)، علّق عليه علي أكبر الغفاريّ، الناشر: مكتبة الصدوق - طهران، الطبعة الثانية 1355 ﻫ ش.

30. جامع المقاصد في شرح القواعد: الشيخ عليّ بن الحسين الكركيّ (قدس سره)، المعروف ب-(المحقّق الثاني) (ت 940 ﻫ)، تحقيق: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، المطبعة: المهدية - قم، الطبعة: الأولى - ربيع الأوّل 1408 ﻫ ق.

31. الجامع لأحكام القرآن: الشيخ أبو عبد الله محمّد بن أحمد الأنصاريّ القرطبيّ (ت 671ﻫ)، طبع: دار إحياء التراث العربيّ، بيروت - لبنان، ط2، سنة الطبع: 1405ﻫ.

32. الجامع للشرائع: الشيخ يحيى بن سعيد الحلّيّ الهذليّ (ت 690ﻫ)، الناشر: مؤسّسة سيد الشهداء - العلميّة، المطبعة العلميّة - قم، سنة الطبع: 1405ﻫ.

33. جامعة الأصول: المولى مهديّ النراقي (قدس سره) (ت 1209 ق ) الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي، ط 1، سنة الطبع 1422ﻫ، المطبعة: سلمان الفارسي، قم.

34. جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: الشيخ محمّد حسن النجفيّ (قدس سره) (ت 1266ﻫ)، حقّقه وعلّق عليه: الشيخ عباس القوچانيّ, نهض بمشروعه الشيخ عليّ الآخوندي, دار الكتب الإسلاميّة - طهران.

ص: 116

35. الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة: المحدِّث الشيخ يوسف البحرانيّ (قدس سره) (ت 1186ﻫ)، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة.

36. درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: الشيخ محمّد كاظم الآخوند الخراساني (قدس سره)، مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، ط1، 1410ﻫ، طهران.

37. درر الفوائد: الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي (قدس سره) (ت1355ﻫ) مع تعليقاته، وتعليقات نافعة ورسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ محمّد علي الأراكي (قدس سره)، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، ط 5.

38. دعائم الإسلام وذكر الحلال والحرام والقضايا والأحكام عن أهل بيت رسول الله (علیهم السلام): القاضي أبي حنيفة النعمان بن محمّد بن منصور بن أحمد بن حيون التميميّ المغربي، تحقيق: آصف بن عليّ أصغر فيضيّ، طبع ونشر: دار المعارف بمصر، سنة الطبع: 1383ﻫ.

39. الرجال، أبو جعفر أحمد بن أبي عبد الله البرقيّ (رحمة الله) (ت 274ﻫ)، طبع ونشر: دانشگاه - طهران.

40. الرسائل الفشاركية: السيّد محمّد الفشاركي (قدس سره) (ت1316ﻫ)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدّسة ط 1، 1413ﻫ.

41. الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة: الشيخ زين الدين الجبعيّ العامليّ (قدس سره)، المعروف ب-(الشهيد الثانيّ) (ت 965ﻫ)، تحقيق وتعليق: السَّيّد محمّد كلانتر (قدس سره)، نشر: جامعة النجف الدينية، ط2، سنة الطبع: 1398ﻫ.

42. رياض المسائل: المير سيد علي الطباطبائي (قدس سره) (ت 1231ﻫ)، تحقيق وطبع: مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المقدّسة، ط1، سنة الطبع: 1412ﻫ.

ص: 117

43. السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي: الشيخ أبو جعفر محمّد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّيّ (قدس سره) (ت 598ﻫ)، ط2، الطبع: مطبعة مؤسّسة النشر الإسلاميّ، سنة الطبع: 1410ﻫ.

44. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام: الشيخ أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن الحلّيّ (قدس سره)، المعروف ب-(المحقّق الحلّيّ) (ت 676ﻫ)، تعليق: السَّيّد صادق الشيرازيّ، الناشر: انتشارات استقلال - طهران، المطبعة: أمير - قم، ط2، سنة الطبع: 1409ﻫ.

45. الشّرح الصّغير في شرح المختصر النّافع: المير سيّد عليّ الطباطبائيّ (قدس سره) (ت 1231 ﻫ)، تحقيق: السَّيّد مهدي الرّجائي، نشر: مكتبة المرعشيّ النجفيّ - قم المقدّسة، طبع: مطبعة سيّد الشهداء (علیه السلام) - قم، سنة الطبع: 1409ﻫ, الطبعة: الأولى.

46. صحيح البخاري: أبو عبد الله محمّد بن إسماعيل البخاريّ الجعفيّ (ت 256ﻫ)، نشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، سنة الطبع: 1401ﻫ، طبعة بالأوفست عن طبعة دار الطباعة العامرة بإستانبول.

47. العروة الوثقى: السَّيّد محمّد كاظم الطباطبائيّ اليزديّ (قدس سره) (ت 1337ﻫ) مع تعليقات عدة من الفقهاء العظام، تحقيق وطبع: مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، ط1، سنة الطبع: 1417ﻫ.

48. علل الشرائع: أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القميّ (قدس سره) المعروف ب-(الشيخ الصدوق) (ت 381ﻫ)، منشورات المكتبة الحيدريّة ومطبعتها في النجف 1385ﻫ.

49. غاية المرام في شرح شرائع الإسلام: الشيخ المفلح الصُميري البحراني (قدس سره) (ت ق

ص: 118

ﻫ)، تحقيق: الشيخ جعفر الكوثرانيّ العامليّ، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، سنة الطبع: 1420ﻫ - 1999م.

50. غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع: السَّيّد حمزة بن عليّ بن زهرة الحلبيّ (قدس سره) (ت 585ﻫ)، تحقيق: الشيخ إبراهيم البهادريّ، الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (علیه السلام)، المطبعة: اعتماد - قم، ط1، سنة الطبع: 1417ﻫ.

51. فرائد الأصول: الشيخ مرتضى الأنصاري (قدس سره)، إعداد وتحقيق لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم - قم: مجمع الفكر الإسلامي، ط 1، سنة الطبع 1419 ق،

52. فقه الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) (عرض واستدلال): الشيخ محمّد جواد مغنية (قدس سره)، الناشر: مؤسّسة أنصاريان للطباعة والنشر - قم، المطبعة: الصدر - قم، ط2، سنة الطبع: 1421ﻫ.

53. الفقه المنسوب للإمام الرضا (علیه السلام) والمشتهر ب-(فقه الرضا): تحقيق: مؤسّسة آل البيت (علیه السلام) لإحياء التراث - قم المشرفة، نشر: المؤتمر العالميّ للإمام الرضا (علیه السلام) - مشهد المقدّسة، ط1، سنة الطبع: 1406ﻫ.

54. فهرست أسماء مصنّفي الشيعة، المشتهر ب-(رجال النجاشي): الشيخ الجليل أبو العبّاس أحمد بن عليّ بن أحمد بن العبّاس النجاشيّ الأسديّ الكوفيّ (رحمة الله) (ت 450ﻫ)، تحقيق: السَّيّد موسى الشبيريّ الزنجانيّ، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين ب-(قم المشرّفة)، ط5، سنة الطبع: 1416ﻫ.

55. الفهرست: شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ (قدس سره) (460ﻫ)، تحقيق: الشيخ جواد القيومي، طبع ونشر: مؤسّسة (نشر الفقاهة)، ط1، المطبعة: مؤسّسة النشر الإسلاميّ.

ص: 119

56. قبسات من علم الرجال، أبحاث السَّيّد محمّد رضا السيستانيّ (دامت برکاته)، جمعها ونظّمها: السَّيّد محمّد البكّاء، طبع: دار المؤرِّخ العربي بيروت - لبنان، ط1، سنة الطبع: 1437ﻫ - 2016م.

57. قرب الإسناد: الشيخ الجليل أبو العباس عبد الله بن جعفر الحميريّ (رحمة الله) (ق3ﻫ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت (علیه السلام) لإحياء التراث، ط1، المطبعة: مهر - قم، سنة الطبع: 1413ﻫ.

58. قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام: الشيخ أبو منصور الحسن بن يوسف ابن المطهر (قدس سره) المعروف ب-(العلّامّة الحلّي) (ت 726ﻫ) تحقيق: مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، ط1، سنة الطبع: 1413ﻫ.

59. الكافي في الفقه: الشيخ تقي الدين أبو الصلاح الحلبيّ (قدس سره) (ت 447ﻫ)، تحقيق: رضا أستادي، طبع ونشر: مكتبة الإمام أمير المؤمنين العامّة - أصفهان.

60. الكافي: ثقة الإسلام أبو جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (ت 328 /329ﻫ)، صحّحه وعلّق عليه: علي أكبر الغفاري، الناشر: دار الكتب الإسلامية - طهران, ط3، سنة الطبع: 1388ﻫ.

61. كتاب النكاح: الشيخ محمّد علي الأراكيّ (قدس سره) (ت 1415ﻫ)، الناشر: نور نگار، ط1، المطبعة: اعتماد، سنة الطبع:1377ﻫ.

62. كتاب النكاح: الشيخ مرتضى الأنصاريّ (قدس سره) (ت 1281ﻫ)، إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، ط1، المطبعة: باقري - قم، 1415 ﻫ.

63. كشف الرموز في شرح المختصر النافع: الشيخ زين الدين أبو عليّ الحسن بن أبي طالب بن أبي المجد اليوسفيّ (قدس سره)، المعروف ب-(الفاضل الآبي) (ت 690 ﻫ)، تحقيق:

ص: 120

الشيخ عليّ پناه الإشتهارديّ، الحاج آغا حسين اليزديّ، نشر: مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، سنة الطبع: 1408ﻫ.

64. كشف اللثام عن قواعد الأحكام: الشيخ بهاء الدين محمّد بن الحسن الأصفهانيّ (قدس سره)، المعروف ب-(الفاضل الهنديّ) (ت 1137ﻫ)،تحقيق: مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، ط1، سنة الطبع: 1416ﻫ.

65. كفاية الفقه المشتهر ب-(كفاية الأحكام): المولى محمّد باقر السبزواريّ (قدس سره) (ت 1090ﻫ)، تحقيق: مرتضى الواعظيّ الأراكيّ، طبع ونشر: مؤسّسة النشر الإسلاميّ، ط1، سنة الطبع: 1423ﻫ.

66. لب اللباب في تحرير الأنساب: الشيخ جلال الدين عبد الرحمن الأسيوطيّ الشافعي (ت 911ﻫ)، الناشر: دار صادر بيروت.

67. اللباب في تهذيب الأنساب: عزّ الدّين ابن الأثير الجزريّ (ت 630ﻫ)، تحقيق: الدكتور إحسان عباس، طبع ونشر: دار صادر - بيروت.

68. لسان الميزان: الحافظ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن عليّ بن حجر العسقلانيّ (ت 852ﻫ)، منشورات: مؤسسة الأعلميّ للمطبوعات، بيروت - لبنان، ط2، سنة الطبع: 1390ﻫ.

69. اللمعة الدمشقية: الشيخ محمّد بن جمال الدين مكّي العامليّ (قدس سره) (الشهيد الأوّل) (ت 786ﻫ)، منشورات: دار الفكر، المطبعة: قدس - قم، ط1، سنة الطبع: 1411ﻫ.

70. المباني في شرح العروة الوثقى (كتاب النكاح) تقرير بحث السّيّد الخوئي (قدس سره): السَّيّد محمد تقي الخوئي، نشر: مؤسّسة إحياء آثار الإمام الخوئي (قدس سره)، ط2، سنة الطبع: 1426ﻫ.

ص: 121

71. المحاسن: الشيخ أبو جعفر أحمد بن محمّد بن خالد البرقي (قدس سره) (ت 274ﻫ)، تحقيق: السَّيّد جلال الدين الحسيني، الناشر: دار الكتب الإسلامية، سنة الطبع: 1370ﻫ.

72. المختصر النافع في فقه الإماميّة: الشيخ أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن الحلّيّ (قدس سره)، المعروف ب-(المحقّق الحلّيّ) (ت 676ﻫ)، منشورات: قم - الدراسات الإسلامية في مؤسسة البعثة,ط2، سنة الطبع: 1410ﻫ.

73. مختصر بصائر الدرجات: الشيخ حسن بن سليمان الحلّيّ (رحمة الله) (ت ق9ﻫ)، منشورات: المطبعة الحيدريّة في النجف، ط1، سنة الطبع: 1370 ﻫ.

74. المراسم العلويّة في الأحكام النبويّة: الشيخ أبو يعلى حمزة بن عبد العزيز الديلميّ (قدس سره) (ت 448ﻫ), تحقيق: السَّيّد محسن الحسينيّ الأمينيّ، الناشر: المعاونيّة الثقافيّة للمجمع العالميّ لأهل البيت (علیهم السلام)، المطبعة: أمير - قم، سنة الطبع: 1414ﻫ.

75. مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام: الشيخ الجواد الكاظميّ (ت ق11ﻫ), تحقيق وتعليق: محمّد باقر شريف زاده، نشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة، مطبعة: حيدريّ.

76. مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام: الشيخ زين الدين بن علي العامليّ (قدس سره)، المعروف ب-(الشهيد الثانيّ) (ت 965ﻫ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة المعارف الإسلاميّة، ط1، المطبعة: بهمن - قم، سنة الطبع: 1413ﻫ.

77. المسائل الشرعيّة: السَّيّد موسى الشبيريّ الزنجانيّ (دام ظله)، نسخة كمبيوترية.

78. مسائل عليّ بن جعفر ومستدركاتها: عليّ بن جعفر ابن الإمام الصادق (علیه السلام)، الملقّب ب-(العريضيّ) (ق 2)، تحقيق وجمع: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، نشر: المؤتمر العالميّ للإمام الرضا (علیه السلام)، المطبعة: مهر - قم، ط1، سنة الطبع: 1409ﻫ.

ص: 122

79. مستمسك العروة الوثقى: السَّيّد محسن الطباطبائيّ الحكيم (قدس سره) (ت 1390ﻫ)، منشورات: مكتبة المرعشيّ النجفيّ، مطبعة: الآداب - النجف الأشرف، ط4، سنة الطبع: 1404ﻫ.

80. مستند الناسك في شرح المناسك تقرير بحث السَّيّد الخوئي (قدس سره) (ت 1413ﻫ): بقلم الشيخ مرتضى البروجرديّ (قدس سره)، ط1، المطبعة: دار المؤرّخ العربيّ، سنة الطبع: 1435ﻫ.

81. المعتمد في شرح العروة الوثقى (شرح مناسك الحج) تقرير بحث السَّيّد الخوئي (قدس سره) (ت 1413ﻫ): السَّيّد محمّد رضا الخلخاليّ (قدس سره)، نشر وطبع: مؤسّسة إحياء آثار الإمام الخوئيّ، ط2، سنة الطبع: 1426ﻫ.

82. معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة: السَّيّد أبو القاسم الموسويّ الخوئيّ (قدس سره) (ت 1413ﻫ)، ط5، سنة الطبع: 1413ﻫ.

83. مفاتيح الشرائع: المولى محمّد محسن (قدس سره)، المشتهر ب-(الفيض الكاشانيّ) (ت1091ﻫ)، تحقيق: السَّيّد مهدي الرجائي، نشر: مجمع الذخائر الإسلاميّة، طبع: مطبعة الخيام - قم، تاريخ الطبع: 1401ﻫ.

84. المقنعة: الشيخ أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان العكبريّ البغداديّ (قدس سره)، الملقَّب ب-(الشيخ المفيد) (ت 413ﻫ), تحقيق ونشر: مؤسّسة النشر الإسلاميّ، ط2، سنة الطبع: 1410ﻫ.

85. ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار: العلّامّة محمّد باقر المجلسيّ (رحمة الله) (ت 1111ﻫ)، تحقيق: السَّيّد مهدي الرّجائي، نشر: مكتبة المرعشيّ - قم, طبع: مطبعة الخيام - قم, سنة الطبع: 1406ﻫ.

ص: 123

86. من لا يحضره الفقيه: أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين ابن بابويه القميّ (قدس سره) المعروف ب-(الشيخ الصدوق) (ت 381ﻫ)، صحّحه وعلّق عليه: عليّ أكبر الغفاريّ، الناشر: جماعة المدرّسين في الحوزة العلميّة في قم المقدّسة، ط2.

87. مناسك الحج: السَّيّد الخوئيّ (قدس سره) (ت1413ﻫ)، طبع ونشر: مؤسّسة إحياء آثار الإمام الخوئيّ.

88. منهاج الصالحين (المعاملات): السَّيّد علي الحسينيّ السيستانيّ (دام ظله الوارف), ط1، سنة الطبع: (1427ﻫ).

89. منهاج الصالحين (المعاملات): السَّيّد محمّد سعيد الطباطبائيّ الحكيم (دام ظله)، طبع: دار الصفوة، بيروت - لبنان، ط1، سنة الطبع: (1415ﻫ - 1994م).

90. منهاج الصالحين للسَّيّد الخوئيّ (قدس سره) مع تعليقة الشيخ الوحيد الخراسانيّ (دام ظله)، نسخة رقمية في برنامج مكتبة أهل البيت (علیهم السلام).

91. منهاج الصالحين: السَّيّد أبو القاسم الخوئيّ (قدس سره) (ت 1413 ﻫ)، طبع ونشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئيّ، ط31، سنة الطبع: 1424ﻫ.

92. منهاج الصالحين: السَّيّد محسن الطباطبائيّ الحكيم (قدس سره) (ت 1390ﻫ)، وبهامشه التعليق عليه من قبل السَّيّد محمّد باقر الصدر (قدس سره)، طبع ونشر: دار التعارف للمطبوعات، بيروت - لبنان، سنة الطبع: 1410ﻫ.

93. منهاج الصالحين: الشيخ محمَّد إسحاق الفيَّاض (دام ظله)، ط1، المطبعة: أمير.

94. منهاج المؤمنين: مطابق لفتاوى السَّيّد شهاب الدين الحسينيّ المرعشيّ النجفيّ (قدس سره) (ت 1411ﻫ)، تنظيم: السَّيّد عادل العلويّ، نشر: مكتبة المرعشيّ - قم، طبع: مطبعة الخيام - قم، سنة الطبع: 1406ﻫ.

ص: 124

95. مهذَّب الأحكام في بيان الحلال والحرام: السَّيّد عبد الأعلى الموسويّ السبزواريّ (قدس سره) (ت 1414ﻫ)، الناشر: مكتب آية الله العظمى السَّيّد السبزواريّ، مؤسّسة المنار، المطبعة: فروردين، ط4، سنة الطبع: 1413ﻫ.

96. المهذَّب البارع في شرح المختصر النافع: الشيخ جمال الدين أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن فهد الحلّيّ (قدس سره) (ت 841ﻫ)، تحقيق: الشيخ مجتبى العراقيّ، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة, التاريخ: غرّة رجب المرجّب 1407ﻫ.

97. المهذَّب: القاضي عبد العزيز بن البرّاج الطرابلسيّ (قدس سره) (ت 481ﻫ), إعداد: مؤسّسة سيّد الشهداء العلميّة،

98. إشراف: الشيخ جعفر السبحانيّ، طبع ونشر: مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، سنة الطبع: 1406ﻫ.

99. النجعة في شرح اللمعة: الشيخ محمّد تقي التستريّ (قدس سره) (ت 1416ﻫ)، الناشر: كتاب فروشى صدوق، ط1، سنة الطبع: 1406ﻫ.

100. نزهة الناظر في الجمع بين الأشباه والنظائر: الشيخ يحيى بن سعيد الحلّيّ (قدس سره) (ت 690 ﻫ)، تحقيق السَّيّد أحمد الحسينيّ - نور الدين الواعظيّ، مطبعة الآداب - النجف الأشرف 1386ﻫ.

101. نهاية الإحكام في معرفة الأحكام: جمال الدين أبو منصور الحسن بن المطهّر (قدس سره)، المعروف ب-(العلّامّة الحلّي) (ت 726 ﻫ)، الناشر مؤسّسة إسماعيليان - قم، الطبعة الثانية، تاريخ النشر: 1410 هجريّ قمريّ.

ص: 125

102. نهاية الأفكار: تقرير بحث آقا ضياء (قدس سره) للشيخ محمّد تقي البروجردي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة، سنة الطبع 1405ﻫ.

103. نهاية المرام في شرح مختصر شرائع الإسلام: المحقّق السَّيّد محمّد العامليّ (قدس سره)، المعروف ب-(صاحب المدارك) (ت1009ﻫ)، التحقيق: الحاج آقا مجتبى العراقيّ، الشيخ على پناه الإشتهارديّ، آقا حسين اليزديّ، طبع ونشر: مؤسّسة النشر الإسلاميّ، الطبعة: الأولى، التاريخ: رجب المرجب 1413 ﻫ ق.

104. النهاية في مجرّد الفقه والفتاوى: شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن بن عليّ الطوسي (قدس سره) (ت 460ﻫ)، منشورات: قدس محمّديّ - قم.

105. نيل الأوطار من أحاديث سيّد الأخيار (شرح منتقى الأخبار): الشيخ محمّد بن عليّ بن محمد الشوكانيّ (ت 1255ﻫ)، الناشر: دار الجيل - بيروت لبنان، سنة الطبع: (1973م).

106. الوافي: المولى محمّد محسن (رحمة الله)، المشتهر ب-(الفيض الكاشانيّ) (ت 1091ﻫ)، الناشر: مكتبة الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) بأصفهان، تحقيق: ضياء الدين الحسينيّ، المعروف ب-( العلّامّة الأصفهانيّ)، ط1، سنة الطبع: 1406ﻫ.

107. وسائل الإنجاب الصناعية: السَّيّد محمّد رضا السيستانيّّ (دامت برکاته)، ط2، طبع: دار المؤرّخ العربيّ، سنة الطبع: 1428ﻫ.

108. الوسيلة إلى نيل الفضيلة: الشيخ عماد الدين أبو جعفر محمّد بن عليّ الطوسيّ (قدس سره)، المعروف ب-(ابن حمزة) (ت ق6ﻫ), تحقيق: الشيخ محمّد الحسّون, الناشر: مكتبة السّيّد المرعشيّ النجفيّ - قم, ط1، طبع: مطبعة الخيام - قم, سنة الطبع: 1408ﻫ.

ص: 126

نَظَريَّةُ الحُكُومَة (الحلقة الأولى) - الشيخ نجم الترابي (دام عزه)

اشارة

إنّ من الأهمّيّة بمكان معرفة مقاصد المتكلّم من خلال كلامه، إذ قد يعتريه شيء من الإجمال، أو ما قد يبدو أنه تنافٍ في الكلام، وإنّ لرفع هذا الإجمال أو التنافي طرقاً عقلائيّة تُنتج الكشف عن المراد النهائي من مجموع كلمات المتكلّم.

والبحث - الذي بين يدينا - يُسلّط الضوء على إحداها، وهي نظريّة الحكومة، حيث يتناول أركانها وميزان قرينيّتها وأهمّ شؤونها في عدّة فصول، مستنيراً بكلمات الأعلام وتحقيقاتهم مع الإشارة إلى موارد التأمّل.

ص: 127

ص: 128

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على رسوله محمّد وآله الميامين.

تمهيد

إنّ أوّل من اكتشف وأقام مُهمَّ أركان الظاهرة الدلاليّة المصطلح عليها ب-(الحكومة) هو الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره)، وقد ذكر في تقرير بحثه الموسوم ب-(مطارح الأنظار)(1) أنّه استعار لفظ (الحكومة) للتعبير عن هذه الظاهرة من كلمات الشيخ الصدوق (قدس سره)، حيث ورد في اعتقاداته: (اعتقادنا في الحديث المفسِّر أن يحكم على المجمل كما قال الصادق (علیه السلام))(2).

هذا، والمتقدِّمون على الشيخ (رضوان الله تعالی علیهم) المنكرون لقاعدة (الجمع مهما أمكن أوْلى من الطرح)(3) كانوا يتعاملون مع موارد الحكومة على أنّها من موارد الجمع العرفي(4)، فلا يصيرون فيها إلى أحكام التعارض المستقرّ، قال الوحيد البهبهاني (قدس سره) - بعد أن ردَّ

ص: 129


1- يُلاحظ: مطارح الأنظار: 4/423.
2- الاعتقادات: 114، وعنه في وسائل الشيعة: 27/ 117، ح28، وفي هامش الوسائل نسخة بدل فيها (يحمل) مكان (يحكم).
3- فإنَّه على هذه القاعدة يكون اندراج موارد الحكومة فيها واضحاً، فلا تصل النوبة إلى قواعد التعارض المستقر.
4- ولو الواضحة منها؛ إذ كما سيأتي إنّ النظر على مراتب من حيث الوضوح والخفاء.

القاعدة المذكورة - ما لفظه: (الثالث: الجمع الذي له شاهد ظنيّ يكون حجّة، نظير ذلك ما رواه الصَّدوق عن عبد السلام الهرويّ، قال: قلت للرضا (علیه السلام): يا ابن رسول (صلی الله علیه و آله و سلم) قد روي عن آبائك فيمَنْ جَامَعَ في شهر رمضان أو أفطر فيه ثلاث كفّارات، وروي عنهم أيضاً عليهم السلام كفّارة واحدة، فبأيّ الحديثين نأخذ؟ قال: (بهما جميعاً، فمتى جَامَعَ حراماً أو أفطر على حرام في شهر رمضان فعليه ثلاث كفارات - إلى أن قال -: وإن كان نكح حلالاً أو أفطر على حلال فعليه كفّارة واحدة)(1)، ويمكن تخريج ما ذكره (قدس سره) وأمثال تلك الموارد على أنَّها من قبيل الحكومة كما صرّح بذلك بعض الأعلام(2).

والاعتبار يساعد على التعامل المذكور، فإنّ موارد الحكومة يكون التوفيق فيها أوضح من موارد الجمع العرفي؛ لمكان أنّ النظر والتفسير يفضي إلى القرينيّة بنحو أوضح من القرينيّة في موارد الجمع العرفي. وقد يُخرَّج ذلك على أساس أنّ النظر يؤدّي إلى الأقوائيّة في الظهور الذي هو ميزان القرينيّة في الجمع العرفي(3)، وإن كان على الصحيح - كما سيأتي - أنَّه لا حاجة لتوسيط الأقوائيّة في الظهور في موارد الحكومة.

ومن هنا صحّ أن تُعرّف الحكومة على الإجمال ب-: أنّها أحد طريقين للجمع بين الأدلّة المتنافية(4)؛ ذلك أنّ المتكلّم الواجد للحكمة العقلائيّة لا يناقض نفسه، فإذا

ص: 130


1- الرسائل الأُصولية ص453- 454.
2- يُلاحظ - مثلاً -: مصباح الفقيه: 7/ 188، المحكم في أُصول الفقه: 6 /59.
3- يُلاحظ: مطارح الأنظار: 4/ 420.
4- وبهذا القيد يخرج التخصيص والورود؛ فإنّهما وإن كانا من طرق الجمع بين الأدلّة إلّا أنّه لا تنافي بين أدلّتهما. وما ذهب إليه الشيخ الأنصاري والمحقِّق النائيني وآخرون من أنّه لا تنافي في الحكومة ليس بتامّ كما سيأتي.

صدرت منه كلمات يبدو منها التنافي فإنّه لا بدّ من البناء على أنّ التنافي ليس مراداً له، فينبغي الفحص في كلماته عمّا يرفعه، ورفعه إنّما يكون في حال توفّر كلماته تلك على أحد ميزانين لا ثالث لهما: إمَّا جريان أحد أنحاء الجمع العرفي، بأن تكون إحدى كلماته أقوى ظهوراً من الأُخرى، كما عليه المشهور المنصور. أو جريان الحكومة، وسيأتي بيانه. فإذا لم يجرِ أيٌّ من الميزانين فإنّه يُصار إلى استقرار التعارض.

وأيّا كان، سنوقع البحث في خمسة فصول وخاتمة:

الفصل الأول: في ضابط الحكومة.

الفصل الثاني: في النظر ومُهمّ شؤونه.

الفصل الثالث: في ميزان القرينيّة في الحكومة.

الفصل الرابع: في رتبة الحكومة بالنسبة إلى باقي أبواب التعارض.

الفصل الخامس: في تقسيمات الحكومة.

الخاتمة: مقارنة الحكومة مع الجمع العرفي والورود.

ص: 131

الفصل الأوّل: في ضابط الحكومة

اشارة

تعرّض الشيخ الأنصاري (قدس سره) لتحديد ضابط الحكومة في أكثر من موردٍ في فرائده(1)، ولمّا كان كلامه غير خالٍ عن الإجمال سعى المتأخّرون عنه لتوجيهه أو المناقشة في ما فهموه منه.

ولكنّ الشيخ (قدس سره) في تقريرات بحثه (مطارح الأنظار) عرض وبوضوح ضابط الحكومة، ومختلف شؤونها التي سنتعرض لها في محالّها، وقد أفاد (قدس سره) في تحديد ضابط الحكومة(2) بأنّه نظر أحد الدليلين بمدلوله اللفظي إلى الدليل الآخر، بأن يكون مبيّناً ومفسّراً له وكاشفاً للمراد منه(3). وهذا النظر هو ميزان القرينيّة في الحكومة، وهي تدور مداره وجوداً وعدماً؛ ولذا كان هو الخصوصيّة الجديرة بتحديد الحكومة بها.

وقد وافقه على الضابط المذكور معظم مَن تأخّر عنه، في حين خالف بعضُ الأعلام في مساوقة الحكومة للنظر، وكونه المحدِّد والضابط لها، فمنهم من اعتبر الحكومة أعمّ

ص: 132


1- يُلاحظ: فرائد الأُصول: 2/ 262، 3 / 314، 4/ 13.
2- يُلاحظ: مطارح الأنظار: 4/ 412.
3- سيأتي التعرّض لهذا الجانب في بحث محلّ الحكومة من أنّه مختصّ بالأدلة اللفظيّة أو يعمّ الأدلة اللبيّة. وكذلك سيأتي بحث: أنّ المنظور إليه خصوص دلالة الدليل المحكوم أو يعمّ الحكم الواقعي المدلول عليه بما هو واقع، وبقطع النظر عن كونه مدلولاً للدليل المحكوم كما هو الحال في بعض موارد الجمع العرفي كالعامّ والخاصّ، والمطلق والمقيّد.

من النظر كالسيد الخوئي (قدس سره) (1)، ومنهم من اعتبرها أخصّ منه كبعض الأعاظم (دام ظله العالی) (2).

هذا، والمحقّق النائيني (قدس سره) (3) لم يذكر النظر في تحديده لضابط الحكومة.

وهنا كلمتان:

الكلمة الأولى

اشارة

حدّد المحقّق النائيني (قدس سره) في غير موضعٍ ضابط الحكومة بأنّه تصرّف أحد الدليلين بمدلوله المطابقي في عقد وضع الدليل الآخر أو عقد حمله، ولم يذكر النظر في مقام التحديد المذكور.

وفي مراده احتمالان:

الاحتمال الأول

أنّه (قدس سره) يرى - وفاقاً للشيخ الأنصاري (قدس سره) - أنّ الحكومة تدور مدار النظر وجوداً وعدماً، وأنّه هو الميزان لقرينيّتها، ولكنّه ليس اللائق بتحديدها، وهذا يناسب تعليقات المحقّق العراقي (قدس سره) على فوائد الأُصول(4) حيث عبّر ب-(الأَوْلى)، ولم يغلّطه، وكذلك يناسب فهم صاحب المنتقى (قدس سره) حيث أفاد ما لفظه: (وأمّا ما ذكره المحقّق النائيني (قدس سره) في تفسير الحكومة من أنّها عبارة عن تصرّف الدليل في عقد وضع الدليل الآخر أو عقد حمله فهو لا يصلح للضابطيّة؛ لأنّه ليس تفسيراً لها، بل بياناً لموردها ومحقّقها وواقعها، فإنّها كون الدليل ناظراً إلى الدليل الآخر بمدلوله اللفظي

ص: 133


1- يُلاحظ: مصباح الأُصول: 48/420 من الموسوعة، دراسات في علم الأُصول: 4/ 348.
2- يُلاحظ: قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 239، تعارض الأدلة واختلاف الحديث: 1/33، ومقصودنا ب-(بعض الأعاظم (دام ظله العالی)) المرجع الأعلى للطائفة الحقّة (أعزّها الله) سماحة السيّد السيستانيّ.
3- يُلاحظ: فوائد الأُصول: 4/594، 712، 714، أجود التقريرات: 4/281، منية الطالب: 3/406.
4- يُلاحظ: فوائد الأُصول: 4/712.

والتصرّف من موجباته) (1).

الاحتمال الآخر

أنّ التصرّف المذكور هو ضابط الحكومة وإن لم يكن نظر، وهذا يناسب كلمات السيد الخوئي (قدس سره) (2) حيث قسّم الحكومة إلى ما يكون بملاك النظر، وإلى ما يكون بملاك التصرّف في عقد الوضع، كحكومة الأمارات على الأُصول العمليّة الشرعيّة، وقد صرّح بأنّ القسم الثاني هذا لا نظر فيه(3).

هذا، وكلمات المحقّق النائيني (قدس سره) تناسب كلا الاحتمالين، حيث يظهر من بعضها إرادة الاحتمال الأوّل، وأنّ السرَّ في عدوله عن اعتماد النظر كضابطة للحكومة إلى التصرّف المذكور ما ذكره في غير موضع(4) من أنّ النظر - والذي يعني التفسير والشرح - يوهم انحصار الحكومة بما إذا كان الحاكم مفسِّراً للمحكوم بواحدة من أدوات التفسير الصريحة مثل (أي) و(يعني) ونحوهما، وبمثل قرائن المجاز، حيث إنّ القرينة تفسّر المراد من لفظ ذي القرينة.

وبعبارة جامعة: أنّ النظر يوهم انحصار الحكومة بما إذا كان الحاكم ناظراً لدلالة الدليل المحكوم، دونما إذا كان ناظراً إلى الحكم الواقعي بما هو واقع وبقطع النظر عن كونه مدلولاً للدليل المحكوم كما هو الحال في التخصيص، وسيأتي بيانه في الفصل المعقود لبحث شؤون النظر، هذا ما يناسب الاحتمال الأول.

وأمّا ما يناسب الاحتمال الثاني فهو: بناؤه على حكومة الأمارت على الأُصول

ص: 134


1- منتقى الأُصول: 6/404.
2- يُلاحظ: مصباح الأُصول: 48/420، دراسات في علم الأُصول:4 /341.
3- يُلاحظ: الهداية في الأُصول: 4/ 303.
4- يُلاحظ: مُنية الطالب: 3 / 407، فوائد الأُصول: 4/ 713.

العمليّة الشرعيّة من جهة، وبناؤه من جهة أُخرى على أنّ المجعول في باب الأمارات ومفاد أدلّة حجيّتها هو الطريقيّة والكاشفيّة بلا أيّ تنزيلٍ(1)، فهو يرى أنّ اعتبار الأمارة علماً من قبيل الاعتبار المتأصّل لا الاعتبار التنزيليّ(2). وعندئذ لا نكتة في الأمارات تفيد نظراً إلى عقد وضع أدلة الأُصول العمليّة الشرعيّة.

وقد تأمّل جملة من الأعلام(3) في ثبوت الحكومة على المبنى المذكور.

والأمر المهمّ في المقام هو أنّه على الاحتمال الثاني يكون عندنا ميزان ثالث للقرينيّة يوفَّق على أساسه بين الأدلّة المتنافية، وهو التصرّف التعبّديّ لأحد الدليلين في عقد وضع الدليل الآخر وإن لم يكن نظرٌ ولا أقوائيّة في الظهور.

وقد يُناقش في زيادة التصرّف التعبّدي كميزان برأسه ب-: أنّ التصرّف المذكور مستفاد إمّا من نفس الدليل المتصرّف أو من غيره، وهذا الغير ليس إلّا العقل(4)، والثاني يمثّل الجمع العرفي، والأوّل ينبغي أن يكون الحكومة.

ص: 135


1- يُلاحظ: فوائد الأُصول: 3/ 23، أجود التقريرات: 2/ 26، أُصول الفقه: 6/ 84.
2- الاعتبار ينقسم إلى اعتبار متأصّل وآخر تنزيليّ. أمّا المتأصّل فيراد به الاعتبار بلا عناية، ويتطابق فيه المرادان الاستعماليّ والجديّ. وأمّا الاعتبار التنزيليّ فهو إعطاء حدّ شيء لشيء آخر، فيكون مع العناية، ولا يتطابق فيه المراد الاستعماليّ مع الجديّ، والاعتبار التنزيليّ هذا مساوق للاعتبار الأدبيّ المحض كما صرّح بذلك بعض الأعاظم (دام ظله العالی)، بل استظهر سيدنا الأُستاذ (دامت افاداته) أنّ عليه عامّة الأُصوليين، واختار انقسامه إلى الأدبيّ المذكور، والاعتبار التنزيليّ التشريعي، حيث يكون التنزيل مأخوذاً في المراد الجديّ. يلاحظ: الرافد في علم الأُصول: 27، مباني الأُصول: 2/ 505، مجلس الدرس ليوم 3 صفر من سنة 1432ﻫ لسيّدنا الأستاذ (دامت افاداته) - والمقصود بهذا التعبير السيد محمّد باقر السيستاني (دامت افاداته) -.
3- يُلاحظ: قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 235، بحوث في علم الأُصول: 6/ 342.
4- يُلاحظ: مُنية الطالب: 3/ 407 -408.

ولكن ما ذُكِر لا يُبيِّن المساوقة بين كون التصرّف التعبّديّ مستفاداً من نفس الدليل المتصرِّف وبين النظر. نعم، لم نجد - خارجاً - تصرّفاً اعتباريّاً بلا نظر أو أقوائيّة في الظهور.

وما حكيناه قريباً عن السيد الخوئي (قدس سره) من وجود تصرّف اعتباريّ بلا نظر - كتصرّف أدلّة الأمارات في أدلّة الأُصول العمليّة الشرعيّة والذي يُناسب بعض كلمات المحقّق النائيني (قدس سره) - قد يُناقش فيه بما أفاده السيّد الشهيد (قدس سره) من أنّه(1): إن فُرض العلم المأخوذ عدمه في موضوع الأصل الأعم من العلم التكويني والعلم التعبّدي، فالدليل الذي جعل الأمارة علماً يكون وارداً على دليل الأصل لا حاكماً عليه. وإن فُرض أنّه خصوص العلم الوجداني الذي هو المعنى الحقيقي للعلم، فإن كان دليل جعل الأمارة علماً تعبّداً إنّما يجعل ذلك استطراقاً إلى ترتيب ما رُتِّب في دليل الأصل على العلم من الأثر العلميّ، أصبح ناظراً إلى مفاده. وإن لم يكن كذلك وإنّما دلّ على مجرّد فرض غير العلم واعتباره علماً، فهذا لا أثر له، ولا تثبت به آثار العلم لا بالدليل المحكوم؛ لأنّ المفروض فيه العلم الوجدانيّ لا التعبّديّ، ولا بالدليل الحاكم؛ لأنّه لم يدلّ على ترتيب أثر شرعيّ، وإنّما غايته أنّه اعتبر ما ليس بعلمٍ علماً، ولا قيمة لهذا الاعتبار.

ولعلّ هناك فرضاً آخر(2) ليس واضحاً إرادته ممّا ذُكر، وهو: أن يكون دليل جعل الأمارة علماً على سبيل الاعتبار المتأصّل لا الاعتبار التنزيليّ، وذلك بملاحظة أنّ للعلم قسمين: أحدهما تكوينيّ، والآخر اعتباريّ. وقد أمضى الشارع - بما أنّه رئيس العقلاء - العلم الاعتباريّ العقلائي. فإذا فسّرنا عدم العلم المأخوذ في موضوع الأصل ك-(رُفع ما

ص: 136


1- يُلاحظ: بحوث في علم الأُصول: 7/ 170.
2- يُلاحظ: قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 234.

لا يعلمون) بعدم العلم التكوينيّ، وقامت أمارة على الحرمة، فإنّ هذه الحالة تخرج عن حدود الأصل بنحو الحكومة؛ لأنّ العقلاء يرون أنفسهم عالمين علماً قانونيّاً، فلا يجدون أنفسهم مشمولين ل-(رُفع ما لا يعلمون) رغم تفسير العلم بالعلم التكوينيّ، ولا يمكن اعتبار ذلك من قبيل الورود على انتفاء الموضوع في الدليل المورود وجداناً بمؤونة التعبّد، وعدم العلم التكوينيّ الموضوع في دليل الأصل حسب الفرض لا ينتفي وجداناً بوجود علم اعتباريّ. نعم، لو كان موضوع الأصل الأعم من العلم التكوينيّ والعلم الاعتباريّ لكان تقدّم الأمارة بنحو الورود.

ويبدو أنّ ما أُفيد مبنيٌّ على انحصار الخروج في المثال بين الحكومة أو الورود، ولمّا لم يكن على نحو الورود كان على سبيل الحكومة.

ولكن قد لا يكون ورودٌ ولا حكومةٌ؛ إذ لم يقم دليل على أنّ الرفع الاعتباريّ إذا لم يكن من قبيل الجمع العرفي كان على نحو الحكومة، بل حتّى على رأي بعض الأعاظم (دام ظله العالی) فإنّه وإن كانت أدلة حجّيّة الأمارة - على تقدير كونها على نحو الاعتبار المتأصّل - مسالمة لأدلّة الأُصول العمليّة إلّا أنّه لا نظر فيها إليها، فكيف كان التقديم على نحو الحكومة؟!

بل يمكن أن يقال: إنّ النظر إنّما هو لأجل وجود العناية في الاعتبار الأدبيّ التي هي مقارنة للتنزيل ونحوه، فإذا زالت العناية في الاعتبار المتأصّل - كما هو المفروض - فإنّه يزول النظر إلى دليلٍ أو حكمٍ آخر.

وفي المقابل يمكن أن يقال: إنّ الاعتبار المتأصّل أيضاً يتوفّر على النظر من جهة أنّه اعتبار، ولكي لا يكون مجرّد فرض لا تترتّب عليه الآثار التي كانت ببركة العناية فلا بدّ من وجود تلك الآثار بنحو أو بآخر، وقد ذُكرت لذلك فرضيّتان:

الأولى: أن تكون تلك الآثار مندمجة في مضمون المعنى المعتبر على سبيل الاعتبار

ص: 137

المتأصّل، فإذا كانت الآثار مندمجة في المعنى المعتبر فهو ناظرٌ لها.

الأخرى: أنّه بالاعتبار المتأصّل يتوفّر المعنى المعتبر على شأنيّة الاتّصاف بتلك الآثار، بحيث تكون نسبة المعنى المعتبر إلى تلك الآثار نسبة الموضوع إلى حكمه. وفي هذه الفرضيّة أيضاً يكون النظر حاصلاً ببركة الشأنيّة المذكورة.

والمقام يحتاج إلى مزيد بحث ونظر؛ من جهة التأمّل في أنّ النظر المذكور إنّما هو من قبيل النظر الحكومي.

الكلمة الثانية

اشارة

ما أفاده بعض الأعاظم (دام ظله العالی) (1) من أنّ ميزان القرينيّة في الحكومة وإن كان هو النظر إلّا أنّه لا يعكس هويّتها، فإنّ الحكومة عنده (دام ظله العالی) هي: كون لسان الدليل الحاكم لسان المسالمة والملاءمة مع الدليل المحكوم وليس لسان المعارضة معه، ففي الحكومة على نحو التضييق - مثلاً - يُذكر الدليل الحاكم على أنّه بيان لحدود موضوع الدليل المحكوم، وأنّ مورده ليس من أفراد موضوع المحكوم، فيكون انتفاء الحكم في مورده انتفاءً طبيعيّاً باعتبار عدم تحقّق موضوعه، فهذا اللسان يتضمّن نحواً من الالتواء وعدم الصراحة في أداء المعنى، بخلاف التخصيص - مثلاً - فإنّ الخاصّ إنّما ينفي ما يثبته العامّ أو يثبت ما ينفيه العامّ بلسانٍ معارض معه؛ لأنّه لا يكون عن طريق الموضوع وإنّما مباشرةً باتجاه الحكم.

فإذا كانت هذه حقيقة الحكومة فإنّها لا تتحقّق فيما لو كان الدليل ناظراً إلى عقد حمل الدليل الآخر؛ لوضوح أنّ هذا النحو من النظر إنّما يكون بلسان المعارضة لا المسالمة. وعلى هذا تكون الحكومة أخصّ من النظر.

فتحصّل: أنّ البناء على أنّ حقيقة الحكومة ليس إلّا لسان المسالمة - لا النظر مطلقاً -

ص: 138


1- يُلاحظ: قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 242، بحوث في شرح مناسك الحج: 6/ 397.

يفضي إلى عدم عدّ ما يعرف بالحكومة - بملاك النظر إلى عقد الحمل - من أقسامها، وهذا يستدعي إثبات أنّ حقيقة الحكومة هي اللسان المذكور.

وأفاد (دام ظله العالی) في مقام إثبات ذلك:

أنّ لكلّ بابٍ في أيِّ علمٍ مورداً متيقّناً له يُعبَّر عنه ب-(مثال الباب)، يكون أساساً في تحليل ذلك الباب ومأخذاً لملاكه وتحديده، ومن ثَمَّ أيُّ فرضيّة تُطرح لتحليل أيِّ باب - بعد تماميّتها في حدِّ نفسها - إذا شملت المورد المتيقّن للباب فلا ضير بعد ذلك في شمولها لموارد أُخرى وعدم شمولها، وإلّا لم يكن تحليلاً لذلك الباب، وإنّما يكون تحليلاً لظاهرة أخرى. ومثال باب الحكومة هو التنزيل فلا يصحّ أيُّ تحليل للحكومة إلّا إذا شمله.

والمدّعى في المقام أنّ التحديد المشهور للحكومة بأنّها نظرُ أحد الدليلين إلى الدليل الآخر لا يمكنه أن يشمل التنزيل؛ وذلك لأنّ التنزيل كناية واعتبار أدبيّ يختلف فيه العنصر المعنوي - المراد الجديّ - عن العنصر الشكليّ للكلام - المراد الاستعماليّ -، ولذا تتوقّف صحّته على وجدانه لمصحّح لغويّ وآخر بلاغيّ، وكلاهما لا يقتضيان نظر التنزيل إلى دليل آخر:

أمّا المصحّح اللغويّ للسان التنزيل فليس هو إلّا التناسب بين العنصرين المعنوي والشكلي، وهو المعروف ب-(العلائق المصحّحة للتجوّز)، وذلك أنّه كلّما عُبّر عن معنى خاصّ بعنصر شكليّ يختلف عنه، فإنّه لا بدّ من تسانخ وتناسب بين الأمرين ليصحّ بذلك التعبير عن المعنى المراد بالشكل الخاصّ، وإلّا لا يصحّ استعمال اللفظ في التعبير عن المراد لغةً.

ومن الواضح أنّ هذا المصحّح لا يقتضي النظر إلى دليل آخر، وإنّما أقصى ما يقتضيه

ص: 139

أنّه يحقّق التسانخ بين المرادين الجديّ والاستعماليّ.

وأمّا المصحّح البلاغيّ للّسان المذكور - ويعبّر عنه بوجه العدول عن التعبير الصريح إلى التنزيل والاعتبار الأدبيّ - فإنّه وإن اقتضى النظر - وإلّا لا يكون ميزان القرينيّة في الحكومة هو النظر - ولكنه ليس إلى دليل آخر، وتوضيح ذلك:

أنّ البلاغة تقتضي اختيار المتكلّم للأُسلوب الصريح في مرحلة أداء المعنى؛ لأنّه أُسلوب طبيعيّ وواضح في الأداء, ولذلك فالعدول عنه إلى أُسلوب الكناية والتنزيل لا بدّ أن يكون مبنيّاً على مصحّح بلاغيّ من مراعاة جهةٍ تتوفّر في هذا الأُسلوب دون الأُسلوب المباشر الصريح، وبما أنّ أُسلوب التنزيل أُسلوب أدبيّ فهو يخضع للنكتة العامّة في الاعتبارات الأدبيّة، والتي هي التصرّف بمشاعر المخاطبين وعواطفهم وأحاسيسهم، من خلال اختيار أسهل طرق التعبير وأحسنها وأوفاها؛ ليصل المتكلّم إلى مقاصده بصورة لا تجرح ولا تمسّ تلك العواطف والأحاسيس، بل ليستفيد منها في الوصول إلى مقاصده تلك.

هذه هي النكتة العامّة والمصحّح البلاغيّ في اختيار التجوّز والاعتبار الأدبيّ على الأُسلوب الصريح، وبدونها لا يصحّ بلاغةً وإن صحّ لغةً بعد توفّره على المصحّح اللغويّ.

هذا على العموم، وأمّا النكتة الموجبة لاختيار أُسلوب التنزيل من قبل الشارع في مقام بيان تحديد الحكم فهي ترتكز على أمرين:

الأمر الأوّل

اختلاف هذا الأُسلوب عن الأُسلوب الصريح في نوع إثارة المعنى، ويظهر ذلك فيما لو استخدمنا هذين الأُسلوبين في مقابل فكرة عامّة مخالفة لمحتواهما، فالأُسلوب الصريح يكون جارحاً لتلك الفكرة معارضاً لها؛ لأنّه يعرّض المعنى

ص: 140

المخالف لها على ما هو عليه، وإذا كان المخاطب مقتنعاً بتلك الفكرة المخالفة وكان الترابط بين الحكم والموضوع - المعبِّرين عن تلك الفكرة - وثيقاً في ذهنه فإنّ مواجهته بهذا الأُسلوب يثير إحساسه ضدّ مؤدّى الكلام، فيوجب إنكاره أو استنكاره له، من جهة كون ذلك مجابهةً واضحةً مع ما ارتكز في ذهنه من الارتباط بينهما.

وأمّا أُسلوب الكناية والتنزيل فهو يثير المعنى بنحو لا يمسّ اعتقاد المخاطب ومشاعره؛ لأنّ مظهره مظهر المسالمة والاعتراف بتلك الفكرة؛ حيث إنّه ينفيها بنفي موضوعها، فيكون انتفاءً طبيعيّاً، فيخيّل للمخاطب أنّه لا يعارض اعتقاده بثبوت الحكم للموضوع بنحو عامّ، بل يُقرّه عليه ويعترف له به، حتى كأنّه لو كان الموضوع متحقّقاً في المورد لثبت الحكم. وبذلك يكون المعنى أوقع في نفس المخاطب، وأقرب إلى إذعانه وقبوله بخلاف الأُسلوب الصريح.

وبهذا يظهر اختلاف هذين الأُسلوبين في نوع التأثير الإحساسيّ.

الأمر الآخر

اختلاف المواضيع التشريعيّة التي يتعرّض لها الدليل الحاكم أو المخصّص في ارتكاز فكرةٍ مخالفة لمؤدّاه في ذهن المخاطب وعدمه.

فقد يكون المخاطب بالدليل خالي الذهن عن أيّ فكرة عامّة مقابلة، أو يكون له فكرة مقابلة إلّا أنّها غير مرتكزة في ذهنه، فتزول بمجرّد اطّلاعه عليها، ففي هذه الحالة لا مصحّح بلاغيّ للتعبير بلسان المسالمة حتى وإن كان هناك عموم أو إطلاق على خلاف مؤدّى الدليل، بل المناسب التعبير الصريح.

وقد يكون المخاطب بالدليل ذا ارتكازٍ(1) ذهني في الموضوع على خلاف مؤدّى

ص: 141


1- المراد بالارتكاز هو: الفكرة الثابتة في الذهن الراسخة في عمقه بحيث يصعب رفع اليد عنها إحساساً وإن اطّلع على دليل على خلافها.

الدليل، وفي هذه الحالة يعدل المتكلّم البليغ عن النفي الصريح للحكم إلى لسان النفي غير المباشر تجنّباً عن إثارة مشاعر المخاطب وأحاسيسه.

فتحصّل ممّا ذكرناه أنّ للتنزيل خصوصيّتين:

الأولى: أنّ التنزيل يمثّل أُسلوباً وطريقة مسالمة في أداء المعنى، ولمّا كانت الحكومة والتخصيص بمعنى واحد ثبوتاً - وهو أنّ الحاكم مخصّص للمحكوم ومبيّن أنّ المراد الاستعماليّ أوسع من المراد الجديّ - كان التوجّه في مقام تحديد الحكومة إلى الخصوصيّة الإثباتيّة التي تمتاز بها الحكومة عن التخصيص، ولحسن الحظ كان التنزيل متوفّراً على خاصيّتين: خاصيّة كونه أُسلوباً مسالماً، وخاصّيّة النظر. وعلى التحديد المشهور للحكومة كانت الخاصّيّة المرشّحة للتمييز والتفريق هي خاصّيّة النظر. وأمّا بعض الأعاظم (دام ظله العالی) فهو يرى أنّ الخاصّيّة الجديرة بتحديد الحكومة هي طريقة أداء المعنى، بمعنى كونه أُسلوباً مسالماً.

ويترتب على تحديد الحكومة بكونها أُسلوباً مسالماً - مضافاً إلى صحّة التحديد المذكور حيث يشمل التنزيل - خروج ما يعرف بالحكومة بملاك النظر إلى عقد الحمل منها، فتكون الحكومة أخصّ من النظر.

الأخرى: أنّ التنزيل يقتضي النظر، ولكن إلى ارتكازٍ ذهنيٍّ على خلافه، لا إلى دليل آخر من عموم أو إطلاق.

نعم، إنّ ردّ الارتكاز يستبطن نفي ما يكون حجّة عليه بما في ذلك العموم والإطلاق فيما إذا كان المتكلّم مطّلعاً عليه، فيكون تحديد ذلك ملحوظاً بنحو غير مباشرٍ في لسان التنزيل، إلّا أنّ هذا اللّحاظ غير المباشر ليس هو المصحّح لأُسلوب التنزيل.

وبهذه الخصوصيّة يتّضح أنّ التحديد المعروف للحكومة ليس بتامّ؛ إذ لا يوجد في

ص: 142

التنزيل الممثِّل للحكومة ما يقتضي النظر إلى دليل آخر.

ويتراءى في نظري القاصر تجاه ما ذُكر أمور:

أوّلاً: أنّ النظر المأخوذ في التحديد المعروف للحكومة لم يعتبر على سبيل ال-(بشرط لا) عن المسالمة وعدم وجود ارتكازٍ مخالفٍ، بل (لا بشرط) تجاههما، فما أُفيد من أنّ التحديد المعروف للحكومة لا يشمل التنزيل لا يمكن المساعدة عليه؛ إذ إنّه أعمّ من التنزيل.

نعم، تكون النسبة بين التحديد المشهور للحكومة والارتكاز هي العموم من وجه فيما إذا كان ارتكازاً لا يعلم المتكلّم دليله، أو لا دليل عليه أصلاً، فهنا يصحّ التنزيل ولا تصحّ الحكومة على التحديد المعروف لها؛ إذ سيكون النظر إلى ارتكازٍ لا إلى دليلٍ آخر.

ولكن مثله نادر التحقّق فلا يضرّ في التحديد، وقد وقع له (دام ظله العالی) مثل ذلك حيث أفاد: (فهذه - أي ما تقدّم منّا بيانه - هي النكتة العامّة لأُسلوب الحكومة، ولكن هذه النكتة إنّما هي فيما كان مصبُّ النفي أو الإثبات فيها نفس الحكم أو ما يرتبط به... وأمّا حيث يكون مصبُّ ذلك أمراً خارجيّاً مسبّباً عن الحكم كالحرج والضرر... فإنّه لا تتأتّى فيه هذه النكتة كما هو واضح) (1).

وثانياً: أنّ من موارد الحكومة - وبلا خلاف بين الأعلام، بل لعلّ البعض توهّم حصر الحكومة بها - ما يكون الحاكم مشتملاً على واحدة من أدوات التفسير صراحةً أو إشارةً، ولا يخفى أنّ اندراجها في الحكومة وصحّتها غير متوقّفة على وجود ارتكازٍ مخالفٍ، فعلى ما ذكر لا تكون من موارد الحكومة أصلاً، وكذلك يتأتّى فيها النظر إلى عقد الحمل.

ص: 143


1- قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 251.

وثالثاً: أنّ الحكومة بملاك النظر إلى عقد الحمل بحسب التحديد المعروف تكون تخصيصاً بحسب ما ذكره (دام ظله العالی)، وعندئذٍ ينبغي أن يكون ميزان التقديم فيه هو الأقوائيّة في الظهور، والحال أنّ المفسِّر يُقدّم على المفسَّر وإن كان أضعف ظهوراً منه.

فإن قيل - كما قيل فعلاً -: إنّ حيثيّة التفسير تعطيه أقوائيّة في الظهور.

فإنّه يقال: إنّ ما نجده في أنفسنا وبحسب مرتكزاتنا العرفيّة أنّه يقدّم المفسِّر والمحدِّد من دون الالتفات - ولو إجمالاً - إلى الأقوائيّة في الظهور، ومن دون التشكيك في التقديم، كما قد يحصل في بعض موارد الجمع العرفي حتّى الواضحة منها.

إذاً على ما أُفيد يكون التقديم في ما يعرف بالحكومة بملاك النظر إلى عقد الحمل بميزان ثالث كما ذكرنا مثله فيما تقدّم.

ورابعاً: أنّ النظر إلى الدليل الآخر يساوق النظر إلى الارتكاز المذكور، وذلك بمقدّمتين:

الأولى: أنّ النظر إلى الدليل الآخر على التحديد المعروف للحكومة يراد به النظر إلى الأحكام المعبِّر عنها الدليل، فهو وصف بحال المتعلّق، لا أنّ النظر إلى ذات الدليل الآخر، ويشهد على ذلك أنّ من أقسام الحكومة - كما سيأتي - ما يكون الدليل الحاكم ناظراً إلى الحكم الواقعي بما هو واقع وبقطع النظر عن كونه مدلولاً للدليل كما هو الحال في التخصيص والتقييد.

إذاً مقصود الأعلام في التحديد المعروف إنّما هو نظر أحد الدليلين إلى الحكم المُفاد بالدليل الآخر من جهة كونه مُفاداً به، أو بقطع النظر عن ذلك، ويراد بالحكم ما يعمّ مُفاد الهيئة والمادة والموضوع لا ما يختصّ بأوّلها.

الأخرى: أنّ الارتكاز يمثّل كيفيّة العلاقة بين أجزاء الحكم المذكور آنفاً. وعلى

ص: 144

ذلك يكون النظر إلى الدليل الآخر نظراً إلى الحكم المُفاد بالدليل وكيفيّته، والذي هو الارتكاز.

وخامساً: أنّ التنزيل وإن كان كما أُفيد إلّا أنّه أصبح تدريجاً من الأساليب المعبِّرة عن القانون والتشريع، ويستفاد منه في أغراض متعدّدة قد يكون بعضها غير متوفّر على الارتكاز المصحّح للتنزيل الأدبيّ أصلاً، فمثلاً إذا كان لموضوعٍ عدّة أحكامٍ، ويريد المشرّع نفيها عن أحد أفراد ذلك الموضوع فإنّه يمكن أن يقول: (إنّ الأحكام الثابتة لذلك الموضوع غير ثابتة لذاك الفرد)، وكذلك يمكن أن يقول: (إنّ ذاك الفرد في نظري ليس من أفراد ذلك الموضوع)، والثاني مع أنّه أليق بصياغة القانون كذلك يدفع استغراباً - لا ارتكازاً - من أنّه كيف أنّ ذاك الفرد من أفراد الموضوع ومع ذلك لا تثبت له أحكامه؟ وذلك باعتبار أنّه ليس من أفراده بنظره.

وهذه الأمور الخمسة - وهناك غيرها - قد لا تكون جميعها تامّة، بل بعضها يمكن المناقشة فيه بطريقةٍ أو بأُخرى، ولكن لا يبعد أنّها بمجموعها تفيد الاطمئنان بأنّ التحديد المعروف للحكومة - وهو أنّ مناطها النظر في أحد الدليلين إلى الدليل الآخر - هو الراجح، ومنه تعالى الهداية والصواب.

ص: 145

الفصل الثاني: في النظر الذي هو ميزان القرينيّة في الحكومة ومُهمّ شؤونه

اشارة

ويقع الحديث في جهات خمس:

الجهة الأولى: المقصود من النظر

اشارة

يحدّد النظر في كلمات الأعلام بأنّه: مدلول لفظي تضمّني(1) أو التزاميّ، ولذا يمثل ظهوراً ثانياً للدليل الحاكم وراء مفاده المطابقي. ومفاد النظر هذا ومحتواه هو: أنّ الدليل الواجد له إنّما جيء به وسيق لشرح حال الدليل المنظور إليه(2)، وتفسيره وبيان كمّيّة مدلوله والتصرّف فيه، والمفسِّر والمبيِّن والمتصرِّف هو المدلول المطابقي للدليل، وأمّا النظر فهو حيثيّة مصحّحة لاتصاف المدلول المطابقي بأنّه ناظر ومفسِّر.

وينبغي الالتفات إلى أنّ التحديد المذكور للنظر إنّما هو لأكمل أفراده وأغلبها وجوداً، والمتّفق عليه بين الأعلام، وإلّا فالمناسب أن يُحدّد النظر بحيث يشمل ثلاثة موارد أُخرى:

المورد الأوّل

أنّ توصيف النظر بأنّه مدلول لفظيّ يعني اختصاصه بالأدلّة اللفظيّة، ولذا ذكروا أنّه لا حكومة في اللبيّات.

ص: 146


1- كما لو ورد (إذا شككت فابنِ على الأكثر) ثمّ ورد (إنّما عنيت بين الثلاث والأربع)، فإنّ مفاد (عنيت) هو التفسير والنظر، ولما كان جزءاً من القول الثاني الحاكم فإنّه يكون مدلولاً تضمّنيّاً.
2- المنظور إليه قد يكون الدليل المحكوم، أو الواقع بقطع النظر عن كونه مدلولاً للدليل، وتقدَّمت الإشارة إلى ذلك، وسيأتي تفصيله.

وفي المقابل ذهب بعض الأعلام إلى أنّه لا مانع من تحقّق الحكومة في اللبيّات كالمحقّق النائيني (قدس سره) (1)، وبعض الأعاظم (دام ظله العالی) (2).

المورد الثاني

أنّ توصيف النظر بأنّه مدلول تضمّنيّ أو التزاميّ يعني عدم شموله للنظر الحاصل بتوسّط القرائن المنفصلة، كما لو كان عندنا دليلان متنافيان، ثمّ جاء دليل ثالث مفاده أنّ أحدهما إنّما سيق لتفسير الآخر، فهنا نسبة الدليل الذي أُفيد أنّه مفسِّر للآخر ببركة الدليل الثالث تكون هي الحكومة، وكذلك نسبة الدليل الثالث إليهما أيضاً هي الحكومة.

المورد الثالث

أنّ النظر على مراتب من حيث الخفاء والوضوح - كما سيأتي -، ومن ثَمّ بعض مراتب النظر تحتاج إلى فكر وتدبّر، والمدلول الالتزاميّ لازم بيِّن بالمعنى الأخصّ.

الجهة الثانية: في الدوالّ على النظر

إنّ ما يمكن أن يدلّ على النظر من الخصوصيّات - بحسب تتبّع كلمات الأعلام - لا حصر عقليّ له، وأنّه مختصّ بالأدلّة اللفظيّة، ومقتصر على النظر المستفاد من القرائن المتصلة. ولنتعرّض لبعض الدوالّ:

منها: أن يكون الدليل - الذي يُنتظر منه أن يكون حاكماً وناظراً - متوفّراً على واحدة من أدوات التفسير الصريحة مثل (أعني) و(أي) ونحوهما.

ومنها: أن يكون الدليل قد ذُكر في مقام الإجابة عن سؤال حول كلمات أُخرى ظاهرها التنافي لهذا المتكلّم أو مَن بمنزلته، أو يكون في مقام بيان المراد منه، وقد ورد

ص: 147


1- يُلاحظ: فوائد الأُصول:4/ 594.
2- يُلاحظ: قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 257.

مثل هذا مكرّراً في الأخبار الشريفة، منها على سبيل المثال:

1- ما رواه الشيخ الصدوق (قدس سره) بإسناده عن خلّاد بيّاع القلانس، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجلٍ أتى أهله وعليه طواف النساء. قال: (عليه بدنة). ثّم جاءه آخر فسأله عنها. فقال: (عليه بقرة). ثمّ جاءه آخر فسأله عنها. فقال: (عليه شاة). فقلت بعدما قاموا: أصلحك الله كيف قلت عليه بدنة؟ فقال: (أنت موسر وعليك بدنة، وعلى الوسط بقرة، وعلى الفقير شاة) (1).

2- ما رواه الكليني (قدس سره) بإسناده عن علي بن المغيرة قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) جعلت فداك الميتة ينتفع بشيء منها؟ قال: (لا). قلت: بلغنا أنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) مرَّ بشاة ميتة، فقال: ما كان على أهل هذه الشَّاة إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها! قال: تلك شاة لسودة بنت زمعة زوج النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، وكانت شاة مهزولة لا ينتفع بلحمها فتركوها حتى ماتت. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): (ما كان على أهلها إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها أن تُذكّى)(2). إلى غير ذلك من الأخبار.

ومنها: أن يكون شارحاً لحال الدليل المحكوم من خلال ذكره في متن الدليل الحاكم، وذلك قد يكون صريحاً كما لو قال: (أكرم العالم)، ثمّ قال: (وجوب إكرام العالم غير ثابت للفاسق)، وقد يكون لا على هذا السبيل كما في حكومة قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ (3) على أدلّة الأحكام الأوّليّة، فإنّ الظاهر من كلمة (الدين) في الآية الشريفة هو الكناية عن الأحكام والتشريعات الإلهية، وكذلك كلمة

ص: 148


1- مَن لا يحضره الفقيه: 2/ 363، ح 2716.
2- الكافي: 3/ 398، باب اللباس الذي تكره الصلاة فيه، ح6.
3- سورة الحج: 78.

(الإسلام) على تقدير ورودها في مستند قاعدة لا ضرر، فإنّ النفي في مثل هكذا أدلّة ظاهر في النفي التركيبي - في مقابل النفي البسيط - بمعنى الفراغ عن ثبوت تشريعات في الرتبة السابقة، وأنّه في مقام نفي ما توجبه هذه التشريعات من الحرج والضرر، فبذكر كلمتي (الدين) و(الإسلام) يثبت أنّه ناظر إلى أحكامهما.

ومنها: التنزيل، وقد اتّضح إفادة التنزيل للنظر ممّا أفاده بعض الأعاظم (دام ظله العالی)، والبيان المعروف عند الأعلام في كيفيّة إفادة التنزيل للنظر هو أنّه لما كان التنزيل إعطاء حدّ شيء لشيء آخر أو سلب حدّه عنه ولكن ادعاءً لا حقيقةً - لاستحالته - فإنّه بدلالة الاقتضاء لا مناص من أن يتوجّه الإعطاء والسلب إلى شيء آخر غير ذات المنزّل عليه؛ صيانةً لكلام المتكلم عن الكذب واللغويّة، وهذا الشي الآخر لا بدّ أن يكون ذا علاقة بالمنزّل عليه تمثّل مصحّحاً لغويّاً للتنزيل - كما ذكرناه من قبل -، وهي في التنزيل الأدبيّ تمثّل أحكام وآثار المنزّل عليه التي ينالها الاعتبار دون غيرها، وبمقتضى إطلاق التنزيل تثبت جميع تلك الآثار للمنزّل.

وأمّا في التنزيل القانونيّ بناءً على ثبوته كما ذهب إليه سيّدنا الأُستاذ (دامت افاداته) فإنّ الذي يثبت للمنزّل شأنيّة الاتّصاف بأحكام المنزّل عليه.

ومنها: مناسبات الحكم والموضوع(1) المكتنفة بالدليل الحاكم والتي هي أحد الوجوه لإثبات أنّ أدلّة لا ضرر ناظرة إلى أدلة الأحكام الأوّليّة، بتقريب: أنّه لما لم يكن

ص: 149


1- وإجمال هذه القرينة نذكره في نقاط: 1- إنّها من أبحاث وفروع الارتكاز حيث إنّه في هذا النحو يمثّل علاقة راسخة بين موضوعٍ وآثاره، وهذا الرسوخ والارتكاز هو المقصود بمناسبات الحكم والموضوع، فليس كلّ مناسبة بين موضوعٍ وحكمٍ تنفع فيما نريده في المقام وإنّما المناسبة الراسخة؛ وذلك لأنّ لرسوخ المناسبة وارتكازها آثاراً: (أ) أنّه يجعل المناسبة حاضرة في الذهن عند حضور الموضوع والحكم، فتكون بذلك قرينة متّصلة لا منفصلة، ولذا يُعبّر عنها بأنّها (مكتنفة بالكلام). (ب) أنّه يوجب حركة الذهن تلقائيّاً إلى فهمها من الكلام المناسب لها على أساس قاعدة انتخاب الأسهل، والتي هي وراء حمل الذهن لبعض التشريعات على الإرشاد إلى أفكار جاهزة عنده في مقابل تجشّم العناء لفهم آخر لها. (ت) أنّه يعطي المناسبة قوّة في الظهور فيقدّم على الدليل الظاهر - لولا هذه المناسبة - بالأقوائيّة في الظهور. فاتّضح بما ذكرنا المقصود من قرينة مناسبات الحكم والموضوع، والآثار الثلاثة لارتكاز ورسوخ المناسبة. 2- مناشئ هذه المناسبات متعدّدة: فمنها: طبيعة الشيء كما يقال في الماء فإنّ من طبيعته التنظيف، ولذا نحمل بموجب هذه المناسبة تعبير (اغتسل بالماء) على أنّه إرشاد إلى مطهريّته دون الوجوب التعبديّ للاغتسال، كذلك مناسبة كثرة الماء للاعتصام لمكان أنّ كثرته لا تتأثّر تكويناً بالقذارة القليلة. ومنها: أحكام العقل العملي بشقّيه الأخلاقي والنفعي، ومن ثَمّ تندرج فيه جميع الجوانب العقلائيّة. ومنها: العواطف والأحاسيس والميولات التي تمثّل جوانب ذاتيّة في مقابل الجوانب الموضوعيّة التي تندرج في المنشأ الأوّل. ومنها: الإعلام والدعاية والسلطة. ومنها: الفتاوى والعقائد الدينيّة. 3- حجّيّة هذه المناسبات من باب حجّيّة الظهور، ولذا لا بدّ أنّ تكون معاصرةً للمعصوم ومناسبة مع الفهم العرفيّ النوعيّ المتخصّص؛ لأنّ هذا هو الموضوع لحجّيّة الظهور في مقابل المناسبات العقليّة الدقيقة، كما أنّه مقابل الفهم الشخصيّ - مع أنّ له أماريّة على الفهم النوعيّ - والفهم النوعي العامّ غير المتخصّص؛ ولذا صحّ أن يقال: إنّها مناسبات عرفيّة أو عقلائيّة وإن كانت مناشؤها متعدّدة. 4- تجري هذه القرينة عادة في التشريعات المناسبة للأحكام العرفيّة. وآليّة إجرائها - بصورة مبسطة - هي: أنّه إذا ورد الدليل على تشريع جديد لموضوعٍ ما فإنّ الذهن يصنّف التشريع الجديد هذا على أنّه من قبيل الأحكام الموجودة عنده والمناسبة لذاك الموضوع، وعندئذٍ يعتبر فيه ما هو معتبر في تلك الأحكام من حيث ثبوتها لذاك الموضوع، فقد يلغي دخالة ما يرد في دليل التشريع أو يكون ظاهراً فيه ولكنه غير معتبر في الأحكام المناسبة تلك، أو يضيف ما هو معتبر فيها مع أنّه غير مذكور في دليل التشريع الجديد، إلى غير ذلك.

ص: 150

من المترقّب في الشريعة جعل أحكام ضرريّة بطبيعتها، وإنّما تجعل أحكاماً قد تصبح ضرريّة في بعض الأحيان، فإنّه ستكون أدلّة نفي الضرر - بهذه المناسبة - ناظرةً إلى إطلاقات أدلّة الأحكام الأوليّة ومحدِّدةً لها.

ومنها: قرينة الامتنان(1)، حيث إنّ الامتنان بنفي حكم - كنفي الضرر والحرج - أو تشريع حكم محدِّد لحكم آخر كأدلة مطهّريّة الماء - مثلاً - بالنسبة إلى أدلّة النجاسات يقتضي بطبعه النظر إلى أحكام ثابتة في الرتبة السابقة فيكون محدِّداً لها.

الجهة الثالثة: علائم النظر

اشارة

إنّما يحتاج لعلائم النظر هذه فيما إذا لم نحرز تحقّقه من غير طريقها، وإلّا لا تكون هناك حاجةٌ لها. وقد ذكر الشيخ الأعظم (قدس سره) العلائم في تقريرات بحثه الموسوم بمطارح الأنظار(2) بعنوان (علائم البيان)، بينما ذكر في فرائد الأُصول(3) ما يدور مرجع الميزان والعلامة فيه بين التفرّع والحكومة، وبالالتفات إلى ما ذكرناه في الجهة الأولى يتّضح أنّ

ص: 151


1- يبدو أنّ لمناسبات الحكم والموضوع في كلمات الأعلام إطلاقين: الأوّل: إطلاق عامّ، بحيث يشمل العناوين الثانويّة والحيثيّات المنضمّة للموضوع - بما يعمّ المعلّق - أو الحكم، فليس بين الموضوع والحكم مناسبة لولا ذلك العنوان وتلك الحيثيّة كعنوان الامتنان. الآخر: إطلاق خاصّ لا يشمل العناوين الثانويّة المُشار إليها، وعلى هذا الإطلاق تكون قرينة الامتنان مستقلةً عن مناسبات الحكم والموضوع. وهذا الإطلاق هو الأنسب.
2- يلاحظ: مطارح الأنظار: 4/ 414.
3- فرائد الأُصول: 4/ 13.

هذه العلائم أولاً وبالذات للنظر، وثانياً وبالتبع للدليل الحاكم؛ لأنّ الدليل الحاكم في حدّ نفسه لا يتّصف بأنّه ناظر ومفسِّر ومبيِّن، وإنّما اتّصافه بتلك الأوصاف لمكان النظر، ولذا صحّ أن تكون علائم للنظر. ولأجل أنّ أنظار الأعلام في القسم الثاني من علم الأُصول - مباحث الحجج - إنّما كان لخصوص فرائد الأُصول كانت متابعتهم للعلامة الأولى فحسب.

وأيَّاً كان فقد ذكر (قدس سره) علامتين:

العلامة الأُولى: التفرُّع الثبوتي أو الإثباتي
اشارة

وحاصل ما أفاده (قدس سره): أنّ الدليل الحاكم متفرّع على الدليل المحكوم بحيث لو فرض عدم الدليل المحكوم يكون صدور الدليل الحاكم لغواً؛ لأنّه سيكون بلا مورد.

والتفرّع المذكور قد يكون ثبوتيّاً، وقد يكون إثباتيّاً.

أمّا التفرّع الثبوتي فيراد به ما يكون في مقام التشريع والجعل والتعبّد، بمعنى أنّه لا يصحّ تشريع الحاكم إلّا بعد تشريع المحكوم، فمثلاً لا معنى لتشريع (الطواف بالبيت صلاة) أو (لا ربا بين الوالد والولد) وهو بعدُ لم يشرّع اشتراط الصلاة بالطهارة، أو حرمة الربا.

وأمّا التفرع الإثباتي فهو تفرّع في مقام صدور الدليل من المشرِّع، فلا يصحّ أن يصدر الدليل الحاكم قبل صدور الدليل المحكوم، فهو تفرّع في زمان الصدور.

وظاهر كلام الأعلام هو الوجود التفصيليّ للدليل المحكوم في مقابل عدم وجوده أصلاً. وهناك فرض آخر في المسألة وهو الوجود الإجماليّ للدليل المحكوم، ويكفي في الوجود الإجمالي للدليل المحكوم التنبيه على أنّه سيأتي المحكوم، وإنّما أخّره لغرضٍ ما، كأنْ يكون الحكم لم تتضح معالمه بعدُ، فمثلاً لم يحدّد بعدُ أنّ الربا حرام أو مكروه، ولكن

ص: 152

على كلا الحالين يكون الربا بين الوالد والولد مستثنىً من هذا الحكم.

إذاً، هكذا ينبغي أن يُحرَّر محلّ النزاع.

وينبغي الالتفات إلى أنّ المحذور المنظور في المقام ثبوتاً ونفياً ليس من الجهة العقليّة، وإنّما من الجهة العقلائيّة والقانونيّة.

وكيفما كان، فقد بنى الشيخ الأعظم (قدس سره) على أنّ التفرّع الإثباتي من علائم النظر، حيث أفاد في مطارح الأنظار ما لفظه: (ومن جملة علامات البيان أنّه لو قطع النظر عن ورود المبيَّن كان البيان لغواً صرفاً كما يظهر ذلك من ملاحظة قولنا: (أعني الرجل الشجاع) لو لم يكن كلاماً برأسه، أو قولنا: (ما أردت الأسد الحقيقي بل أردت الرجل الشجاع) إذا لم يكونا مسبوقين بقولنا: (رأيت أسداً)) (1).

والوجه في اللغويّة: ما ذكره بنفسه (قدس سره) في فرائد الأُصول(2) من أنّ الدليل الحاكم سيكون عندئذٍ خالياً عن المورد، ومثّل له بأدلّة (لا حكم للشكّ في النافلة)، أو ( لا حكم للشكّ مع كثرة الشكّ)، أو (لا حكم للشكّ مع حفظ الإمام أو المأموم)، أو (لا حكم للشكّ بعد الفراغ من العمل)؛ فإنّه لو لم ترد من الشارع أحكام الشكوك - لا عموماً ولا خصوصاً - لم يكن مورد للأدلّة النافية لحكم الشكّ في الصور المذكورة.

ومن الواضح أنّه (قدس سره) مثّل بأدلّة ينحصر الغرض من تشريعها وإيرادها في كونها مبيِّنة وشارحة للدليل المحكوم، وكأنّه لوضوح التفرّع فيها بالقياس إلى الأدلّة التي لها أغراض أُخرى بالإضافة إلى البيان والتفسير، كالأمارات بالإضافة إلى الأُصول العمليّة الشرعيّة حيث إنّ لها أغراضاً أخرى وراء تحديد الأُصول المذكورة، وهي أنّها كاشفة

ص: 153


1- مطارح الأنظار:4/ 414.
2- يُلاحظ: فرائد الأُصول: 4/ 13.

عن الأحكام الواقعيّة وواردة على الأُصول العمليّة العقليّة، ولذا ينبغي التفريق بين هذين النحوين من الأدلّة في مقام تحرير محلّ البحث والنزاع.

وذهب المحقّق النائيني (قدس سره) (1) إلى أنّ التفرّع في كلا المقامين غير معتبر العلاميّة على النظر، ونقض على مَن يرى علاميّة التفرّع بعدم اللغويّة في مورد حكومة الأمارات على الأُصول العمليّة الشرعيّة.

والكلام يقع في كلا المقامين:

التفرّع الثبوتي

بمعنى ما يجري في نفس المقنِّن عند الجعل والتشريع، فإنّه (تارةً) نقول: إنّه لا فرق في مقام الجعل بين الحكومة والتخصيص، وليس النظر جزءاً من الجعل، وإنّما هو من شؤون البيان فيكون محلّه مقام الإثبات، ومن الواضح في هذا الحال أنّه لا ملزم للتفرّع المذكور وإن كان عادةً يُشرّع التأصيل والعام أوّلاً، ثمّ تُشرّع الحدود والاستثناءات التي تمثّل الحاكم والخاصّ. (وأُخرى) نبني على أنّ للنظر مكاناً في مقام الجعل والتشريع، وعندئذٍ نقول: إنّه لمّا كان النظر من قبيل الصفات ذات الإضافة كان مقتضياً لوجود المنظور إليه في نفس المقنِّن - ولو إجمالاً - بالمقدار الذي يصححّ النظر، وهذا يعني أنّ نفس صفة النظر تكشف عن وجود المنظور إليه في نفس المشرّع.

وقد يلاحظ على هذا البيان:

أولاً: أنّ ما ذكر يمثّل تحليلاً عقليّاً، والذي يناسب الجعل والتشريع هو أن يكون التحليل عقلائيّاً كما ذُكر من قبل.

ص: 154


1- يُلاحظ: فوائد الأُصول:4/713.

ثانيا: أنّ ما ذكر قد اعتمد على نفس النظر في إثبات علاميّته، وهذا قد لا يكون مناسباً.

ويجاب على الملحظ الأوّل: أنّ كلامنا هذا في أصل وجود التشريع وما تقتضيه مفرداته لا في مصحّحاته حتى يصار إلى العقلائيّة فحسب، فإنّها تأتي في رتبة متأخّرة عن أصل وجود الشيء.

ويجاب على الملحظ الثاني: أنّ البيان المذكور من قبيل برهان (الإن) فإنّه لو كان نظرٌ لكانت هناك حاجة إلى وجود المنظور إليه، فإذا تحقّقت الحاجة المزبورة كشفت عن وجود النظر كشف المعلول عن علّته.

ويمكن أن ينبّه على ذلك ما يمكن أن يجري في المجالس التشريعيّة فيما إذا اعتبرناه من قبيل مقام الثبوت، وأنّ ما يجري بين أعضائه بمثابة عقل واحد يفكّر بصوت عالٍ، فإنّه لو أقدم أحدهم على تشريع الحاكم قبل تشريع المحكوم لاستغربوا من صنيعه هذا. نعم، لو نبّه على أنّه سيأتي المحكوم وإنّما أخّره لغرضٍ لقبلوا صنيعه هذا.

التفرُّع الإثباتيّ

وقد انقدح ممّا ذكرناه في التفرّع الثبوتيّ ما يحصل في ذهن المتلقّي للدليل الحاكم من جهة اشتماله على النظر، ومن ثَمّ إذا لم يُنبِّه المشرّع على أنّ الدليل المحكوم سيصدر فيما بعد فإنّه يلزم أن يكون نظر ولا منظور إليه، وهو كما ترى.

يضاف إلى ذلك أنّ الدليل المحكوم يمثّل جزءاً من المراد الجدّيّ للدليل الحاكم كما يتّضح بملاحظة الدوالّ على النظر، فإذا لم يكن الدليل المحكوم صادراً أوّلاً فإنّ مفاد

ص: 155

الدليل الحاكم يكون مجملاً، وهذا يكفي في تحقّق العلاميّة. والعلاميّة المذكورة تتحقّق أيضاً في مثل الأمارات. نعم، ليس بنفس الوضوح الحاصل في الدليل الذي سيق لغرض التفسير فحسب.

العلامة الثانية: انحصار الغرض بالتفسير

وقد أفادها الشيخ (قدس سره) في تقريرات بحثه قائلاً ما لفظه: (ومن كواشفه - أي البيان والنظر - أيضاً أنّ حمل البيان على وجه لا يكون بياناً ممّا يعدّ في العرف من إخراج الكلام عمّا سيق إليه بالمرّة، بخلاف التخصيص فإنّ حمل الأمر فيه على الاستحباب أو تصرّف آخر فيه على وجه لا ينافي عموم العامّ ليس بهذه المثابة من القبح كما لا يخفى على من ألقى السمع وهو سديد السليقة ومستقيم الطبيعة) (1).

وما أفاده (قدس سره) يناسب ما كان الغرض من سوقه منحصراً في كونه مفسِّراً لدليل آخر دون ما إذا كان له غرض آخر بالإضافة إلى التفسير كما هو الحال في الأمارات.

ولعلّ ما ذُكر هو إحدى النُّكات وراء البناء على أنّ الدليل الحاكم يتقدّم مطلقاً وبلا استثناء على الدليل المحكوم، فإنّ النظر لمكان إفضائه إلى النكتة المذكورة يقتضي تقديم الحاكم مطلقاً، وسيأتي بحثه.

فإنْ قيل: إنّه على هذا يمكن عدّ الكثير من الخصوصيّات التي تمتاز بها الحكومة عن باقي أبواب التعارض من علامات النظر والحكومة، وهو كما ترى.

فإنّه يقال: - مضافاً إلى أنّه لا محذور فيه - إنّ الخصوصيّات المنظورة لنا إنّما هي خصوصيّات النظر والتفسير، لا أيّة خصوصيّة تمتاز بها الحكومة عن باقي أبواب التعارض.

ص: 156


1- مطارح الانظار: 4/ 414.

الجهه الرابعة: حدود النظر

لمّا كان ضابط الحكومة وميزان القرينيّة والتقديم فيها - كما انقدح آنفا وسيأتي بحثه - هو النظر، فلا بدّ من إحرازه في الرتبة السابقة حتّى يصحّ إجراء أحكام الحكومة.

ثمّ إنّ الآثار والأحكام التي يراد إثباتها بالدليل الحاكم أو نفيها يتحدّد مقدارها وكمّها بمقدار النظر، وذلك عادةً ما يكون من خلال إطلاق نظر الدليل الحاكم الذي يتوقّف على تماميّة مقدّمات الحكمة.

وههنا مشكلة تبرز فيما لو كان الدالّ على النظر هو التنزيل؛ وذلك لأنّه قد ذكرنا في مباحث الإطلاق(1) أنّ الرابعة من مقدّمات الحكمة ما حُكي إضافته عن بعض أعاظم العصر (دام ظله العالی)، وهو ضرورة التطابق بين المرادين الاستعماليّ والجدّيّ في ذاتهما، ووافقه السيد الأستاذ (دامت افاداته) حيث أفاد ما لفظه: (أنّ مرجع الأخذ

بالإطلاق اللفظي هو أصالة التطابق بين المراد الجدّيّ والمراد الاستعماليّ أي التطابق بين القضيّة اللفظيّة والقضيّة اللبيّة، بمعنى أنّه ما لم يذكر في القضيّة اللفظيّة ليس له دخل في القضيّة اللبيّة، هذا فيما إذا كان التطابق بين المراد الاستعماليّ والمراد الجدّيّ في الذات متحقّقاً ونشكّ في الحدود، فلو قال الآمر: (أكرم عالماً)، وشككنا في أنّ للعدالة دخلاً في ثبوت هذا الحكم أم لا؟ فنقول: إنّ مقتضى أصالة التطابق بين المراد الجدّيّ والاستعماليّ هو أن لا يكون للعدالة أيّ دخل في ثبوت هذا الحكم.

أمّا لو افترضنا أنّ المراد الجدّيّ مغاير في الذات للمراد الاستعماليّ بأن ذكر شيئاً وأراد شيئاً آخر لأيّ مبرر كان - كما هو الحال في باب الكنايات - فيقول: (زيد كثير الرماد) فليس هناك تطابق أصلاً بين المرادين حتى يكون مجرى لأصالة التطابق والأخذ

ص: 157


1- يُلاحظ: البحث المنشور في مجلّة دراسات علميّة، العدد (5) ص168.

بالإطلاق اللفظي، ففي جميع الموارد من هذا القبيل - كناية كانت أم غيرها - لو شككنا في سعة المراد الجدّيّ وضيقه فلا بدّ من اللجوء إلى القرائن والمناسبات، فلو قيل: (جئني برجل كريم) وشكّ في أنّ المراد الجديّ هو مطلق من يُعدّ كريماً في العرف أو خصوص من يتّسم به كرم الضيافة - مثلاً - يمكن الأخذ بالإطلاق، ومقتضاه كفاية الإتيان بأيّ رجل كريم سواء أكان كرمه في الضيافة أم في غيرها من المجالات؛ وذلك لأنّ التطابق بين المرادين الجدّيّ والاستعماليّ في الذات معلوم، وحيث لم يقيّد بخصوصيّة معيّنة، فمقتضى أصالة التطابق هو أن لا تكون أيّ خصوصيّة غير مذكورة معتبرة في المراد الجديّ.

وأمّا لو قال: (جئني برجل كثير الرماد) وشككنا في أنّ المراد خصوص الكريم في مجال الضيافة أو أعمّ من ذلك، فلا يؤخذ بالإطلاق؛ لأنّ المراد الجدّيّ هو الرجل الكريم وليس كثير الرماد، فلا توافق بين المرادين الاستعماليّ والجدّيّ في الذات ليُبنى على تطابقهما في الحدود، فلا محيص من الرجوع في مثل ذلك إلى الشواهد والمناسبات، ولعلّ مقتضاهما في المورد إرادة خصوص كرم الضيافة، فلا بدّ من الاقتصار عليه، ولا مجال للأخذ بالإطلاق على كلِّ حال)(1).

وقد فرّعنا على هذه المقدّمة في البحث المشار إليه بظهور التأمّل في ما يعبّر عنه في كلماتهم ب-(إطلاق التنزيل)؛ إذ إنّه لا إطلاق فيه أصلاً، ومن ثَمّ حمله على أبرز الجهات دون جميعها لأجل عدم الإطلاق من رأس، لا لأجل انعقاد الإطلاق ولكن عدم إحراز أن يكون من جميع الجهات(2).

ص: 158


1- بحوث في شرح مناسك الحج: 1/ 108، ط1.
2- وقد تمسّك السيّد الأستاذ (دامت افاداته) في مجلس بحثه الشريف بإطلاق التنزيل مع أنّ المراد الاستعماليّ فيه لا يطابق المراد الجديّ، وقد استفهمت من سماحته (دامت افاداته) آنذاك، ولكن لم يتّضح لي وجه التفريق. والمقصود بالسيد الأستاذ (دامت افاداته) هو السيد محمّد رضا السيستاني (دامت افاداته) أينما ذكرنا هذا التعبير.

وذكر سيّدنا الأستاذ (دامت افاداته) (1) أنّ التقريب المحكي عن بعض الأعاظم (دام ظله العالی) بخصوص المقدّمة الرابعة يحتاج إلى مزيد تمحيص وتوضيح، فقال (دامت افاداته) بخصوص هذا الأمر:

إنّ المراد الجديّ المغاير للمراد الاستعماليّ لو لم يكن قد أُفيد بالكلام ربّما جرى البيان المذكور وفق ما يتراءى منه، ولكن المفروض فيما نحن فيه إفادته بالكلام من خلال المراد الاستعماليّ، فهو - فضلاً عن كونه مراداً جدّيّاً - مراد تفهيمي أيضاً يكون للكلام ظهور فيه، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإنّ هذا المراد التفهيميّ وإن لم يذكر في الكلام استعمالاً كي يتأتّى تقييده بنحو مباشر إلّا أنّه يتأتّى تقييده من خلال تقييد المعنى الاستعماليّ كما أُفيد أصله بتوسّط المعنى الاستعماليّ، مثلاً إذا قيل: (أكرم الرجل الذي يكون كثير الرماد) فإنّه في قوّة أن يقال: (أكرم الرجل الكريم)، فكما ينعقد للثاني إطلاق فيما إذا شُكّ في اختصاص المراد بالرجل الكريم الذي يكون حسن الأخلاق مع من يكرمه، فكذلك ينعقد للأوّل في حال طروّ هذا الشكّ؛ إذ كان له أن يقول: (أكرم الرجل الذي يكون كثير الرماد إذا كان خلقه حسناً).

والحاصل: أنّ المانع من انعقاد الإطلاق في المراد الجدّيّ حيث يختلف عن المراد الاستعماليّ إن كان عدم إفادته بالكلام فهو لا يتوجّه بالنظر إلى أنّ المفروض إفادته من خلال المراد الاستعماليّ فهو مراد تفهيمي بالكلام. وإن كان من جهة عدم إفادته بنحو مباشر - أي من خلال المراد الاستعماليّ المفاد بالكلام مطابقته - فهذا لا يمنع أيضاً من إمكان تقييد المراد الاستعماليّ.

ص: 159


1- مشافهة بالإضافة إلى بعض التحريرات الخاصّة.

ولا يبعد أن يكون المراد بما ذُكر في هذه المقدّمة هو أنّه فيما لو دار المعنى الجدّيّ المراد بين المطلق والمقيّد لمناسبة منعقدة بين المراد الاستعماليّ بدرجةٍ مع المطلق، وبدرجةٍ آكد مع المقيّد، فيُشكّ في نظر المتكلّم إلى الدرجة الأدنى فيفيد الإطلاق أو الأعلى فيفيد التقييد، فيكون الكلام مجملاً ما لم يتعيّن أحدهما بالنظر إلى ما يتعارف إرادته من مثله عرفاً؛ لأنّ تأكّد المناسبة في التقييد توجب صلاحيّة المجاز لإفادته، كما لو فرض أنّه قال: (أكرم كلّ أسد) وأراد الرجل الشجاع، وشككنا في أنّ المراد هل هو مطلق الرجل الشجاع أو الشجاع شجاعة بالغةً؟ فحيث إنّ المراد الجدّيّ وهو (الشجاع) غير مذكور بلفظه، وما ذكر وهو (الأسد) يناسب كلّا ً منهما بدرجةٍ، فلا سبيل إلى استظهار مطلق الشجاع تمسّكاً بإطلاق الكلام؛ لأنّ تأكّد المناسبة على الشجاع جدّاً كالصالح للقرينيّة على إرادته بالتنزيل. نعم، لو كان المتعارف إطلاق (الأسد) على كلّ شجاع كان ذلك محدّداً للمراد الجدّيّ. انتهى ما أفاده (دامت افاداته).

الجهة الخامسة

اشارة

في أنّ المنظور إليه في الدليل الحاكم هل يشترط أن يكون خصوص دلالة الدليل المحكوم أم يعمّ الحكم الواقعي بما هو واقع وبقطع النظر عن كونه مدلولاً للدليل؟ توضيح ذلك:

إنّ قرينة المجاز(1) - مثلاً - إنّما تشرح المراد من لفظ ذي القرينة وتحدّده بما هو مدلول للدليل، ولا تتعدّى لتبيّن الواقع الذي يكشف عنه ذو القرينة وبقطع النظر عن كونه مدلولاً له، فكلمة (يرمي) في قوله (رأيت أسداً يرمي) تدلّ على أنّ المراد التفهيميّ من الأسد بما هو مدلول لكلمة الأسد هو الرجل الشجاع.

ص: 160


1- على تقدير كون المجاز استعمالاً للفظ في غير ما وضع له.

وهذا بخلاف قرينة التخصيص والتقييد فإنّ الخاصّ - مثلاً - كقوله: (لا تكرم فسّاق الشعراء) لا يشرح المراد من لفظ الشعراء في قوله: (أكرم الشعراء)، وإنّما يبيّن الموضوع النفس أمري للحكم المذكور في الدليل العامّ، وما تعلّقت به إرادة المشرّع واقعاً من دون أن يتصرّف في لفظ العامّ، وإنّما يبيّن أنّ العامّ جزء من موضوع الحكم لا تمامه، وإلّا لو كان يريد بيان أنّ مدلول العامّ والمراد منه هو ما عدا الخاصّ لكان تجوّزاً واستعمالاً للعامّ في المخصّص بما هو مخصّص. والحال أنّه لا ريب في عدم التجوّز في التخصيص ونحوه؛ لأنّ الدلالة فيه على سبيل تعدّد الدالّ والمدلول، بمعنى أنّه بمجيء الخاصّ ينكشف أنّ العام كان جزءاً من موضوع الحكم و الجزء الآخر هو عدم الخاص، ومن ثَمّ كلٌّ من العامّ والخاصّ يدلّ على الجزء المُناط كشفه به.

هذا توضيح لمحلّ الكلام في هذه الجهة.

وفي المقام قولان:

القول الأول

الاختصاص بدلالة الدليل؛ إذ التحديد المعروف للحكومة يوهم بظاهره الاختصاص بأن يكون المنظور إليه دلالة الدليل الآخر. وهذا هو ما فهمه صاحب الكفاية(1) من كلمات الشيخ (قدس سرهما)، وفرّع عليه عدم تأتّي الحكومة كوجهٍ لتقدّم الأمارات على الأُصول العمليّة الشرعيّة.

القول الآخر

التعميم، وهو ما بنى عليه المتأخّرون(2) وذكروا أنّه مرادٌ للشيخ لقرائن، وأفاد المحقّق النائيني (قدس سره) أنّ قصر الحكومة على ما يماثل قرينة المجاز يوجب

ص: 161


1- كفاية الأُصول: 429، 438.
2- منية الطالب: 3/ 406 وما بعدها، فوائد الأُصول: 4/ 593، و710، الأُصول في علم الأُصول: 430، نهاية النهاية في شرح الكفاية: 2/ 226، وغيرها.

خروج غالب الموارد منها.

والصحيح هو التعميم؛ إذ لا مانع من نظر الدليل الحاكم إلى واقع الدليل المحكوم من جهة أنّه حكم واقعي، لا من جهة أنّه مدلول للدليل الدال عليه، ولمكان النظر المذكور حيث يكون الدليل الحاكم مبيّناً لواقع الدليل المحكوم بنفس مدلوله اللفظي، وهذا بخلاف التخصيص فليس في الدليل الخاصّ ما يشعر بالحكم الثابت في العامّ، وإنّما يكون بياناً له بحكم العقل، فإنّه يحكم بأنّ المتكلّم الملتفت لا يناقض نفسه، فلا يريد العموم جدّاً مع استثنائه لأحد أفراده، وبعد نصوصيّة الخاصّ أو أظهريّته من العامّ في شموله لذاك الخاصّ يحكم العقل بأنّ المتكلم لم يُردْ من العموم هذا الفرد.

ص: 162

الفصل الثالث: في ميزان القرينيّة في الحكومة

اشارة

يطرح هذا البحث في كلمات الأعلام (رضوان الله تعالی علیهم) بعنوان (وجه تقدّم الحاكم على المحكوم)، وكأنّه لتصوّر مَن طرحه أوّل مرّة عدم التنافي بين الحاكم والمحكوم، فلا تكون هناك حاجة للقرينيّة؛ لأنّه إنّما يحتاج إليها في حال التعارض، ولما كان العنوان المشار إليه لا يعكس بوضوح في متنه ميزان القرينيّة والتقديم في الحكومة، إذ الصحيح أنّ هناك تنافياً بين الحاكم والمحكوم ارتأينا أن نطرح البحث بالعنوان المذكور، وعليه نوقع الكلام في جانبين:

الجانب الأوّل

اشارة

في إثبات التنافي(1) وعدمه بين الحاكم والمحكوم.

ويُذكر لبيان عدم التنافي وجهان:

الوجه الأول

ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) (2) من أنّ لازم كون الدليل الحاكم ناظراً بمدلوله اللفظيّ للمحكوم ومفسِّراً له عدم المعارضة وعدم التناقض بينهما؛ ضرورة انتفاء التعارض بين المفسِّر والمفسَّر، والمبيِّن والمبيَّن، وفرّع (قدس سره) على ما ذكره:

1- أنّه لا معنى لملاحظة النسبة بين المفسِّر والمفسَّر كما تلاحظ بين العامّ والخاصّ أو العامّين من وجه؛ وذلك لأنّ التفسير يفضي إلى عدم المعارضة، واختصاص ملاحظة النسبة بالمتعارضين.

ص: 163


1- يُراد به مطلق التنافي لا خصوص التنافي المستقرّ.
2- مطارح الأنظار: 4/ 413،420.

2- أنّ المفسِّر يتقدّم على المفسَّر من جهة أنّ المفسّريّة تفضي إلى الأظهريّة عند العرف فلا بدّ من الأخذ به.

ويمكن أن يلاحظ عليه:

أولاً: أنّه لا حاجة للأظهريّة في تقديم الحاكم على المحكوم كما سيأتي التعرّض له في الجانب الثاني.

ثانياً: أنّ المفسّريّة بمجرّدها لا تكفي في المقام لرفع التعارض؛ لأنّ الدليل المحكوم مراده التفهيميّ مطابق لظاهره، وأمّا الدليل الحاكم المنفصل فلمكان نظره إليه يكون مفاده أنّ ذاك المطابق ليس مراداً تفهيميّاً له، فالمنافاة بعدُ باقية. وسيأتي التعرّض له في الجانب الثاني.

الوجه الآخر

ما أفاده المحقّق النائيني (قدس سره) (1) من أنّ الدليل الحاكم يتكفّل بيان ما لا يتكفّل بيانه الدليل المحكوم، فلا تعقل المعارضة بينهما، و توضيحه:

أنّ من شرائط التعارض وحدة الموضوع ومصبّ الدليلين، وهي غير حاصلة في الحكومة؛ ذلك أنّ الدليل المحكوم لمّا كان - عادةً - على سبيل القضيّة الحمليّة الحقيقيّة والتي مرجعها إلى قضيّة شرطيّة يؤخذ فيها الشرط مفروض الوجود، ولا تتعرّض لثبوته أو نفيه فكذلك القضية الحمليّة الحقيقيّة، فهي لا تتعرّض لوجود أو نفي موضوعها، وأمّا الدليل الحاكم فمفاده نفي ذاك الموضوع أو إثباته. إذاً لا وحدة في الموضوع والمصبّ، فلا تعارض.

وفرّع عليه:

1- عدم ملاحظة النسبة بين الحاكم والمحكوم.

ص: 164


1- فوائد الأُصول: 4/ 710، 714 -715، أجود التقريرات: 4/ 283.

2- عدم ملاحظة الأقوائيّة في الظهور؛ لأنّ ملاحظة النسبة وقوّة الظهور فرع التعارض، ولا تعارض في الحكومة.

3- تقدّم الحاكم على المحكوم من جهة أنّ الحاكم يجري على رِسله من دون ممانعة من المحكوم، فيوسّع الموضوع أو يضيّقه اعتباراً، وهذا هو معنى تقدّمه كما هو الحال في الورود تماماً.

وأورد عليه بعض الأعاظم (دام ظله العالی) (1) ب-: أنّ التعارض بين الدليلين ليس بحسب المراد الاستعماليّ فيهما قطعاً، وإلّا لم يقع التعارض بين القول المثبت لمعنى مع القول النافي له بلسان المجاز والكناية، كما لو قيل (زيد بخيل) و (زيد كثير الرماد)، أو (زيد جبان) و (زيد أسد)؛ لأنّ كلّا ً منهما بحسب المراد الاستعماليّ يتعرّض لما لا يتعرّض له الآخر، وإنّما العبرة في التعارض بالمراد التفهيميّ من الدليلين، وهو مختلف في الحاكم والمحكوم، فإنّ الحاكم وإن كان ينفي ما هو موضوع للمحكوم استعمالاً - مثلاً - إلّا أنّ المراد به تفهيماً نفي نفس الحكم الذي يثبته المحكوم فهما متعارضان.

يضاف إلى ذلك أنّ هذا الوجه لا يتمّ في الحكومة بملاك النظر إلى عقد الحمل من الدليل المحكوم؛ لأنّ الحاكم يتعرّض لنفس ما يثبته المحكوم أو ينفيه.

الجانب الثاني

اشارة

بعد ثبوت المنافاة بين الحاكم والمحكوم يأتي الكلام في ميزان القرينيّة والتقديم، وهنا اتّجاهان:

الاتّجاه الأوّل

يرى أنّ الميزان هو الأقوائيّة في الظهور، وما النظر إلّا مزيّة دلاليّة توجب أقوائيّة ظهور الدليل الحاكم من المحكوم: إمّا في مطلق أنحاء النظر والحكومة

ص: 165


1- قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 259.

حتى المشتملة على أدوات التفسير الصريحة كما صرّح بذلك المحقّق الإيرواني (قدس سره) (1) وظاهر إطلاق عبارة الشيخ الأنصاري (قدس سره) الآنفة الذكر، أو في خصوص ما عداها كما عليه بعض الأعلام (دام ظله العالی) (2).

وعلى هذا الاتجاه يكون بحث الحكومة بحثاً صغرويّاً حاله حال التخصيص والتقييد ونحوهما، لا أنّه باب وميزان مستقل للقرينيّة، ولذا ذكر المحقّق الإيرواني (قدس سره) أنّ الحكومة لا تعدو مجرّد اصطلاحٍ، لا يترتب عليه أثر، فليست هي عنواناً مستقلّا ً، بل من أقسام التعارض الذي هو تنافي الدليلين بحسب مدلوليهما، والتقديم فيها بملاك الأظهريّة الذي هو المتّبع في كلّ جمع بين دليلين متنافيين، فالتنافي بين المحكوم والحاكم إنّما هو بسبب ظهور وكشف المحكوم عن إرادة معنىً، وكشف الحاكم وظهوره في إرادة خلاف ذلك المعنى، ولا يعقل وجه لتقديم الحاكم إلّا قوّة كشفه هذه.

وكأنّ الوجه في هذا الاتّجاه:

1- أنّه لمّا كان التنافي بين الدليلين في الكشف والظهور فينبغي أنّ يكون الجمع أيضاً في دائرة الكشف والظهور.

2- على أنّه لا يعقل وجه آخر للتقديم يكون بديلاً عن الأقوائيّة في الظهور.

وبتعبير آخر: إنّ التنافي بين الدليلين في ما يقال له الحكومة عين التنافي في الجمع العرفيّ بلا أيّ فرق، فينبغي أن يكون العلاج فيهما واحداً.

ولكن قد يُلاحظ على ذلك: أنّ هناك فرقاً فارقاً بين نحوي التنافي، وأنّه يعقل وجه آخر للتقديم يكون بديلاً عن الأقوائيّة في الظهور في موارد الحكومة، كما سيأتي بيان

ص: 166


1- الأُصول في علم الأُصول:430، نهاية النهاية في شرح الكفاية: 2/ 243.
2- المحكم في أُصول الفقه: 6/ 67، الكافي في أُصول الفقه: 2/ 538.

ذلك في ضمن الاتّجاه الثاني.

وأمّا بعض الأعلام (دام ظله العالی) (1) فقد ذكر أنّه في الحكومة التي تكون مشتملة على أداة تفسير صريح أو ما بمعناه يكفي النظر للقرينيّة والتقديم؛ لأنّ الحاكم فيها مسوق لتفسير المحكوم، وأمّا إذا كان الحاكم ناظراً للحكم الذي يراد كشفه بالدليل المحكوم دون دليله فإنّه لا يكون مسوقاً لتفسير الدليل، فلا يكفي النظر للقرينيّة، بل لا بدّ من الأقوائيّة في الظهور.

ويمكن التأمّل في ذلك ب-: أنّ ما ذكر لا يكون فارقاً مؤثّراً في النظر والتفسير؛ إذ لا فرق بين ما جيء به لتفسير وتحديد دليل آخر، أو لتفسير وتحديد الحكم الواقعي الذي يراد كشفه بالدليل الآخر. على أنّه حتى في الحكومة المشتملة على أداة التفسير يعقل أن يكون النظر للحكم لا للدليل، فمثلاً يقول ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾، ثمّ يقول: أعني بالربا الذي هو موضوع للحرمة في لوح التشريع والواقع هو ما عدا الربا بين الوالد والولد.

الاتّجاه الآخر

ما عليه معظم المتأخّرين من أنّ النظر مزيّة دلاليّة مستقلّة عن الأقوائيّة في الظهور، وهذا الاتّجاه هو الصحيح، وذلك:

أوّلاً: من خلال الالتفات إلى عنصر النظر، حيث إنّ مقتضاه أنّ الواجد له إنّما جيء به لتفسير وشرح حال المنظور إليه، وبيان كميّة مدلوله، وهذا المعنى يحقّق القرينيّة بنفسه، ولا يتوقّف على عنصر زائد يوجب قوّة الظهور.

وثانياً: من خلال مراجعة وجداننا، فإنّنا نجد أنّ درجة التنافي في موارد الحكومة

ص: 167


1- المصدر السابق.

خافتة إلى حدّ كبير بالقياس إلى درجة التنافي في موارد الجمع العرفي، وهذا التفاوت في درجة التنافي محفوظ وملحوظ حتى لو كان الخاصّ - مثلاً - في أعلى مراتب الكشف، بأن كان نصّاً، وكان العامّ في أدنى درجات الظاهر، ممّا يعني أنّ هذه الخصوصيّة الفارقة غير مرتبطة بجانب الظهور والكشف، وغير موجودة في موارد الجمع العرفي، وليست هي إلّا النظر.

قد يقال: إنّ عدم الشعور بالمنافاة لأجل لسان المسالمة في الدليل الحاكم، لا النظر فيه إلى الدليل المحكوم.

ولكن يقال: إنّ الخفوت حاصل حتى في الحكومة بملاك النظر إلى عقد الحمل رغم أنّه ليس بلسان المسالمة، فيدّل ذلك على أنّ النظر هو الموجب لخفوت التنافي، ومن ثَمّ رفعه.

وهنا نكتة تحليليّة أفادها السيد الشهيد (قدس سره) (1)، وهي: أنّ النظر والتفسير وإن كان بإعداد شخصيّ من المتكلّم، ويصيِّر الدليل الناظر قرينةً، إلّا أنّه لا يكفي بمجرّده للتقديم ورفع التنافي، بل لا بدّ معه من التسليم بكبرى عرفيّة تقول: (إنّ ظهور ما يعدّه المتكلّم لتفسير كلامه يكون هو المحدِّد النهائي لمدلول مجموع كلامه).

وما ذكره (قدس سره) تامّ؛ لأنّه بعد البناء على المنافاة بين الحاكم والمحكوم فإنّ النظر إذا لم يفضي إلى الطوليّة في حجّيتهما فإنّه لا مفرَّ من سريان التنافي إلى دليل الحجّيّة، والنظر بمجرّده لا يكفي لذلك؛ لأنّ الدليل المحكوم مراده الجدّيّ مطابق لظاهره، والدليل الحاكم لمكان نظره يكون مفاده أنّ ذاك المطابق غير مراد جدّاً، فالمنافاة بعدُ باقية، ولكن

ص: 168


1- بحوث في علم الأُصول: 7/ 166، 168، 171.

ببركة المصادرة المذكورة تثبت الطوليّة في الحجّيّة. وهذه المصادرة هي مستند ما يعرف بأنّ دليل حجّية الظهور مقيّد بعدم ورود قرينة على الخلاف.

وعليه إذا ورد المفسِّر والحاكم يكون وارداً على حجّية ظهور المفسَّر ويرفعها بمقداره، فالدليل الحاكم متقدِّم على حجّيّة الدليل المحكوم بالورود، وعلى الدليل المحكوم بالحكومة. وهذه المصادرة لا تحتاج إلى برهان لارتكازيّتها من جهة كونها من قبيل القضايا التي قياساتها معها، والقياس الخفيّ في المقام هو أنّ للمتكلم الحقَّ في بيان مقصوده بالطريقة التي تناسبه، ومنها أن يفسِّر أحد كلاميه بالآخر. نعم، لا بدّ من إقامة علامة على أنّ هذا هو المفسِّر وذاك المفسَّر، والعلامة في الحكومة هي النظر.

* * *

إلى هنا تمّ الكلام في الفصول الثلاثة الأولى، وسوف يأتي الكلام في الفصلين الأخيرين والخاتمة في الحلقة القادمة بإذنه تعالى.

والحمد لله ربِّ العالمين وصلّى الله على سيدنا محمَّد وآله الطّيّبين الطّاهرين.

ص: 169

ص: 170

قراءة في مبنى الشّيخ النّجاشي (رحمة الله) في التّوثيقات والتّضعيفات - الشيخ جاسم الفهدي (دام عزه)

اشارة

لكلمات قُدامى الرجاليين أهمّيّة بالغة في كشف حال الرُّواة، فكانت محط نظر المتأخِّرين عنهم بما يتلاءم ومبنى حجّيّة خبر الرِّجالي.

والبحث التّالي محاولة لتوصيف كلمات أحد أشهر المتقدّمين من الرِّجاليين ألا وهو الشيخ النَّجاشي (رحمة الله) مستظهرين من خلال الأدلَّة والشَّواهد دقّة توصيفاته للرِّجال، وأنَّه لا يخبر إلَّا عن حسٍّ لا عن حدس كما ادّعي.

وهو جزءٌ مستلٌّ من بحثٍ مفصّل لنا في كتاب النجاشي (رحمة الله)، ويمثّل فصلاً من فصوله العشر، سائلين المولى أن نوفّق لنشره قريباً.

ص: 171

ص: 172

بسم الله الرحمن الرحیم

تُعدُّ السُّنّة الشَّريفة - وخاصَّة الرّوايات منها - مصدراً أساسيّاً من مصادر التّشريع الإسلاميّ عند جميع الفرق الإسلاميّة؛ لما تغطّيه من مساحة من الأحداث والوقائع الملامسة لحياة الإنسان وبيان الأحكام الشرعيّة وتحديد المواقف منها، لذا نجدها محلّ اهتمام الأعلام (رحم الله الماضين منهم وحفظ الباقين) سنداً ومتناً.

ولا يمكن إغفال ما لطرق تلك الروايات ومعرفة رجالها من أهمّيّة بالغة يمكن من خلالها استكشاف الصدور عن المعصوم (علیه السلام), حتّى تراهم قدّموا السند على المتن الذي يتناول المضمون، باعتبار أنّ صحّة الإسناد وإثبات الصدور هو أساس له، ولولاه لما كان هناك داعٍ لدراسة المتن بعد نفي كونه صادراً عن المعصوم (علیه السلام).

ومن هنا برزت الحاجة لعلم الرجال واتّسعت الضرورة لمعرفة أحوال الرواة ومعرفة وثاقة نقلهم، ولذا فقد تصدّى جملة من العلماء لتدوين أسماء الرجال وما ألّفوه وكتبوه من مصنّفات ومؤلّفات، بل وصل الحدّ عند بعضهم إلى بيان أحوالهم وأحوال من يتعلّق بهم لمسيس الحاجة إلى تلك الأوصاف لمعرفة وثاقة الرواة والمرويّات.

ص: 173

وقد وصلت إلينا جملة من كتب الرجال، ولعلّ أقدمها ما يُعرف ب-(رجال البرقي) الذي دوّن في القرن الثالث الهجري, وهو كتاب في طبقات أصحابنا المعاصرين للأئمّة (علیهم السلام).

ثمّ تلاه كتاب (الكشّي) للشيخ محمّد بن عمر بن عبد العزيز الكشّي (رحمة الله) (ت 350 ﻫ), حيث حوى بين طيّاته مجموعة من الأخبار الواردة في الرجال, إلّا أنّه لم يصل إلينا, وما وصل إنّما هو ما اختاره الشيخ الطوسي (قدس سره) (ت 460 ﻫ) منه، وسمّاه (اختيار معرفة الرجال)، ثمّ وصَلَنا جزء من مؤلّفات ابن الغضائري (ت ق 5ﻫ) المسمّى ب-(كتاب الضعفاء) على كلام قد وقع في ثبوت نسبته إليه، ثمّ (الفهرست والرجال) للشيخ الطوسي في القرن الخامس الهجري، وفي القرن نفسه من ذلك الزمان جاء دور النجاشي (رحمة الله) وما دوَّنه في علم الرجال, إلّا أنّه تأخّر عن (الفهرست والرجال) وكانا من مصادره عند تأليفه لكتابه.

وقد عدّ هذا الكتاب من أهم الأصول الرجاليّة عند الشيعة الإماميّة, واهتمّ به من تأخّر عنه من العلماء، وجعلوه المقدَّم في ميدان الجرح والتعديل, ولا يعدوه فقيه من فقهائنا في أبحاثه, ملاحظين جميع مواطن كلامه, ناظرين في دقائق بيانه, فكان المصدر المقدَّم في علم الرجال, والمعتمد في معرفة أحوال الرواة, ولعلّ أوّل من صرَّح بالاعتماد عليه وجعله الأساس والمقدَّم في دراسة أحوال الرجال هو المحقّق الحلّيّ (رحمة الله) (1), وجرى على ذلك جميع العلماء.

وقد احتلّ كتاب النجاشي شهرة واسعة حتى وُصف بغاية الضبط وأنّه الأثبت,

ص: 174


1- الرسائل التسع/ المسألة السادسة: 295, المعتبر: 1/ 92, 230, 292 وغيرها كثير.

كما قال الوحيد (رحمة الله) في ترجمة إبراهيم بن عمر: (إنّ النجاشي في غاية الضبط, ونهاية المعرفة)(1)، ووصفه التقي المجلسي (رحمة الله): (أثبت الجميع كما يظهر من التتبّع التام)(2).

فكان خرّيت الصناعة، حسن البضاعة، عارفاً، ضبطاً، حتى أُوصي له ببعض المكتبات والعديد من المصنّفات، وهو ما يعدُّ مؤشراً واضحاً على ما قلناه, بتقريب:

أنّه لمّا كان للحديث والتحديث دور رابط بأحكام الإسلام وطريق كاشف لحقائقه كان لاهتمام العلماء به دور متميّز وفاعل، ومن أجله بذلت الأموال والأوقات حتّى تكوّنت ثروة من المعلومات، دُوّنت في جملة من المصنّفات، منسوخة بأجود الخطوط.

والحفاظ على هذه الثروة التراثيّة - بحسب الوضع الطبيعيّ - يستدعي إيداعها عند أهلها، العارفين لقيمتها، وفي مقدّمتهم المختصّون في شؤونها؛ وعلى هذا كانت الشواهد المتاحة بين أيدينا، فنجد أنّ البعض قد أوصى بمكتبته لهم، كما يظهر من بعض ما ورد في كتاب (الكشّي) عند تعرّضه لحال ابن بزيع، قائلاً: (قال حمدويه عن أشياخه: إنّ محمد ابن إسماعيل بن بزيع وأحمد بن حمزة بن بزيع كانا في عداد الوزراء، وكان علي بن النعمان أوصى بكتبه لمحمد بن إسماعيل)(3).

وروى الكشّي عن حمدويه عن أشياخه، قالوا: داود بن النّعمان خيّر فاضل, وهو عمّ الحسن بن علي بن النعمان, أوصى بكتبه لمحمّد بن إسماعيل(4).

ص: 175


1- منهج المقال: 1/331.
2- روضة المتقين (ط. ق): 14/331.
3- اختيار معرفة الرجال: 1065.
4- اختيار معرفة الرجال: 1141, وقد وصف ابن بزيع بأنّه من صالحي هذه الطائفة وكثير العمل، ممّا يظهر من العبارة الأخيرة كثرة اشتغاله وتحصيله.

ومثل هذا قد يكشف عن توثيق ضمني بالموصى إليه؛ إذ من البعيد أن يدفع شخص هذا الجهد الكبير الذي تحمّل لتحصيله الصعاب والأتعاب إلى من لا يثق به من جهة أمانته وفهمه.

وقد لوحظ في كتاب النجاشي تكرّر الوصيّة من الأصحاب ببعض الكتب والمصنّفات إلى النجاشي نفسه (رحمة الله)، كما ورد في ترجمة محمّد بن إبراهيم بن جعفر، قائلاً: (رأيتُ أبا الحسين محمّد بن علي الشجاعي الكاتب يقرأ عليه كتاب الغيبة تصنيف محمد ابن إبراهيم النعماني بمشهد العتيقة؛ لأنّه كان قرأه عليه، ووصّى لي ابنه أبو عبد الله الحسين بن محمّد الشجاعي بهذا الكتاب، وبسائر كتبه، والنسخة المقروءة عندي)(1).

وما أوصى له به أُستاذه أبو العباس بن نوح السيرافي من كتب كما ذكر ذلك مكرّراً في كتابه، مثل ما ورد في ترجمة عبد الله بن عبد الرحمن الزبيري، قائلاً: (له كتاب في الإمامة، وكتاب سمّاه كتاب الاستفادة في الطعون على الأوائل والردّ على أصحاب الاجتهاد والقياس. والزبيريون في أصحابنا ثلاثة، هذان وأبو عمرو محمّد بن عمرو بن عبد الله بن مصعب بن الزبير. رأيت بخط أبي العباس بن نوح فيما أوصى به إليّ من كتبه)(2)، ومثله كثير(3).

ومثل هذا يمثّل شاهداً واضحاً على فضل المصنّف - لاستبعاد تفريط المصنّفين بما حووه في خزانات مكتباتهم مع ما عليه المشقّة في تلك الأزمان بتسليمه لمن لا يرونه أهلاً - لا سيّما تكرّر الإيصاء إليه بمجموعة من الكتب والمصنّفات.

ص: 176


1- رجال النجاشي: 1043.
2- رجال النجاشي: 575.
3- رجال النجاشي: 158، 254، 286، 302.

وقد وصف الرجل بعبارات المدح والثناء على لسان جملة من العلماء، مثل ما حكي عن تلميذه الصهرشتي في قبس المصباح: (إنّه كان شيخاً بهيّاً, ثقةً, صدوق اللسان عند المخالف والموافق)(1), ولعلّه من هنا جاءت شهرة هذا الكتاب, لما امتاز به مؤلّفه من شهرة ووثاقة حتى قيل فيه (ثقة مشهور)(2), ووصفه العلّامة قائلاً: (ثقة معتمد عليه عندي). ووصفه المحقّق الداماد، قائلاً: (إنّ أبا العبّاس النجاشي، شيخنا الثقة المعتمد، الفاضل، الجليل القدر، السند المعتمد عليه)(3).

ومَن حاز هذه الأوصاف, ومدح على لسان العلماء المقدّسين الأشراف لما اكتسب في ذاته من مكانة, وما حواه من معرفة في هذا المجال, واكتنف سِفره من مكنونات الأسرار, كيف غفل بعضٌ واتّهمه بكثرة الأخطاء(4)؟!

أو كيف أمكن لآخر أن يتّهمه بسوء المذهب ورداءة المسلك(5), بعد تواتر الاعتماد عليه بين الأصحاب - كما عرفت - بل شيوع أمره بين الموافق والمخالف في الاعتقاد؟!

ص: 177


1- الفوائد الرجاليّة: 2/ 40, منتهى المقال: 1/ 217.
2- الوجيزة في علم الرجال: 22.
3- الرواشح السماوية /الراشحة العشرون: 126.
4- حكاه الوحيد عن بعضٍ ولم يسمّه.
5- بحوث في مباني علم الرجال: 2/ 328.

الملاك في توثيقات وتضعيفات النجاشي

اشارة

قدَّم الشيخ النجاشي (رحمة الله) لكتابه ديباجةً أبرز فيها غرضه من هذا التصنيف, بعد تعيير قوم من المخالفين بأنّ أصحابنا لا سلف لهم ولا مصنّف، فأثار ذلك عزيمته, وحرّك همّته، فانبرى مدافعاً عمّا يعتقد, ومظهراً ما عرف لمن لا يعرف, فجمع جملةً كبيرةً من هذه المصنّفات لمجموعة كبيرة من الرواة تحت عناوين وأسماء مضمّناً ما قيل فيهم من مدح وذم, وما يتّصل بنسبهم, وغير ذلك ممّا يتعلًق بأحوال الرجال.

وكان الأساس في هذه الأحوال هو نقل ما ذكره المتقدّمون وأثبتوه من أقوال, لتعارف تأليف كتب الفهارس والرجال بين المتقدّمين من الأصحاب حتى بلغ عددها من زمان الحسن بن محبوب (ت224ﻫ) إلى زمان الشيخ الطوسي (ت460ﻫ) نيّفاً ومائة كتاب، وقد جمع ذلك البحّاثة الشهير الشيخ آقا بزرك (ت 1389 ﻫ) في كتابه مصفّى المقال في مصنّفي علم الرجال.

فأصبح النجاشي فيما ألّفه من فهرست المصنّفين طريقاً حسّيّاً لنقل هذه التوثيقات والتضعيفات, ناظراً في كلّ ما قيل, ومتأمّلاً في جميع ما نقل, فجاء بأحسن ما يمكن من مقال, وأتقن ما ألّف وصنّف في هذا المجال, من دقّة التعبير بأوجز الكلمات, و تتبّع الأنساب لفصل المشتركات, ومعرفة ما صنّف وجميع ما ألّف, بل حتّى وصل إلى ذكر النسخ إذا كانت متعدّدة.

ويمكن تقسيم كلمات النجاشي في ذكر أوصاف الرجال إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل

ينقل الوصف صريحاً عن علماء الطائفة ومشهورهم, كما يلاحظ ذلك في قوله (ضعّفه أصحابنا) أو (ذكره أصحابنا) أو (رأيت أصحابنا يضعّفونه), أو

ص: 178

(قال أصحابنا: لم يكن بذاك), وغيرها.

القسم الثاني

ينقل أقوال العلماء المختلفة في الرجل، كما يلاحظ في ترجمة الحسن بن أحمد بن القاسم، حيث قال: (سيّد في هذه الطائفة غير أنّي رأيت بعض أصحابنا يغمز عليه في بعض رواياته)(1).

وفي ترجمة أحمد بن محمّد بن جعفر، حيث قال: (وكان ثقة في حديثه مسكوناً إلى روايته غير أنّه قيل يروي عن الضعفاء)(2).

وفي ترجمة أحمد بن الحسين بن سعيد حيث قال: (روى عن جميع شيوخ أبيه إلّا حماد ابن عيسى فيما زعم أصحابنا القمّيّون وضعّفوه، وقالوا: هو غالٍ وحديثه يعرف وينكر)(3)، وغيرها.

القسم الثالث

اشارة

يذكر الوصف صريحاً جازماً من غير نسبة، كما إذا قال (ثقة) أو (ضعيف) وغيرهما من الأوصاف.

والذي يظهر منه في هذا القسم كون الوصف متّفقاً عليه بين الطائفة من غير خلاف يذكر إلّا إذا دلّت قرينة على خلاف ذلك، كما وقع في الحسن بن الحسين اللؤلؤي الذي ضعّفه محمّد بن الحسن بن الوليد وأبو العباس السيرافي إلّا أنّه وثّقه صريحاً في ترجمته.

والذي يظهر من هذا القسم أيضاً أنّ منشأه هو شياع وشهرة الوصف بين الأصحاب مع قيام الشواهد والقرائن على ما اتّفق عليه الأصحاب، مثل اشتهار واقفي

ص: 179


1- رجال النجاشي: 152.
2- رجال النجاشي: 202.
3- رجال النجاشي: 183.

كذّاب بينهم مع قيام شواهد لدى النجاشي على كذبه، فيحكم بضعفه بصورة جازمة كما ورد في ترجمة الحسن بن محمّد بن يحيى حيث قال: (روى عن المجاهيل أحاديث منكرة رأيت أصحابنا يضعّفونه)(1).

وما ورد في ترجمة عبد الله بن سنان حيث قال: (ثقة، من أصحابنا، جليل، لا يطعن عليه في شيء)(2)، ومثل هذا يُظهر قيام الشواهد المؤكّدة عنده لما اشتهر بين الأصحاب من وثاقته ونفي مطلق الطعن عنه.

ولعلّ هذا يمكن أن يُعلم أيضاً ممّا ورد في ترجمة محمّد بن عيسى بن عبيد حيث قال: (ورأيت أصحابنا ينكرون هذا القول ويقولون مَن مثل أبي جعفر محمّد بن عيسى)(3).

ثمّ ذكر في ترجمة محمّد بن أحمد بن يحيى توثيقاً عن ابن نوح حيث قال: (وقد أصاب شيخنا أبو جعفر محمّد بن الحسن بن الوليد في ذلك كلّه، وتبعه أبو جعفر بن بابويه (رحمة الله) على ذلك إلّا في محمّد بن عيسى بن عبيد فلا أدري ما رابه فيه؛ لأنّه كان على ظاهر العدالة والثقة)(4)، حيث نقل وثاقته عن الأصحاب وشهرتها بينهم, حتى أنكر ابن نوح ما ذكره ابن الوليد في حقّه؛ لعدم قيام الشواهد على ضعفه.

ويمكن أن يشهد لطريقته أيضاً ما ورد في ترجمة علي بن محمّد بن شيرة حيث قال: (كان فقيهاً مكثراً من الحديث، فاضلاً، غمز عليه أحمد بن محمّد بن عيسى، وذكر أنّه

ص: 180


1- رجال النجاشي: 149.
2- رجال النجاشي: 558.
3- رجال النجاشي: 896.
4- رجال النجاشي:939.

سمع منه مذاهب منكرة، وليس في كتبه ما يدلّ على ذلك)(1)، بتقريب ظهور تتبّعه لإيجاد الأدلّة، وتثبيت الشواهد للأقوال فمتى ما وجد الشواهد على الأقوال حكم بصورة جازمة.

أمّا القسم الأوّل - وهو التوصيف المنسوب إلى الأصحاب - فالذي يظهر ممّا تقدّم عدم قيام الشواهد عنده على الإثبات، فينسبه إلى الأصحاب.

نعم، قد تقوم عنده الشواهد على خلاف ما اشتهر بين الأصحاب، لكنه يرجّح ما اشتهر ويعمل به، كما يظهر من ترجمة ابن عياش حيث قال: (رأيت هذا الشيخ، وكان صديقاً لي ولوالدي، وسمعت منه شيئاً كثيراً, ورأيت شيوخنا يضعّفونه، فلم أروِ عنه وتجنّبته، وكان من أهل العلم والأدب القوي وطيب الشعر حسن الخط (رحمه الله وسامحه))(2).

والحاصل: أنّ الذي يظهر من توصيفاته التي وردت بصورة جازمة من غير نسبة إلى الأصحاب هو مشهوريّة الوصف بينهم مع قيام الشواهد المثبتة عنده.

وفي قبال هذا زعم بعضٌ حدسيّة توصيفات النجاشي (رحمة الله) التي جاءت بصورة جازمة - على خلاف الصحيح من مذهب المشهور من حسيّة أحكام النجاشي (رحمة الله) - متمسّكاً بعدّة أدلّة:

الدليل الأوّل
اشارة

إنّ المستند في كثير من هذه الموارد - إن لم يكن الكلّ - في الجرح هو اجتهاده أو اجتهاد بعض مشايخه, اعتماداً على مضمون ما ينقله الراوي من الروايات أو غيرها من

ص: 181


1- رجال النجاشي: 669.
2- رجال النجاشي: 207.

القرائن, لا على النقل المتّصل سنداً إلى من عاصر الراوي وشهد عليه بذلك, فضلاً عن أن يكون ذلك النقل الحسّي متواتراً ومستفيضاً, وإنّما بالاعتماد على مبنى كلامي لديه أو لدى بعض مشايخه(1).

وجوابهُ: إنّ ما ذكر خلاف طريقة النجاشي في نقل هذه الأقوال كما عرفت ممّا تقدّم, إذ يجد الملاحظ كثرة تصريحاته بأنّه ليس إلّا ناقلاً للأقوال من علمائنا المتقدّمين في الرجال, ويشهد لذلك ما ذكره في بداية الجزء الثاني من كتابه، قائلاً: (الجزء الثاني من فهرست أسماء مصنّفي الشيعة وما أدركنا من مصنّفاتهم, وذكر طرف من كناهم، وألقابهم، ومنازلهم، وأنسابهم، وما قيل في كلّ رجل منهم من مدح أو ذم)، وصريح هذا هو نقل ما قيل في كلّ رجل, وهذا شاهد حسّ لا حدس كما هو واضح.

ويظهر ذلك في كثير من هذه التراجم, كما جاء في التعبير عن بعض هذه الأوصاف بأنّه (ذكره الأصحاب) أو (قاله أصحابنا) أو (علماء الرجال), ويظهر ذلك جليّاً من ترجمة أبي المفضّل الشيباني، حيث قال: (ورأيت جلّ أصحابنا يغمزونه ويضعّفونه، رأيت هذا الشيخ وسمعت منه كثيراً، ثمّ توقّفت عن الرواية عنه إلّا بواسطة)(2).

بتقريب: أنّ أبا المفضّل على الرغم من معاصرته له, وسماعه منه فترة من الزمن, الظاهر منه معرفة حاله بالمعاشرة والمصاحبة, إلّا أنّه ترك سماعه اعتماداً على رأي الأصحاب ممّا يؤشّر على حرصه على أقوالهم وآرائهم, بل عمله واعتماده عليهم. وهذا بخلاف غيره كابن الغضائري (رحمة الله) عندما نظر إلى أبي المفضّل نفسه الذي قال فيه: (وضّاع، كثير المناكير, رأيت كتبه وفيها الأسانيد من دون المتون والمتون من دون

ص: 182


1- بحوث في مباني علم الرجال: 2/ 21.
2- رجال النجاشي: 1059.

الأسانيد, وأرى ترك ما ينفرد به)(1)، حيث يظهر منه إعمال نظره واجتهاده بسبب نظره إلى كتابه.

وبهذا يظهر الفرق بين مسلك النجاشي وغيره كابن الغضائري, حيث إنّ الصريح منه هو الاعتماد على كلام العلماء في ترك السماع والرواية، ولا يعتمد على كلام ابن الغضائري وحده, حتى يقال: يعتمد على من يجرح بالحدس.

وإليك جملة من الشواهد على ما ذكرنا:

1- قوله في ترجمة إسماعيل بن يسار: (ذكره أصحابنا بالضعف)(2).

2- قوله في ترجمة إسماعيل بن علي وإسماعيل بن عبد الله: (ذكر أصحابنا إنّ لهما كتاب خطب)(3).

3- قوله في ترجمة الحسن بن عطية الحنّاط: (وما رأيت أحداً من أصحابنا ذكر له تصنيفاً)(4).

4- قوله في ترجمة الحسين بن أحمد المنقري: (وكان ضعيفاً ذكر ذلك أصحابنا)(5).

5- قوله في ترجمة الحسن بن أبي عثمان الملقّب ب-(سجادة): (ضعّفه أصحابنا)(6).

إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة التي يظهر من خلالها - للمتتبّع - بناؤه على ما نقل

ص: 183


1- الرجال لابن الغضائري: 149.
2- رجال النجاشي: 58.
3- رجال النجاشي: 93.
4- رجال النجاشي: 64 -65.
5- رجال النجاشي: 118.
6- رجال النجاشي: 141.

من الثقات في أحوال الرجال.

وعلى هذا يقاس ما ذكره من توثيق أو تضعيف من دون أن ينسب ذلك إلى الأصحاب؛ لوضوح عدم شائبة الخلاف فلم يحتج عند ذكره الوصف إلى نسبته للأصحاب, أو شهرة ما نقل, وعدم الاعتداد بمن خالف واعترض.

أمّا مَن ذكر له وصفين - كأن ذكر له مدحاً وذمّاً - ممّا يكشف عن وجود الخلاف، فإنّه كذلك يعدّ شاهداً على عدم كونه مثبتاً لما يحدس ويعتقد في ما ألّفه وصنّفه، بل شاهداً وناقلاً.

مناقشة ما استُشهد به على مبنى الحدسيّة
اشارة

وقد استُشهد على كون أحكام النجاشي ثابتة بالحدس بجملة من الموارد، وسوف نتناول هذه الموارد بالنقاش بما يتّضح من خلاله بطلان ما ذكر:

المورد الأوّل

المورد الأوّل(1): طعن علماء الرجال في جملة من موارد الجرح والتعديل المسندة التي ذكر الكشّي طرقها إلى من عاصر تلك المفردات ببعض من لم يوثّق، فاستضعفت تلك الموارد من الجرح والتعديل أو التوثيق، فمن غريب المفارقات حينئذ المناقشة في توثيقات الكشّي أو طعونه استضعافاً لطرق تلك التوثيقات مع الإهمال في طرق النجاشي والحكم بصحتها أو استفاضتها أو تواترها، فإنّ المداقّة في أسانيد الكشّي لا يتلاءم مع الإغماض عن مستند آراء النجاشي في الجرح والتعديل، أو الشيخ، أو الغضائري الابن، وغيرهم من متقدّمي أرباب الجرح والتعديل.

ص: 184


1- بحوث في مباني علم الرجال: 2/ 23.

ويجاب عنه بأنّ من الثابت في عصر المشايخ (رضوان الله تعالی علیهم) تواتر أحوال غالب المصنّفين, ويشهد لذلك ما ورد في مقدّمة فهرست الشيخ (رحمة الله) حيث قال: (فإذا ذكرتُ كلَّ واحدٍ من المصنّفين وأصحاب الأصول فلا بدّ أن أشير إلى ما قيل فيه من التعديل والجرح)(1)، وكذلك ما ذكره النجاشي في مقدّمة الجزء الثاني: (وما قيل في كلِّ رجلٍ منهم من مدح أو ذم)(2), وكذلك ما ذكره الشيخ في العدّة حيث قال: (وجدنا الطائفة ميّزت بين الرجال الناقلة، ووثّقت الصحيح منهم، وضعّفت الضعفاء)(3)، كلّ هذه شواهد حسّيّة على تواتر أحوال الرواة، فلا يحتاج في الاعتماد على تلك الشهادات إلى مزيد بيان.

وهذا بخلاف الكشّي فإنّه وإن كان من متقدّمي الأصحاب إلّا أنّه إذا نقل حكماً بواسطة سلسلة الإسناد فإنّه لا بدّ أن ينظر إلى مَن فيها من الثقات أو الضعاف, دون إذا ما شهد بوثاقة أو ضعف أحد الرواة، فإنّه يعتبر شاهد حسّ على ما نقله من أحكام, فلا غرابة في ما اعتمده وسار عليه الأعلام.

وممّا يشهد لما ذكرنا وجود ملاحظات نقديّة جاءت متناثرة في طيّات كتابه على مسلك أصحابنا القميّين, كأحمد بن محمّد بن عيسى وابن الوليد كما هو المعروف عنهم اعتمادهم على الحدس؛ إذ يظهر من جملة هذه التضعيفات أنّ هناك جملة من الأسباب كانت عندهم أساساً للذم.

المورد الثاني

قوله إنّ من الشواهد القاطعة اختلاف مباني جملة من أجلّاء الرواة

ص: 185


1- الفهرست: 31.
2- رجال النجاشي: 209.
3- العدّة في أصول الفقه: 1/ 126.

المشاهير - المعاصرين للراوي - مع النجاشي في الجرح والتعديل, حيث ثبت بأسانيد صحيحة رواية الأجلّاء, وأصحاب الإجماع بكثرة عن جملة من الرواة الذين ضعّفهم النجاشي, أو بالغ في تضعيفهم(1).

فإنّه يرد عليه:

أوّلاً: أنّ رواية الجليل عن شخص ليس فيها دلالة على وثاقة المرويّ عنه, كما هو المشهور عند علمائنا؛ لوضوح اعتماد المتقدّمين من الأصحاب على القرائن المصحّحة للرواية, الذي يعبّر عنه بمسلك الوثوق بمضمون الخبر, اعتماداً على بعض القرائن التي تحيط بالمضمون؛ لذا نجد بعض الأصحاب ينقلون عن الضعيف, بل إنّ البعض قد أكثر من هذا النقل, ولعلّ أساس هذه الكثرة اعتضاد أخباره بما رواه الأصحاب أو غيرها من القرائن, وإن كان قد عُدّ عند بعضٍ أنّ كثرة الرواية عن الضعفاء موجبة لوهنه، إلّا أنّه لا يعدو عن كونه منهجاً متشدّداً في علم الرجال كما سوف تأتي الإشارة إليه.

والنقل عن الضعفاء نجده واضحاً حتى في روايات المشايخ الثلاثة، إلّا أنّ هذا لا يعتبر هادماً لتضعيفات علمائنا المتقدّمين الصريحة في الجرح.

فما ذكر في أصل الإشكال يؤدّي إلى أنّ مبنى المتقدّمين عدم كثرة الرواية عن الضعيف, وإن كانت مضامين أخباره مطابقة للواقع بدلالة القرائن, فحينئذ تعدّ روايتهم عنهم شهادة بالمدح، إلّا أنّه خالٍ من الدليل.

وما نقل عن المشايخ الثلاثة, من أنّهم لا يروون, ولا يرسلون, إلّا عن ثقة, لا يعارض مَن نصّ على ضعفه علماؤنا أمثال النجاشي, أو الشيخ؛ للأخصيّة أو النصوصيّة.

ص: 186


1- بحوث في مباني علم الرجال: 2/ 21

ثانياً: لو سلّمنا اختلاف مباني المتقدّمين مع مباني النجاشي, إلّا أنّه لا يدلّ على كون تضعيفات النجاشي مبتنية على الاجتهاد والحدس, وليس هذا بعزيز, بل هو واقع وكثير, كما يظهر من اختلاف طرفين في عدالة شخص أو شجاعته أو غير ذلك, وهذا لا يكشف عن اعتمادهم على الحدس بل قد تكون حسّيّة مبتنية على المشاهدات الخارجيّة.

نعم، يصحّ ما ذكر لو قلنا إنّ المراد بالوثاقة المستفادة من رواية الأجلّاء هي روايتهم عمّن اتّفق بينهم على وثاقته.

إلّا أنّه مع كونه نادراً في الرواة, يدلّ على بطلانه رواية المشايخ الثلاثة - الذين عرف عنهم بأنّهم لا يروون إلّا عن ثقة - عمّن وقع فيهم الخلاف أمثال محمّد بن سنان, والمعلّى بن خنيس, وعلي بن أبي حمزة البطائني.

المورد الثالث

وجود جملة من الموارد التي اختلف فيها الشيخ مع النجاشي من حيث التضعيف والتوثيق أو عدمهما, وكذلك الحال مع البرقي, مع أنّه لو كان مستند النجاشي الخبر الحسّي المتضافر - فضلاً عن المتواتر - لما كان مجال للاختلاف بينهم, فالتعارض في الجرح والتعديل في الأصول الرجاليّة المتقدّمة يكشف عن عدم التواتر في مستند آرائهم, بل ولا كونها نابعة من الحس(1).

ويجاب عنه:

1- لو سلّمنا أنّ النجاشي جارح عن حدس فلا يختصّ ذلك بالتضعيف؛ لإمكان فرضه في التوثيق أيضاً.

2- إنّ ما ذكر من الاختلاف لا يعدّ كاشفاً عن حدسيّة الأحكام, لإمكان الاختلاف في الحسّيّات أيضاً أو في القريبة من الحسّ.

ص: 187


1- بحوث في مباني علم الرجال: 2/ 22.

3- إنّ الموارد التي وقع الخلاف فيها بين الشيخ والنجاشي غير كثيرة, بل هي قليلة, ولا يختصّ هذا الاختلاف بما ذكر, فهناك من ضعّفهم الشيخ ووثّقهم النجاشي كمحمّد ابن يحيى بن عبيد وغيره.

فنقول: إنّ ما وقع فيه الخلاف بين العلمين كان ناشئاً من الاختلاف في مباني علم الرجال, فبعضٌ قد يعتمد النقل أساساً في قراءة الأحوال, والآخر قد يلاحظ الأخبار ميزاناً في وصف الرجال, وفي المقام يقال بحسّيّة تضعيفات النجاشي, لأنّه اعتمد النقل منهجاً, دون الشيخ لأنّ المحتمل كون تضعيفاته جارية على مباني القمّيين, لما بيّنا في بحث مستقل أنّ ظاهر أحكام الشيخ ناشئة من متابعته لمدرسة قم.

المورد الرابع

النقض بدعوى التواتر والاستفاضة في روايات الكتب الأربعة, مع أنّ الدواعي متوفّرة بالأضعاف في الاهتمام بالروايات, وتكثير الطرق, وقيام الشواهد المتكاثرة على تعدّد الطرق للروايات, وإنّ ما ذكره أصحابها من الطرق ليست هي كلّ ما لديهم، إلى غير ذلك من عشرات القرائن والشواهد التي اعتمدها الأخباريّون في دعواهم, ووافقهم عدّة من الأصوليّين, ومع ذلك لم تثبت ولم تتقرّر الحجّيّة لكلّ ما في الكتب الأربعة بنحو الاستغراق التام, وإنّ ذلك يولّد علماً إجماليّاً بالصدور(1).

بتقريب: أنّ الروايات بالرغم من شدّة الاهتمام بها والمبالغة في تكثير الطرق لها إلّا أنّه لم يصل إلى حد إثبات الحجّيّة لكلّ ما في الكتب الأربعة من روايات، فكيف أمكن أن يدّعى ذلك بالنسبة إلى أحكام النجاشي التي هي في الغالب مرسلة.

ويجاب عنه بأنّ من الثابت في بعضٍ من أحكام النجاشي هو نشوؤها عن الحدس وإعمال الرأي, كما يتّضح ذلك فيما قاله في (الحسن بن الحسين اللؤلؤي) وغيره من

ص: 188


1- بحوث في مباني علم الرجال: 2/ 23.

الموارد, إلّا أنّه لا يمكن جعل ذلك ميزاناً في تقييم جميع كلماته, فالأصل في أحكامه هو عن حسّ إلّا إذا اقترن بما يدلّ على الحدس وتكون حجّة بناء على حجّية خبر الثقة, أو من باب الاطمئنان بكلامه الناشئ من وثاقته وخبرته في الفن, أو غير ذلك من المباني التي ذكرت في باب حجّية قول الرجالي, ووجود أمثال هذه الموارد لا يضرّ بذلك الأصل؛ لوجود قرينة عليها.

ملاكات التضعيف عند القمّيّين

المعروف عن أصحابنا القمّيّين تضعيف مجموعة من الرجال الموثّقين عند غيرهم؛ اعتماداً على بعض المباني والملاكات التي تظهر من بعض الترجمات.

منها: اتّهام الراوي بضعف الحديث:

فلا يعتمدون مطلقاً على مَن كان موصوفاً بضعف الحديث, كما في سهل بن زياد, وغيره إلّا أنّ المشهور بين العامّة والخاصّة هو العدم؛ إذ الرواية عن الضعيف, أو رواية المرسل, أو الرواية عن المجاهيل, لا تلازم الضعف في ذات الراوي ووثاقته.

فقد ذكر الوحيد في تعليقته، قائلاً: (اعلم أنّه فرق بين ظاهر قولهم (ضعيف), وقولهم (ضعيف في الحديث), فالحكم بالقدح منه أضعف)(1).

وصرّح الشيخ المامقاني في مقباس الهداية، قائلاً: (وظاهر تقييد الضعف ونحوه بالحديث هو عدمه في نفسه)(2).

ص: 189


1- منهج المقال: 1/ 128.
2- مقباس الهداية: 2/ 43.

نعم, يمكن أن ينعت الضعيف في بعض الكلمات بضعف الحديث كما قال المقدَّس الأعرجي: (فأمّا قولهم (ضعيف في الحديث) ربّما ظهر من تخصيص الضعف بالحديث القدح بالمحدّث, لكنّهم ربّما فعلوا ذلك بالمقدوح)(1)، إلّا أنّه ليس الأصل في هذا الوصف هو الضعيف, ولا ملازمة, وما ذكره السيّد الأعرجي إنّما يختصّ في المواطن التي تجتمع مع القرينة دون الخالية منها, ولذا لا نستطيع أن نحكم على مَن وصف بالرواية عن الضعفاء بأنّه ليس بثقة، ولا يعتمد عليه وإن كان الراوي بعده ثقة, ومن المسلّم عند مشهور علماء الفريقين هو اجتماع الوثاقة مع ضعف الحديث, كما يظهر من عدّة موارد:

منها: ما جاء في ترجمة محمد بن معاوية بن أعين أبي علي النيشابوري: (وكان له عبادة وفضل وصلاح، ولكنّه ضعيف الحديث)(2).

ومنها: ما قاله الذهبي في ترجمة مسلم بن خالد: (ومسلم بن خالد هذا على جلالة قدره في الفقه ضعيف في الحديث؛ لسوء حفظه)(3).

ومنها: ما قاله المزّي في ترجمة الربيع بن الصبيح: (رجل صالح، صدوق، ثقة، ضعيف جدّاً)(4).

وظاهر النجاشي موافقته لمسلك المشهور حيث صرّح في جملة من موارد أحكامه بهذا الاجتماع كما في ترجمة الحسن بن محمّد بن جمهور، قائلاً: (ثقة في نفسه... يروي عن

ص: 190


1- عدة الرجال: 2/ 154.
2- تهذيب الكمال: 26/ 478،480.
3- سير أعلام النبلاء: 10/ 6.
4- تهذيب الكمال: 9/ 93.

الضعفاء، ويعتمد على المراسيل)(1), وما ذكره في ترجمة أحمد بن محمّد بن خالد البرقي قائلاً: (وكان ثقة في نفسه، يروي عن الضعفاء، ويعتمد المراسيل)(2)، وما ذكره في ترجمة محمّد بن أحمد بن يحيى: (إلّا أنّ أصحابنا قالوا: كان يروي عن الضعفاء، ويعتمد المراسيل, ولا يبالي عمّن أخذ، وما عليه في نفسه مطعن في شيء)(3).

بل قد يعدّ عدم المبالاة فيمن يروي عنه مؤشّراً على حسن حال الراوي من جهة حسن ظنّه بالآخرين المتّفق مع تديّنه والتنزّه عن الطعن بالرواة.

وهذا بخلاف أصحابنا من مدرسة قم, حيث عدّوا ضعف الحديث ملازماً للضعف المطلق, وعلى هذا جاء تضعيفهم لجملة من الرواة, بل كانوا يخرجون الراوي بمجرّد توهم الريب، كما نصّ على ذلك المجلسي الأوّل (رحمة الله) بأنّ ابن عيسى أخرج جماعة من قم باعتبار روايتهم عن الضعفاء وإيرادهم المراسيل وكان اجتهاداً منه، والظاهر خطؤه، ولكن كان رئيس قم والناس مع المشهورين إلّا مَن عصمه الله، ولو كنتَ تلاحظ ما رواه الكليني في أحمد بن محمّد بن عيسى - في باب النصّ على الهادي (علیه السلام) وإنكاره النصّ لتعصّب الجاهليّة أن تكون الشهادة لرجل من العرب بأنّه لِمَ قدّمتم علي وذكر هذا العذر بعد الاعتراف به - لما كنت تروي عنه شيئاً ولكنه تاب ونرجو أن يكون تاب الله عليه(4).

وهذا نفس ما حكاه السيد حسن الصدر (قدس سره) عن جدّه في شرح الاستبصار بقوله:

ص: 191


1- رجال النجاشي: 144.
2- رجال النجاشي: 182.
3- رجال النجاشي: 939.
4- روضة المتقين (ط. ق): 14/ 261, منهج المقال: 6/ 128.

(ونراهم يطلقون الضعف على مَن يروي عن الضعفاء, ويرسل الأخبار)(1).

ويؤيَّد هذا بملاحظة ما ذُكر في ترجمة عليّ بن محمّد بن جعفر بن عنبسة الذي قال عنه ابن الغضائري: (ضعيف، روى عن الضعفاء، لا يلتفت إليه)(2), والظاهر أنّ المنشأ لهذا التضعيف هو الرواية عن الضعفاء, أمّا النجاشي فقال في ترجمته: (يقال له ابن رويدة، مضطرب الحديث)(3), وأمثال هذه الموارد تُظهر دقّة النجاشي, وتبيّن مسلكه في علم الرجال, وهذا ما جاء صريحاً على لسان الوحيد (رحمة الله) عندما قال في ترجمة إبراهيم بن هاشم: (يظهر حالهم من قدحهم الرجال, خصوصاً بالنسبة إلى الأجلّة, وسيّما ما ارتكبوا بالنسبة إليهم من إخراج البلد, وغير ذلك من الأذيّة, وخصوصاً باعتبار رواية المراسيل وعن المجاهيل, وغيرها ممّا لم يثبت عندهم عدالة رواتها)(4).

ومنها: مضمون أحاديث الراوي:

فإنّ هناك جملة من العلماء - لا سيّما علماء مدرسة قم (رضوان الله تعالی علیهم) وكذلك ابن الغضائري - يظهر من سيرتهم اعتماد منهج قراءة المضامين لاستكشاف حال الراوي, فإنّ وجدوا روايته لبعض الأحاديث التي لا تتناسب وما إليه يذهبون، ولا تنسجم مع ما عليه يبنون, حكموا بضعفه, كما يظهر من حال عمر بن توبة الذي ترجم له النجاشي بقوله: (في حديثه بعض الشيء، يعرف منه وينكر)(5)، بخلاف ابن الغضائري حيث قال:

ص: 192


1- نهاية الدراية: 432.
2- رجال ابن الغضائري: 81.
3- رجال النجاشي: 686.
4- منهج المقال: 1/ 387.
5- رجال النجاشي: 753.

(ضعيف جدّاً لا يلتفت إليه)(1)، وما ذكر في ترجمة عبد الرحمن بن أحمد بن نهيك الذي قال فيه النجاشي: (لم يكن في الحديث بذاك، يعرف منه وينكر، ذكر ذلك أحمد بن عليّ السيرافي)(2)، بخلاف ابن الغضائري الذي قال فيه: (ضعيف مرتفع القول)(3).

إن قلت: إنّ هذا المنهج لا يقتصر على علماء مدرسة قم وابن الغضائري (رحمهم الله), بل حتى النجاشي في بعض الأحيان نجده ينحو بهذا الاتّجاه, كما في ترجمة علي بن محمّد بن شيرة حيث قال: (غمز عليه أحمد بن محمّد بن عيسى وذكر أنّه سمع منه مذاهب منكرة. وليس في كتبه ما يدلّ على ذلك)(4), الذي يظهر منه قراءته لكتب ابن شيرة لردّ دعوى ابن عيسى وإثبات العكس.

أقول: إنّ ما ذكر هو مورد واحد لا ثاني له, فلا يدلّ على كون القراءة في روايات الراوي منهجاً؛ إذ إنّ المقام هو لردّ دعوى ابن عيسى القمي, الذي ذكرنا أنّ أحد أسس منهجهم هو قراءة الروايات, فلعلّه أراد أن ينفي الصغرى في كلامه, ولا يظهر من هذا المورد اعتماده على هذا المنهج؛ لأنّ ظاهر مدحه قبل نقل كلام ابن عيسى كاشف عن معروفيّته, حيث قال: (كان فقيهاً، مكثراً من الحديث، فاضلاً) (5)، فتأمّل.

ومنها: الاتّهام بالغلو:

حيث يظهر من علمائنا القمّيّين وابن الغضائري (رحمهم الله) تضعيف جملة من الرواة الذين

ص: 193


1- الرجال: 82.
2- رجال النجاشي: 624.
3- الرجال: 94. لاحظ ترجمة ابن أورمة في رجال الغضائري وغيرها.
4- رجال النجاشي: 669.
5- رجال النجاشي: 669.

اتّهموا بالغلو؛ لأنّهم رووا جملة من معجزات الأئمّة (علیهم السلام), والذي يظهر من هذا اعتقادهم بمنزلة خاصّة للأئمّة (علیهم السلام), فإذا عرفوا من شخص تجاوزها اتّهموه بالغلو.

نعم، يتّفق الجميع على إنكار مراتب من الغلو ويتّهم أصحابه بالانحراف ووقوعهم بما نصب لهم الشيطان من فخاخ - والعياذ بالله - وهو المؤدّي إلى ترك العبادات.

وقد ذكر الكشّي جمعاً، منهم: علي بن عبد الله بن مروان، وقال: (إنّه سأل العياشي عنهم، فقال: وأمّا علي بن عبد الله بن مروان فإنّ القوم - يعني الغلاة - تمتحن في أوقات الصلاة, ولم أحضره وقت صلاة)(1). حيث إنّ هذا ظاهر في دلائل الغلو, واعتبار ترك الصلاة كاشفاً عنه.

وكذلك نقل الكشّي (رحمة الله) عن يحيى بن عبد الحميد في كتابه المؤلّف في إثبات إمامة أمير المؤمنين (علیه السلام) عن الغلاة: (إنّ معرفة الإمام تكفي من الصوم والصلاة)(2).

وهذا هو القدر المتيقن من الغلو الملازم للانحراف، وقد دلّت عليه جملة من الروايات:

منها: ما ورد عن أبي عبد الله (علیه السلام): (احذروا على شبابكم، الغلاة لا يفسدوهم، فإنّ الغلاة شرّ خلق الله - إلى أن قال: - إلينا يرجع الغالي فلا نقبله, وبنا يلحق المقصّر فنقبله, قيل: كيف ذلك يابن رسول الله؟ قال: الغالي قد اعتاد ترك الصلاة والزكاة والصيام والحج, فلا يقدر على ترك عادته, وعلى الرجوع إلى طاعة الله (عزّ وجلّ) أبداً،

ص: 194


1- رجال الكشي: 576.
2- رجال الكشي: 391.

وإنّ المقصّر إذا عرف عمل وأطاع)(1).

ويتّضح من هذا أنّه لو ثبت هذا المعنى في أحد الرواة, وكان مشمولاً بهذه الأوصاف فلا حجّيّة لقوله؛ لأنّه لا يكون مصداقاً لما ذكر من السيرة أو الأحاديث أو الآيات الدالّة على حجّيّة أخبار الثقات.

وهناك مرتبة من الإيمان ببعض المعجزات, وإثبات بعض الأوصاف للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وللأئمّة الأوصياء الهداة (علیهم السلام), عدّ علماؤنا القميّون هذه المرتبة من مراتب الغلو والغلاة, مثل نفي السهو عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) الذي نقله لنا الشيخ المفيد عن محمّد بن الحسن ابن الوليد أنّه قال: (أوّل درجة في الغلو نفي السهو عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) والإمام)، فقال الشيخ المفيد: (إن صحّت هذه الحكاية عنه فهو مقصّر مع أنّه من علماء القمّيّين ومشيختهم, وقد وجدنا جماعة وردوا إلينا من قم يقصّرون تقصيراً ظاهراً في الدين، ينزّلون الأئمّة (علیهم السلام) عن مراتبهم, ويزعمون أنّهم كانوا لا يعرفون كثيراً من الأحكام الدينيّة حتى ينكت في قلوبهم, ورأينا من يقول إنّهم كانوا يلتجئون في حكم الشريعة إلى الرأي والظنون, ويدّعون مع ذلك أنّهم من العلماء)(2).

ومن هذا يظهر أنّ جملة من هذه الاعتقادات كانت السبب وراء جملة من التضعيفات الصادرة منهم, حيث نجد أنّ جرحهم يستند إلى الاتّهام بالغلو وإن كان بالمرتبة التي وقع فيها الخلاف, للملازمة بين الغلو والكذب كما هو ظاهر جملة من الموارد, وقد صرّح بهذا الوحيد البهبهاني (قدس سره)، قائلاً: (اعلم أنّ الظاهر أنّ كثيراً من

ص: 195


1- بحار الأنوار: 25/ 265.
2- تصحيح اعتقادات الإماميّة: 135.

القدماء سيّما القمّيّين منهم والغضائري, كان يعتقد للأئمّة (علیهم السلام) منزلةً خاصّة من الرفعة والجلالة, ومرتبة معيّنة من العصمة والكمال, بحسب اجتهادهم ورأيهم، وما كانوا يجوّزون التعدّي عنها, وكانوا يعدّون التعدّي ارتفاعاً وغلوّاً - حسب معتقدهم - حتى إنّهم جعلوا مثل نفي السهو عنهم غلوّاً, بل ربّما جعلوا مطلق التفويض إليهم, أو التفويض الذي اختلف فيه كما سنذكر, أو المبالغة في معجزاتهم ونقل العجائب من خوارق العادات عنهم, والإغراق في شأنهم وإجلالهم وتنزيههم عن كثير من النقائص وإظهار كثير قدر لهم, وذكر علمهم بمكنونات السماء والأرض ارتفاعاً أو مورثاً للتهمة به, سيّما بجهة أنّ الغلاة كانوا مختفين في الشيعة مخلوطين بهم مدلّسين. وبالجملة: الظاهر أنّ القدماء كانوا مختلفين في المسائل الأصوليّة أيضاً, فربّما كان شيء عند بعضهم فاسداً أو كفراً أو غلوّاً وتفويضاً أو جبراً أو تشبيهاً, أو غير ذلك, وكان عند آخر ممّا يجب اعتقاده, أو لا هذا ولا ذاك, وربّما كان منشأ جرحهم بالأمور المذكورة وجدان الرواية الظاهرة فيها منهم - كما أشرنا آنفاً -, أو ادّعاه أرباب المذاهب كونه منهم, أو روايتهم عنه، وربّما كان المنشأ روايتهم المناكير عنه إلى غير ذلك, فعلى هذا ربّما يحصل التأمّل في جرحهم بأمثال الأمور المذكورة - إلى أن قال - ثمّ اعلم أنّ أحمد ابن محمّد بن عيسى والغضائري ربّما ينسبان الراوي إلى الكذب, ووضع الحديث أيضاً, بعدما نسباه إلى الغلوّ، وكأنّه لروايته ما يدلّ عليه)(1).

أمّا النجاشي فلا يجعل فساد الاعتقاد ملازماً للكذب والانحراف؛ لوضوح الفرق بينهما، ويشهد لذلك أمور:

ص: 196


1- ينظر: الفوائد الرجالية: 39.

1- ما ذكر في ترجمة الحسين بن حمدان حيث قال عنه ابن الغضائري: (كذّاب، فاسد المذهب، صاحب مقالة ملعونة, لا يلتفت إليه)(1)، بخلاف النجاشي, حيث قال: (فاسد المذهب، له كتب منها... كتاب الرسالة تخليط)(2).

وبما ذكر يظهر الفرق بين المنهجين.

2- وكذلك ما ذكر في ترجمة صالح بن عقبة بن قيس الذي قال عنه ابن الغضائري: (كذّاب، غالٍ, لا يلتفت إليه) (3)، بخلاف النجاشي فإنّه لم يذكر له أيّ وصف.

3- وما ذكر في ترجمة أحمد بن محمد بن سيّار: (ضعيف، متهالك، غالٍ، منحرف)(4)، بخلاف النجاشي فإنّه قال: (ضعيف الحديث فاسد المذهب... له كتب وقع إلينا:... إلّا ما كان من غلوّ أو تخليط)(5).

وغير ذلك من الموارد الكثيرة الظاهرة في أنّ الأساس للذمّ هو الاجتهاد والحدس.

إزاحة وهم

هذا وعلى الرغم ممّا مرّ, فقد يتوهّم بأنّ النجاشي يعتمد في تضعيفاته على زميله وشيخه ابن الغضائري, وبالنتيجة أنّ تضعيفات النجاشي تبتني على الحدس والاجتهاد, أو إلى ما يعتقد من مبانٍ كلاميّة وأصول معرفيّة, لأنّ ابن الغضائري كان مشاركاً

ص: 197


1- الرجال: 40.
2- رجال النجاشي: 159.
3- الرجال: 70.
4- الرجال: 11.
5- رجال النجاشي: 192.

للنجاشي في القراءة على والده الحسين, وفي القراءة على أحمد بن عبد الواحد, وهذا يعزّز تأثّر النجاشي بابن الغضائري(1).

فيجاب: بأنّ هذه مجرّد دعوى, و ما ذكر من شواهد لا تصمد أمام الناقد البصير؛ لوضوح أنّ المزاملة والشيخوخة لا تشكّل - بالضرورة - أساساً في التأثّر والتلقّي, لا سيّما عند النجاشي وهو المتضلّع الدقيق, وصاحب الذوق والحسّ الأنيق, فإنّ كثيراً من أصحابنا المتقدّمين تلمّذوا على العامّة فضلاً عن النواصب ومن اعتنقوا المذاهب الفاسدة, من دون أن يؤثّر هذا على ما يعتقدون, ويغيّر ما يرون وينتهجون.

وتلمّذ النجاشي, أو مزاملته - لأحمد بن الحسين وكذلك لعلمائنا من أهل قم الذين عرفوا بأنّ منهجهم في النقد هو الاجتهاد والحدس, وكانوا من أجلّة أصحابنا المتقدّمين - لا يستدعي تركه لما ينظرون، لا سيّما وأنّ توثيقاتهم ممّا يمكن الركون إليها, لما عرفوا بالتحرّج في الرواية, ولكن الكلام في التضعيفات، وأنّ مجرّد التلمّذ لا يقتضي التأثّر بعد وضوح اختلاف المنهجين.

وما ذكر من متابعات في ما سطّره النجاشي من كلمات, لا يؤسّس قاعدة تجري في جميع المفردات, ومتابعته لغيره في بعضها لا تكون متابعة له في الاجتهاد, وتوجد شواهد كثيرة على خلاف ما ذكر؛ لإمكان أن يدّعى نشوؤها عن الحسّ لا الحدس, فجاز له أن ينقل ما نقله ابن الغضائري, أو غيره من أصحاب مدرسة الحدس والاجتهاد, ولا يوجد ما يبّرر ترك جميع هذه التضعيفات على أساس أنّها صادرة عمّن ينتهج الحدس.

ص: 198


1- بحوث في مباني علم الرجال: 2/ 295.
مناقشة الشواهد
اشارة

أ - ما ذكر في ترجمة جعفر بن محمّد بن مالك - من أنّ تضعيف النجاشي(1) ناشئ من قول ابن الغضائري كما حكي عن روضة المتقين(2) - فيه تأمّل واضح؛ إذ قد صرّح بأنّه ضعيف في حديثه, وأمثال هذا عادة يمكن معرفته عن حسّ بتتبّع رواياته ومشايخه, فإن كان يروي المراسيل وينقل عن الضعفاء والمجاهيل حكم بضعفه في الحديث. بينما ابن الغضائري قد وصفه بالكذب, ولم يذكر النجاشي شيئاً من هذا بل نسبه إلى ابن الغضائري, ولا تعدّ نسبة القول اعتماداً وتبنّياً عند الناقل كما هو واضح, وكذلك نسب فساد المذهب إلى قائل سمع منه ذلك, ولم ينسبه إلى ابن الغضائري, ولعلّه لما علم من أنّ ابن الغضائري له رؤى تختلف بعض الشيء عن مشهور علمائنا، وأين هذا من متابعة ابن الغضائري ؟!

ب - وأمّا ما ذكر في ترجمة المفضّل بن عمر الذي وصفه النجاشي بقوله: (فاسد المذهب, مضطرب الرواية, لا يعبأ به, وقيل: إنّه كان خطّابيّاً, وقد ذكرت له مصنّفات لا يعوّل عليها, وإنّما ذكرناه للشرط الذي قدّمناه. له كتاب ما افترض الله على الجوارح من الإيمان، وهو كتاب الإيمان والإسلام، والرواة له مضطربون الرواية له...)(3).

وهذا الكلام صريح في فساد مذهبه, ولعلّه هو المعروف عنه.

ص: 199


1- رجال النجاشي: 313.
2- بحوث في مباني علم الرجال: 2/ 311.
3- رجال النجاشي:1112.

نعم، هناك قول مرّضه النجاشي قائلاً: (قيل بأنّه خطّابي) وهذا قول ابن الغضائري, أو قوله وقول غيره, وعلى كلا القولين لا يمكن أن يطمئنّ لمذهبه, وكذلك في ما يروي, فهذا قدح في ما يروي وذمّ في ما يسند, ومن كان حاوياً لهذه الصفات كيف يعوّل على ما يذكر من أخبار وروايات.

نعم، لم يذمّه من جهة وثاقته في نفسه, وإنّما الكلام في ما يروي وما يصنّف, وهذا طعن وتوقّف في ما يصنّف بقوله: (لا يعوّل عليها)، وقد يراد منه أنّ جميع مصنّفاته لا يعتمد عليها عدا ما يعرف بتوحيد المفضّل (كتاب فكر). وقد استظهر منه العلّامة التستري (قدس سره) (1) استقامة مذهبه, إلّا أنّه - وإن صحّ ما قيل - لا يعدو عن كونه حدساً واجتهاداً بعد إمكان أن تكون هذه التضعيفات تلاحظ حاله إلى فترة ما قبل الممات, لا سيّما أنّه أدرك الكاظم (علیه السلام) وروى عنه.

ج - ما استشهد به من كلام العلّامة المامقاني في ترجمة داود بن كثير الرقي بأنّ جرح النجاشي هنا محلّ نظر, لأنّه عارض كلام الكشّي النافي سماعه لأحد من مشايخه الطعن فيه, بل تتبّع الروايات ولم يجد في روايته أيّ شيء يطعن عليه, فكلام النجاشي محكوم بنفي الكشي، وينحصر تضعيف النجاشي للرجل بقول ابن الغضائري: (وهو أنّ الغلاة تروي عنه). وبناءً على هذا القول يظهر تفرّد النجاشي في جملة من الموارد في الرأي ولو على خلاف المشهور(2).

وفي هذا الكلام عدّة أمور:

ص: 200


1- قاموس الرجال: 10/ 215.
2- بحوث في مباني علم الرجال: 2/ 296.
الأمر الأوّل

ما ذكر من أنّ الأساس في تضعيفه هو كلام ابن الغضائري.

ويرد عليه:

1- ما أورده السيد الخوئي (قدس سره) في ترجمة داود الرقّي من أنّ منشأ تضعيف النجاشي هو رواية الغلاة عنه يعدُّ من الغرائب؛ لعدم وجود القرينة, إذ كيف يمكن أن تكون رواية الغلاة عن شخصٍ سبباً للحكم بضعفه بنظر النجاشي وهو خرّيت هذه الصناعة(1).

2- إنّ هناك جملة من الرجال الذين وصفوا بأنّ الغلاة تروي عنهم, ولم يضعّف النجاشي حالهم, بل وثّقهم, كما في ترجمة عبد الله بن أيّوب الذي قال عنه ابن الغضائري: (ذكره الغلاة ورووا عنه)(2), بخلاف النجاشي حيث قال: (ثقة)(3), وما ذكره في ترجمة عبد الكريم بن عمرو بن صالح الخثعمي، قال عنه ابن الغضائري: (الغلاة تروي عنه كثيراً)(4)، بخلاف النجاشي الذي قال: (كان ثقة ثقة, عيناً)(5), فلو كانت رواية الغلاة تعدُّ قدحاً عند النجاشي لما وثّق هؤلاء.

3- ما ذكر خلاف ظاهر عبارة النجاشي حيث قال: (ضعيف جدّاً, والغلاة تروي عنه)(6) ومثل هذا غير ظاهر في التعليل.

ص: 201


1- معجم رجال الحديث: 7/ 127.
2- الرجال: 93.
3- رجال النجاشي: 578.
4- الرجال: 175.
5- رجال النجاشي: 645.
6- رجال النجاشي: 410.

4- ما قدّمناه من أنّه حتى لو سلّم نقله لكلام ابن الغضائري فهذا يكفي للحكم بحسّيّة المنقول؛ لعدم فرض أنّ جميع هذه التضعيفات ناشئة عن حدس على نحو الشمول والاستغراق؛ لوضوح أنّ جملة من المحكوم بضعفهم معروف ومشهور وصفهم، ولا يحتاج الى إعمال حدس.

الأمر الثاني

إنّ كلام النجاشي محكوم بدعوى الكشّي نفي الطعن من أحد العصابة فيه, وإنكاره العثور على رواية, فدعوى النجاشي لا أصل صحيح لها.

ويجاب بأمور:

1- ما ذكره السيد الخوئي (قدس سره) من أنّ لحاظ نفي الكشّي إنّما هو من جهة المذهب, حيث إنّه كان في معرض اتّهامه بالغلو, وقال: (لم أسمع أحداً من المشايخ يطعن فيه). وعلى هذا فإنّ دعوى النجاشي لا تعارض دعوى الكشّي لاختلاف جهة اللحاظ. وهذا متين.

2- لو سلّم دلالة ما ذكره الكشّي فأقصى ما يدلّ عليه هو معارضته لكلام النجاشي, ولا مرجّح لتقديم قول الكشّي, إلّا إذا اطمأنّ بقوله ولم يطمأن بقول النجاشي فيما إذا بني على حجّيّة قول الرجالي من باب الاطمئنان, كما بنى عليه غير واحد منهم العلّامة المامقاني(1), ولكن هذا يتبع ما يحصل عليه من قرائن تؤيّد الطرف المختار في المقام, وعلى هذا فما ذكر لا يتمّ على جميع المباني المذكورة في حجّيّة قول الرجاليّ.

الأمر الثالث

استظهار تفرّد النجاشي بآرائه على خلاف مبنى المشهور.

ويجاب عنه: إنّ ما ادّعي غير صحيح، وقد تقدّم كونه من أصحاب منهج النقل عن

ص: 202


1- تنقيح المقال: 1/ 82.

المتقدّمين، والواسطة عن الجارحين والموثّقين, وما ذكر لا يعدّ مؤثّراً على ما قيل.

ولو سلّم فإنّه لا يعدو كونه مورداً واحداً لا يكون كاشفاً عن سريانه في سائر ترجماته وأحكامه، ويشهد لما قلناه ما يظهر من جملة كثيرة من التراجم التي قدّمنا بعضها سابقاً, ويضاف لها ما ذكر تحت رقم: (1059، 58، 64، 65، 93، 118، 141، 247) وغيرها كثير، فإنّه صريح في النقل عن الأصحاب.

الأمر الرابع

ويشهد لذلك ما حكاه الميرزا النوري في ترجمة (داود بن كثير الرقّي) عن الوحيد البهبهاني (رحمة الله): (من أنّه قلّما يتّفق جليل لم يطعن عليه أحد من العصابة, كما نصّ عليه الأستاذ الأكبر، فمن سلم من قدحهم فقد فاز بالقدح المعلّى)، وهذا يشير إلى السبب الكامن وراء تفرّد النجاشي، وهو اعتماده على مبانٍ في الكلام قاصرة عن المعرفة في كثير من مقامات الأئمّة (علیهم السلام) (1).

ويجاب: بأنّ هذا مبنيٌّ على الافتراض مسبقاً لعلوّ مرتبة (داود بن كثير)، وهو أوّل الكلام.

وما ذكر من كلام الوحيد ظاهر في كون أصحابنا المتقدّمين حريصين كلّ الحرص على تراثهم, فهم يلحظون كلّ دقائق الأمور, فإذا سلم أحد من نقدهم ظهر أنّه من الأجلّاء, وليس في هذا دلالة على تفرّد النجاشي, وكونه قد اعتمد على ابن الغضائري. فضلاً عن كونه مورداً واحداً لا يؤسّس قاعدة أو منهجاً.

ث - وأمّا ما استُشهد به على المدّعى بما حُكي(2) من توثيق المعلّى بن خنيس بما رواه

ص: 203


1- بحوث في مباني علم الرجال: 2/ 298.
2- بحوث في مباني علم الرجال: 2/ 300.

الكليني بسند صحيح لمّا بلغ الإمام خبر قتل المعلّى قال: (أفٍّ للدنيا، أفٍّ للدنيا, إنّما الدنيا دار بلاء يسلّط الله فيها عدوّه على وليّه)، ومع هذا فلا تصل النوبة إلى معارضة هذا بتضعيف النجاشي إيّاه حينما قال: (ضعيف جدّاً، لا يعتنى بروايته)، وذلك لما يلي:

أوّلاً: إنّ شهادة النجاشي - على فرض تماميّتها - إنّما يمكن أن تعارض شهادة الشيخ، ولا مجال لتوهّم تعارضها مع شهادة الإمام (علیه السلام).

ثانياً: إنّ الظاهر من تضعيف النجاشي إيّاه كون الجرح لأجل ما روى من روايات المعارف والمناقب ممّا لا يحتمله النجاشي, لذا قال: (لا يعتنى برواياته) فتكون شهادته حدسيّة لا حسّيّة, فلا تشمله أدلة حجّيّة الخبر, ولا أقلّ من احتمال الحدس, ومعه أيضاً لا يمكن التمسّك بدليل حجّيّة الخبر؛ لأنّ مدرك حجّيّة خبر الثقة إنّما هو السيرة العقلائيّة الممضاة, وهذا دليل لبّيّ يؤخذ بالقدر المتيقن منه, وهو ما لا يحتمل فيه الحدس(1).

ثالثاً: ما يقال في معارضة شهادة الشيخ مع النجاشي بتقديم قول النجاشي؛ لأنّه كان متمحّضاً في علم الرجال وكان تتبّعه فيه أكثر, بخلاف الشيخ الذي كان ذا فنون كثيرة. مردود لأنّ الأكثر خبرة إنّما يقدّم قوله فيما كان للخبرويّة دور في القضيّة كالاجتهاد والحدس، لا في مثل الشهادة التي يكفي فيها سلامة الحواس والحفظ(2).

فيناقش:

أمّا ما ذكر أوّلاً فيجاب عنه بأنّ معارضة قول النجاشي لكلام الإمام من البحوث التي تعّرض لها علماؤنا، وقد عقدنا لها بحثاً مستقلاً.

ص: 204


1- بحوث في مباني علم الرجال: 2/ 299.
2- بحوث في مباني علم الرجال: 2/ 300.

وما ادّعي من أنّ قول النجاشي لا يعارض كلام الإمام إنّما يتمّ بناءً على كون حجّية قول الرجالي على مسلك حجّية الظنّ أو الاطمئنان, لإمكان أن يدّعى حصول أحدهما في جانب الخبر الصحيح. وأمّا بناءً على مسلك حجّية الخبر الواحد في قول الرجالي فيتعارضان ويتساقطان لما ثبت من أنّ حجّية الروايات تبتني على افتراض حجّية خبر

الواحد.

وأمّا ما ذكر ثانياً فيجاب عنه:

أوّلاً: بأنّ هذا الوجه يبتني على كون حجّية قول الرجاليّ من باب حجّية خبر الواحد، وهذا يتنافى مع ما ذكر في الوجه الأوّل لترجيح المروي على قول النجاشي, لابتنائه على مسلك الظن المعتبر أو الاطمئنان.

ثانياً: إنّ هذا إن تمّ فكذلك لا يعدو كونه من الموارد التي لا تؤسّس قاعدة وميزاناً في الجميع, بحيث تردّ دعواه بمجرّد معارضته للروايات بدعوى كونها ناشئة عن حدس, أو يحتمل ذلك فيها, والصحيح هو العكس؛ لغالبيّة فتاوى النجاشي عن حسّ دون حدس.

وأمّا ما ذكر ثالثاً فيجاب عنه:

أوّلاً: بأنّ ما ذكر في مناقشة تقديم قول النجاشي على قول الشيخ يبتني على مسلك حجّية الخبر الواحد في قول الرجاليّ دون غيره من المسالك.

ولكن نقول حتى لو بنينا على هذا فقد يقدّم قول النجاشي على قول الآخر - كالشيخ - مع احتمال اشتباه الآخر، وقد ثبت ذلك عن الشيخ.

ثانياً: بأنّ من الثابت عندنا تقديم قول النجاشي فيما إذا عارض كلام الشيخ مطلقاً؛ وذلك لما يظهر من أنّ الشيخ يتبع في أحكامه الرجاليّة مدرسة الاجتهاد والحدس

ص: 205

المتمثّلة بالقمّيّين، بينما قول النجاشي مبتنٍ على الحسّ كما ذكرنا, فالأصل في المقام هو تقديم قول النجاشي.

الدليل الثاني: موقف النجاشي من البتريّة

من الملفت للنظر أنّه لم نرَ منه تصريحاً ولا تلويحاً بالحكم على البتريّة بأنّهم من العامّة مع أنّ مقتضى عدم تصريحه - مع ما ذكر في ديباجة كتابه من أنّه يختصّ بذكر كتب أصحابنا الإماميّة - أنّهم من الإماميّة, ومع ذلك فقد أثنى بإجلال على جملة من البتريّة, ولم يطعن عليهم بشيء, ولا بوصف أنّهم من العامّة, ولا بوصف أنّهم من البتريّة.

بتقريب: إنّ عدم وصفه لهم بأنّهم من العامة والثناء على بعضهم وتوثيقهم مع تحسّسه الشديد من رواة أسرار المعارف يظهر في تحكيم مبانيه الفكريّة على أحكامه الرجاليّة.

الجواب:

تقدّم منّا أنّ ديباجة الكتاب ظاهرة بكون غرض الكتاب هو استقصاء الكتب المنتمية إلى مذهبنا وإن صنّفها غيرنا, ولذا ذكر أسماء جملة من العامّة وفاسدي المذهب, مع أنّه لم ينصّ على مذهبهم, ولم يتعهّد هو بذلك, فلاحظ.

أمّا تعرّضه بالتوثيق لجملة من البتريّة، فأقول:

إنّ توثيق النجاشي لشخص بقول مطلق ظاهر في سلامة مذهبه، كما ذهب إليه جملة من العلماء(1)، وهو الظاهر.

وما ذكر في غياث بن إبراهيم حيث ترجم له بقوله: (التميمي، الأسدي، بصريّ,

ص: 206


1- وفد عقدنا لتفصل الكلام في ذلك بحثاً مستقلاً في كتابنا الذي سيُطبع لاحقاً بإذنه تعالى.

سكن الكوفة, ثقة, روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن (علیهما السلام))(1) وإن كان يستظهر منه حسن مذهبه وسلامة معتقده، مع أنّ الشيخ نصّ على كونه بتريّاً.

ولكن قد يقال إنّ غياث الذي ذكره الشيخ يغاير الذي ذكره النجاشي؛ لأنّ الشيخ ذكره في أصحاب الباقر (علیه السلام), والذي ذكره النجاشي من الرواة عن الصادق والكاظم (علیهما السلام).

ويمكن أن يجاب: بأنّ المذكورين في أصحاب الأئمّة من رجال الشيخ أعمّ من أصحاب الرواية واللقاء, فلعلّه لاقى الإمام الباقر (علیه السلام) ولم يروِ عنه.

وقد مال إلى الاتّحاد جملة من العلماء منهم المحقّق الحلّيّ في المعتبر(2), والمقداد في التنقيح(3), والفاضل الآبي في كشف الرموز(4).

واستظهر بعضٌ التعدّدَ لما ذكر من اختلاف الطبقة, لأنّ الرواة لكتابه مجموعة يصعب اتّصالها بأصحاب الباقر (علیه السلام), مثل إسماعيل بن أبان الذي ذكر النجاشي أنّه روى كتاب غياث, والذي يروي كتاب إسماعيل هو أحمد بن أبي عبد الله البرقي, كما ذكر في ترجمته(5)، وقد توفّي أحمد عام 280 للهجرة, ولا يمكن روايته عن أصحاب الباقر (علیه السلام) بواسطة واحدة - وهو إسماعيل بن أبان - وذكر الشيخ أنّ الراوي لكتاب غياث هو محمّد بن يحيى الخزّاز، وهذا أيضاً روى عنه أحمد بن أبي عبد الله البرقي فيأتي

ص: 207


1- رجال النجاشي: 833.
2- المعتبر: 2/ 422.
3- حكاه الشيخ عبد النبي الجزائري في تكملة الرجال: 2/ 260.
4- كشف الرموز: 2/ 240.
5- رجال النجاشي: رقم 70.

فيه نفس الكلام (1).

بل يمكن القول بعدم صحّة ما قيل حتّى بناءً على الاتّحاد بين العنوانين؛ لإمكان ثبوت الخلاف بينهم في مذهبه، فالنجاشي يرى حسن مذهبه دون الشيخ، وهذا واقع بينهم كما يظهر ذلك من ترجمة إسحاق بن عمّار الذي وثّقه صريحاً بقوله: (شيخ من أصحابنا, ثقة)(2)، ولكنّ الشيخ خالفه بقوله: (كان فطحيّاً إلّا أنّه ثقة)(3)، وعليه فلا يمكن الركون إلى ما قيل في أصل الدليل.

وأمّا ما ذكر في مسعدة بن صدقة, وسالم بن أبي حفصة, وعمرو بن أبي المقدام - الذين لم يذكر لهم النجاشي أيّ وصف - فلم يثبت أنّه وثّقهم من جهة الاعتقاد؛ لما أشرنا إليه من أنّ عدم ذكر الوصف لا يدلّ على حسن المذهب وسلامة الاعتقاد.

الدليل الثالث: تضعيفات العامّة منشأ لجملة من تضعيفات النجاشي

نلاحظ أنّ هنالك جملة من التضعيفات لا نجد من وافقه عليها إلّا ابن الغضائري والعامّة بعبارات متقاربة, ومن ثمّ لا يبعد استظهار أنّ مراد النجاشي من إسناد التضعيف والغمز, شامل لأرباب الجرح والتعديل من العامّة، ويستشهد لذلك بموارد عدّة( (4).

الجواب: لم نعرف وجهاً لهذا الاستظهار، وما قيل إنّما هو مجرّد احتمال ينافي الأسس

ص: 208


1- معجم رجال الحديث: 13/ 254.
2- رجال النجاشي: 169.
3- الفهرست: 52.
4- ) بحوث في مباني علم الرجال: 2/ 316

التي ينتهجها النجاشي, ومن الغريب ادّعاء أمثال هذا بحق خرّيت الصناعة والرائد في هذا الميدان حتى أنّه رجع إليه جميع علمائنا المتقدّمين, وما ذكر من شواهد لا يمكن أن تدلّ المدّعى:

أمّا الشواهد التي ذكرت في المقام فهي أربعة:

1- ما ذكره النجاشي في ترجمة جابر بن يزيد، قائلاً: (روى عنه جماعة غمز فيهم وضعّفوا, منهم عمرو بن شمر, ومفضّل بن صالح, ومنخل بن جميل, ويوسف بن يعقوب, وكان في نفسه مختلطاً, وكان شيخنا أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان (رحمة الله) ينشد أشعاراً كثيرةً في معناه تدلّ على الاختلاط)(1), والملاحظ أنّ جابر بن يزيد لم يضعّف حتى من قبل الفضل بن شاذان, والكشّي, وإنّما ضعّفه العامّة.

ويجاب عنه: لا نعرف ما الرابط بين تضعيف وغمز القوم بمن رووا عن جابر والتضعيف المطلق له, بعد عدم ظهوره من النجاشي, أمّا الغمز في مَن رووا عن جابر فكيف علم أنّ منشأه من العامّة؟! وأمّا ما ذكر في حقّ جابر فلعلّ منشأه الشيخ المفيد (قدس سره).

وما ذُكر من أنّه قد استقاه من العامّة لأنّهم ضعّفوه فبعيدٌ؛ لوجود جملة من الرجال وقع الاتّفاق بين الخاصّة والعامّة على وصفهم, فلعلّه منهم, وكيف لنا الحكم بتعيين المنشأ مع غياب جملة من كتب أصحابنا المتقدّمين في الرجال, التي كانت المصدر له في تلك الأحكام؟! فدعوى انحصار التضعيف بالعامّة لا أساس لها بعد عدم ثبوت توثيق صريح من أصحابنا.

2- ما ذكر في ترجمة يحيى بن سعيد القطان، قائلاً: (عاميّ, ثقة)(2)، وقد طعن يحيى

ص: 209


1- رجال النجاشي: 332.
2- رجال النجاشي: 1196.

هذا في عشرات من الرواة لأنّهم يتشيّعون أو لأنّ عندهم هوى التشيّع, ومن عسى أن يكون يحيى بن سعيد أصلاً وفصلاً وحسباً كي تعرف به النجوم الزاهرات(1).

ويجاب عنه: بأنّه لا ينبغي الشكّ في عدم الاعتماد على تضعيفات مثل يحيى بن سعيد, لأنّها معروفة العلّة, وهذا ثابت ممّا لا خلاف فيه, إلّا أنّ هناك فرقاً بين هذا وبين الوثاقة بالمعنى الأخصّ التي لا يشترط فيها سوى الضبط وعدم الكذب, ولعلّ هذا منه, وكيف يمكن لنا أن نحكم بضعفه إذا كان معروفاً بعدم الكذب وضبطه للحديث, والنجاشي وإن وثّقه ولكنّ بيّن فساد معتقده, ولم يعتمد عليه في أيٍّ من طرقه المذكورة في كتابه, وإنّما ذكره لأنّه روى نسخة عن الإمام الصادق (علیه السلام) وهو في معرض الردّ على دعوى بعض المخالفين, وما ذكر من توثيق له لا يلزم الاعتماد على أحكامه في الرجال؛ لأنّها معروفة العلّة.

3- ما ذكر في ترجمة أبي المفضّل الشيباني: (كان أوّل أمره ثبتاً ثمّ خلط, ورأيت جلّ أصحابنا يغمزونه ويضعّفونه)(2), والملاحظ أنّ وصف النجاشي في آخر عمره - بعد أن كان ثبتاً - متطابق مع ما قالته العامّة فيه, بأنّ سبب ضعفه قعوده في آخر عمره, وإملائه أحاديث في مثالب الصحابة, وهذا هو بيت القصيد في تضعيف العامّة(3).

ويجاب عنه: بأنّ وصفه بالتخليط يظهر أنّه كان مشهوراً بين الخاصّة فضلاً عن العامّة, ولم يكن ما قيل فيه من ابتداعه, بل نسبه إلى جلّ الأصحاب، وكذلك الشيخ الطوسي, وما ذكره العامّة فيه من التخليط يظهر أنّ منشأه أصحابنا لا العكس, فقد نقل

ص: 210


1- بحوث في مباني علم الرجال: 2/ 316.
2- رجال النجاشي: 1059.
3- بحوث في مباني علم الرجال: 2/ 217.

ابن حجر عن أبي ذر: (أنّ سبب ذلك أنّه قعد للرافضة وأملى عليهم أحاديث ذكر فيها مثالب الصحابة وكانوا يتّهمونه بالقلب والوضع)(1).

4- ما ذكر في ترجمة عمرو بن شمر، قائلاً: (ضعيف جدّاً, زيد أحاديث في كتب جابر الجعفي ينسب بعضها إليه, والأمر مُلَبّس)(2)، ولم ينسب أحد من علماء الشيعة إليه

ذلك, وإنّما الذي نسبه إليه جملة من أعلام العامّة كالذهبي وابن حجر.

ويجاب عنه: بأنّ النفي عن علماء الشيعة غير واضح المستند بعد غياب جملة من كتب الأصحاب, وانحصار معرفتها بواسطة ما ذكره الكشّي والشيخ والنجاشي من كلمات, وما ذكره العامّة غير واضح التسرّب إليه بالإضافة إلى هذا لم نجد من وثّق عمرو بن شمر أو أشار إلى مدحه في غالب الكلمات.

الدليل الرابع: تأثّر النجاشي بالعامّة

تتلمذ النجاشي على جملة من مشايخ العامّة وتأثّر بأفكارهم, وجاراهم في جملة من آرائهم الرجالية, وقد روى عن جملة منهم(3).

ويجاب عنه: بأن من المعروف أنّ الحضور والتلقّي والإسناد بين مختلفي المذهب كان مشهوراً بين العلماء في فترة من الزمان لا سيّما الحواضر العلميّة المختلطة كبغداد التي كانت المركز العلميّ للشيعة وتحتضن علماء من مذاهب أخرى كالشافعيّة والحنابلة.

وقد حكى الشيخ الصدوق عن بعض شيوخه - وهو أحمد بن الحسين بن عبيد

ص: 211


1- لسان الميزان: 5/ 232.
2- رجال النجاشي: 765.
3- بحوث في مباني علم الرجال: 2/ 320.

الضبّي النيسابوري المرواني - أنّه كان ناصبيّاً حتى بلغ من نصبه أنّه كان يقول: (اللهم صلِّ على محمّد فرداً) ويمتنع من الصلاة على آله الطاهرين(1).

ولم يدّع تأثّر أحدٍ من العامّة به فضلاً عن العلماء. فإن ادّعي ذلك في حقّ النجاشي, فلماذا لا يقال هذا بحق الشيخ الصدوق الذي صرّح بأنّ إحدى درجات الغلو نفي السهو عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم).

ولا يصح ما ادّعي أيضاً من ثبوت التلازم بين إسناده عن بعض علماء العامّة وجعلهم في طرقه وكونه اعتمد عليهم بالتضعيف.

وبعبارة أخرى: هناك فرق بين كون شيخه عامّيّاً وروايته عنه وبين تلمذته عليه وتلقّيه منه وتأثّره به, فإنّ الجرح والتعديل له ملاكات تختلف باختلاف المدارس والمباني، والشيخ النجاشي من المتمهّرين والمختصّين في هذا المجال، لذا تجده حريصاً في نقد ومتابعة الأقوال كما يلاحظ من ترجمة علي بن شيرة القاشاني إذ تابع ما قاله أصحابنا القمّيّون في حقه، واعترض على مستندهم, فكيف إذا جاءت الدعوى من عامّيّ؟

بل لم نجده على الإطلاق قد اعتمد أو أسند في كتابه دعوى تضعيفٍ إلى أحد من العامّة.

نعم، جعل جملة من رواة العامّة واسطة في بعض طرقه التي ذكرها في كتابه لعلّه من جهة إثبات الحجّة على المخالفين الذين كانوا السبب في هذا التصنيف.

وبعد شيوع الاعتماد على هذا الكتاب بين العلماء لما عُرف عن مؤلّفه من كونه في غاية الضبط ونهاية المعرفة في متابعة أقوال المتقدّمين من علماء الرجال فكانت أحكامه

ص: 212


1- عيون أخبار الرضا: 2/312.

طريقاً حسّيّاً في نقل أحوال الرواة.

هذا آخر ما أردنا ذكره في هذا المقام، وسيأتي مزيد بيان لبعض المطالب مع بقيّة المباحث المتعلّقة بكتاب النجاشي (رحمة الله) في كتاب مستقل سيُطبع قريباً بإذنه تعالى.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

* * *

ص: 213

المصادر

1. اختيار معرفة الرجال، المعروف ب-(رجال الكشي): شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسيّ (قدس سره) (ت 460ﻫ)، تصحيح وتعليق: المعلّم الثالث مير داماد الاسترباديّ، تحقيق: السَّيّد مهدي الرجائي، الناشر: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام)، طبع: مطبعة بعثت - قم، سنة الطبع: 1404ﻫ.

2. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار: الشيخ محمّد باقر المجلسيّ (قدس سره) (ت 1111ﻫ)، مؤسّسة الوفاء بيروت - لبنان، ط2 المصحّحة، سنة الطبع: 1403ﻫ - 1983م.

3. بحوث في مباني علم الرجال: الشيخ محمّد السند، بقلم محمّد صالح التبريزي، ط1، الناشر: مدين، قم - ايران.

4. تصحيح اعتقادات الإمامية: الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان (المفيد) (ت413ﻫ)، تحقيق: حسين دركاهي، ط2، الناشر: دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع بيروت لبنان.

5. تهذيب الكمال في أسماء الرجال: جمال الدين أبو الحجاج يوسف المزي (ت 742 ﻫ)، ط 4، 1406 - 1985 م.

6. فهرست أسماء مصنفي الشيعة المشتهر ب(رجال النجاشي): الشيخ الجليل أبو العباس أحمد بن علي بن أحمد بن العباس النجاشي الأسدي الكوفي (ت 450ﻫ)، نشر مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، تحقيق: السيد موسى الشبيري الزنجاني، ط 5، 1416 ﻫ.

ص: 214

7. الرجال لابن الغضائري: الشيخ أحمد بن الحسين بن عبيد الله بن ابراهيم أبي الحسين الواسطي البغدادي (رحمة الله) (ت ق5)، تحقيق: السيد محمّد رضا الجلالي، ط1، الناشر: دار الحديث قم ايران.

8. الرجال، الشيخ أبو جعفر أحمد بن أبي عبد الله البرقيّ (رحمة الله) (ت 274ﻫ)، طبع ونشر: دانشگاه - طهران.

9. الرسائل التسع، الشيخ أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن (رحمة الله) (المحقّق الحلّي) (676ﻫ)، تحقيق الشيخ رضا الاستادي، الناشر، مكتبة المرعشي بقم، ط1.

10. الرواشح السماوية، المحقّق الداماد الشيخ محمّد باقر الحسيني الأسترآبادي (رحمة الله) (ت1041ﻫ)، تحقيق: غلام حسين قيصريه ها، ونعمت الله الجليلي، الناشر: دار الحديث، ط1، قم ايران.

11. روضة المتقين: الشيخ محمّد تقي المجلسي (الأوّل) (رحمة الله) (ت 1070ﻫ)، تعليق: السيد حسين الموسوي الكرماني والشيخ علي پناه الإشتهاردي، نشر: بنياد فرهنك إسلامي حاج محمّد حسين كوشانيور.

12. سير أعلام النبلاء: شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت 1374ﻫ)، تحقيق: حسين الأسد، ط9، الناشر: مؤسسة الرسالة بيروت لبنان.

13. عدّة الرجال، السيد محسن بن الحسن الحسيني الأعرجي الكاظمي، ط 1، تحقيق مؤسسة الهداية لإحياء التراث، الناشر: اسماعيليان - قم.

14. العدة في أصول الفقه: شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت460ﻫ)، تحقيق: الشيخ محمّد مهدي نجف، الناشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام).

ص: 215

15. عيون أخبار الرضا: الشيخ أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسن بن بابويه القمي (الصدوق) (رحمة الله) (ت381ﻫ)، تعليق وتقديم: الشيخ حسين الأعلمي، الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت لبنان.

16. الفهرست: شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ (قدس سره) (460ﻫ)، تحقيق: الشيخ جواد القيومي، طبع ونشر: مؤسّسة (نشر الفقاهة)، ط1، المطبعة: مؤسّسة النشر الإسلاميّ.

17. الفوائد الرجالية: الشيخ محمّد باقر بن الشيخ محمّد أكمل (الوحيد البهبهاني)، الطبعة الموجودة في قرص مكتبة أهل البيت (علیهم السلام).

18. لسان الميزان: شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن عليّ بن حجر العسقلانيّ (ت 852ﻫ)، منشورات: مؤسسة الأعلميّ للمطبوعات، بيروت - لبنان، ط2، سنة الطبع: 1390ﻫ.

19. المعتبر: الشيخ نجم الدين أبو القاسم جعفر بن الحسن (رحمة الله) (المحقّق الحلّيّ) (ت676ﻫ)، تحقيق: عدّة من الأفاضل، الناشر: مؤسسة سيد الشهداء (علیه السلام) قم إيران.

20. معجم رجال الحديث، السَّيّد أبو القاسم الموسويّ الخوئيّ (قدس سره) (ت 1413ﻫ)، ط5، سنة الطبع: 1413ﻫ.

21. مقباس الهداية في علم الدراية: الشيخ عبد الله المامقاني (قدس سره) (ت 1351 ﻫ)، تحقيق: الشيخ محمّد رضا المامقاني، ط1، منشورات دليل ما، 1438 ﻫ، قم.

22. منهج المقال في تحقيق أحوال الرجال: الميرزا محمّد بن علي الاسترآبادي (رحمة الله)

ص: 216

(ت 1128ﻫ)، تحقيق مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث - قم، ط1، 1422 ﻫ، المطبعة: ستارة - قم.

23. نهاية الدراية: السيد حسن الصدر (رحمة الله) (ت1351ﻫ)، تحقيق: ماجد الغرباوي، نشر المشعر.

24. الوجيزة في علم الرجال: الشيخ محمّد باقر ابن الشيخ محمّد تقي الأصفهانيّ المعروف ب-(المجلسي الثاني) (رحمة الله) ( ت1110 ﻫ)، ط 1، طهران، 1420 ﻫ، تحقيق: محمّد كاظم رحمان ستايش.

ص: 217

ص: 218

صلاة الجمعة في عصر الغيبة للفقيه الكبير الشيخ حسين الحلي (قدس سره) - السّيّد مهدي الرّباني (دام عزه)

اشارة

صلاة الجمعة في عصر الغيبة

بقلم

الفقيه الكبير

المرحوم الشيخ حسين الحلي (قدس سره)

(1394-1309 ﻫ)

تحقيق

السّيّد مهدي الرّباني (دام عزه)

ص: 219

ص: 220

المقدمة

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل خلقه وبريَّته الصَّادق الأمين وآله الهادين المهديِّين.

إنَّ واحداً من الأبحاث الأساسيَّة حول صلاة الجُمُعة هو مشروعيَّة إقامتها في عصر الغيبة.

وقد وقع الخلاف بين الأعلام في حكمها، فذهب بعض إلى وجوبها تعييناً أو تخييراً، في حين ذهب بعض آخر من الفقهاء إلى حرمة إقامتها.

ويعود الاختلاف والتباين في الآراء إلى أسباب عديدة، لعلّ من أهمّها الاختلاف في حدود الولاية وأثرها في حكم صلاة الجمعة.

ومن خلال تتبّع كلماتهم (رضوان الله تعالی علیهم) يمكن استخلاص مسالك ثلاثة رئيسة:

المسلك الأوّل: أنَّ صلاة الجمعة سواء أكانت في عصر الحضور أم في عصر الغيبة ليست من شؤون الولاية، بل هي كسائر الصلوات اليوميَّة لا تحتاج إلى إذن الإمام (علیه السلام)، وهذا مسلك الشهيد الثاني (قدس سره)، حيث ذهب إلى الوجوب التعييني في عصر الحضور والغيبة.

المسلك الثاني: أنَّ صلاة الجمعة من شؤون الولاية في عصر الحضور دون عصر

ص: 221

الغيبة، وقد ذهب هؤلاء الأعلام إلى قولين: منهم من قال بالوجوب التَّعييني، وقال بعضهم بالوجوب التَّخييري.

المسلك الثالث: أنَّ إقامة صلاة الجمعة من شؤون الولاية مطلقاً، من غير فرق بين زمن الحضور والغيبة، وعليه تكون إقامتها في عصر الغيبة محرَّمة وبدعة.

هذه - كما أشرنا - عمدة الاتّجاهات في المسألة، وإلَّا قد ينقسم بعض المسالك إلى طرفين أو أطراف، وكلّ طرف إلى أقوال، ولسنا بصدد الحديث عن هذا الجانب.

والحاصل: أنَّ من أهمِّ أسباب الاختلاف في حكم صلاة الجمعة بين الإماميّة هو خفاء دور الولاية في المسألة.

والرسالة التي بين أيدينا هي من رشحات فكر الفقيه المدقّق والأصولي المحقّق الشيخ حسين الحلي (قدس سره)، تتناول هذه النقطة المهمّة في بحث صلاة الجمعة - وهي مشروعيَّة إقامتها في عصر الغيبة وعدمها - حيث اختار (قدس سره) عدم مشروعيَّتها في غير عصر الحضور.

وهذه الرسالة وإن كانت مسوَّدة بحثه، إلَّا أنّ أهميّتها التي تكمن في طرح رؤية مخالفة لما هو المعروف في العصور المتأخّرة من مشروعيّتها اقتضت نشرها مع مراعاة الجوانب الفنيَّة في نشر التُّراث ليستفيد منها الباحثون.

وصف النسخة المعتمدة في التحقيق

النسخة الموجودة بأيدينا هي النسخة الوحيدة لهذه الرسالة، وهي نسخة المؤلِّف وبخطّه الشريف، وهي مسودة البحث - كما ذكرنا آنفاً - فلم تخلُ عن الشطب والحذف وبعثرة الأوراق وتعدّد الإلحاقات ممّا استدعى جهوداً مضاعفة في ترتيبها وضبطها.

ص: 222

وهي محفوظة في خزانة مخطوطات معهد العلمين حيث انتقلت إليه من ذرّيّة المؤلِّف - مع سائر تراثه - ولم تُفهرس بعد.

وتقع هذه النسخة في (45) صفحة، ويتراوح عدد أسطر صفحاتها بين (20) و(26) سطراً، ومعدّل كلمات السطر الواحد (20) كلمة، وكان الشروع فيها بتاريخ 2 رمضان المبارك 1377 ﻫ، والفراغ منها في (27) من نفس الشهر المبارك.

منهج التحقيق

قد تلخّص عملنُا في التحقيق بالآتي:

1. ضبط النصّ وتقويمه بعد تنضيده من خلال مطابقته مع النسخة المخطوطة.

2. تخريج الآيات الكريمة والأحاديث المباركة.

3. إرجاع أقوال الفقهاء إلى مصادرها الأصليّة.

4. إعداد فهرس لمصادر التحقيق.

5. اختيار عنوان للرسالة ينسجم مع مضمونها؛ حيث إنّ المؤلف (قدس سره) لم يعنونها بعنوان خاصّ.

وممّا لا بدّ من الإشارة إليه أنّي لم أدرج ترجمة للمؤلّف (قدس سره) في مقدّمة العمل، فقد سبق وأن نشرت المجلّة في عددها السادس ترجمة له (قدس سره).

وفي الختام: أتقدّم بالشكر الجزيل لمن ساهم وساند في إنجاز هذا التحقيق بجميع مراحله، وأسأل الله تعالى أن يوفّقنا جميعاً لخدمة الدّين الحنيف ونشر علوم أهل البيت عليهم أفضل الصّلاة وأتمّ السّلام.

ص: 223

صورة

الصفحة الأولى من المخطوطة

ص: 224

صورة

الصفحة الأخيرة من المخطوطة

ص: 225

ص: 226

صلاة الجمعة في عصر الغيبة

اشارة

بقلم

الفقيه الكبير

المرحوم الشيخ حسين الحلي (قدس سره)

تحقيق

السّيّد مهدي الرّباني (دام عزه)

ص: 227

ص: 228

بسم الله الرحمن الرحیم(1)

وله الحَمد، وعَليه نتوكَّل، وبه نَستعين، والصَّلاة والسَّلام على خَير خَلقه محمَّد وآله الطَّاهرين.

القول في صلاة الجُمُعة

لا إشكال في وجوب الجُمُعة عيناً في الجملة عند إقامة المعصوم (علیه السلام) لها بنفسه، أو بنائبه الخاصّ الَّذي هو منصوب من قِبله لإقامتها، كما ينصِّبون للإدارة والجيش والخراج والقضاء(2)، وإنَّما الإشكال فيما عدا ذلك من عصر الغيبة وما قبله من عصر الحضور، مع عدم التَّمكُّن له (علیه السلام) من إقامتها، كما في جميع الأئمَّة (علیهم السلام) ما خلا أيَّام قلائل

ص: 229


1- أرَّخ المصنِّف (قدس سره) هذا المقطع من البحث ب-: (الأحد 2 رمضان المبارك 1377).
2- أورد المصنِّف (قدس سره) في هامش الصَّفحة الأولى العبارة التَّالية: (وعن أبي حنيفة: لا تنعقد الجمعة إلَّا بإذن السُّلطان، نقل ذلك عنه في الصَّلاة من فقه المذاهب ص 291، ونقل عنه في كتاب (رحمة الأمة) المطبوع على هامش ميزان الشَّعرانيّ ص 81، وفي الميزان ص 188، وفي البداية لابن رشد ج 1 ص 154).

من أيَّام أمير المؤمنين وأيَّام الحسن (علیهما السلام)، بل يأتي الإشكال أيضاً في تلك الأيَّام القلائل بالنسبة إلى مَن فَقَدَ التَّشرُّف بخدمته في البلد الَّذي هو فيه، مع فرض عدم المنصوب عندهم من قِبله (علیه السلام)، كما لو اتَّفق موت المنصوب وحضرت الجُمُعة ولم يصل الخبر بنصب آخرٍ مكانه.

الأقوال في صلاة الجُمُعة

اشارة

وأصول الأقوال في ذلك ثلاثة:

الوجوب التَّعيينيّ، والوجوب التَّخييريّ، والسُّقوط.

ولكن للوجوب التَّعيينيّ درجتان:

الأُولى: هو وجوب الاجتماع ووجوب التَّجمُّع، أعني: صلاة الجُمُعة.

الثَّانية: وجوب الجُمُعة تعييناً بعد اتِّفاق الاجتماع.

كما أنَّ ما هو مركَّب الوجوب التَّخييريّ قابل للدَّرجتين المذكورتين، فيقال بأنَّ أحد طرفيه هو الظُّهر، والآخر هو الاجتماع وصلاة الجُمُعة، أو أنَّ الآخر هو صلاة الجُمُعة بعد اتِّفاق الاجتماع، وحينئذٍ يكون لنا أقوالٌ أو وجوهٌ أربعةٌ.

وقد عبَّروا عن الوجوب التَّخييريّ باستحباب الجُمُعة نظراً إلى أنَّها أفضل الفردين، ويمكن أنْ يكون المراد به هو مجرَّد الاستحباب نظير استحباب صلاة العيد، فلا تغني عن الظُّهر، لكن الظَّاهر أنَّه لم يوجد مَن هو قائل به صريحاً، وعلى كلِّ حال تكون الاحتمالات به خمسة.

ثُمَّ الأخير - وهو السُّقوط - الظَّاهر منه مجرَّد السُّقوط، فلا تكون الجُمُعة إلَّا حراماً تشريعاً، ويمكن أنْ ينضمَّ إلى ذلك الحرمة الذَّاتيَّة النَّاشئة عن كونها غصباً لمنصبه (علیه السلام)، فتكون إقامتها من أعظم المحرَّمات، وبذلك تكون الاحتمالات سبعة.

ص: 230

ولا يخفى: أنَّ القائلين بتعيُّن الجُمُعة لا يقولون بسقوط الظُّهر بالمرَّة، بل يلتزمون بأنَّه لو فاتته الجُمُعة بعصيان أو قصور وانقضى وقتها يتعيَّن عليه فعل الظُّهر(1).

نعم، لو فعل الظُّهر في وقت الجُمُعة كانت باطلة على وجه لو بقي وقت الجُمُعة صلَّاها، ولو خرج وقتها أعاد الظُّهر، وحينئذٍ لا يمكن إصلاح الظُّهر عندهم في وقت الجُمُعة بالتَّرتُّب، بخلاف ما لو صلَّى غير الظُّهر من نافلةٍ أو قضاءٍ، فإنَّه يمكن إصلاحها عندهم بالتَّرتُّب أو بالملاك.

مقتضى الأصل العمليّ

إذا عرفت ذلك، فاللَّازم هو بيان ما تقتضيه الأصول قبل النَّظر إلى الأدلَّة الاجتهاديَّة، وقد عرفت أنَّ الاحتمالات سبعة: تعيُّن الجُمُعة بالدَّرجة الأولى، وتعيُّنها بالدَّرجة الثَّانية، والتَّخيير كذلك، هذه أربعة، والاستحباب النَّفسيّ المستقلّ، والسُّقوط الملازم للحرمة التَّشريعيَّة، والسَّابع: الحرمة الذَّاتيَّة.

وعند الشَّكِّ والتَّردُّد بين هذه الاحتمالات يسقط الرَّابع بأصالة البراءة؛ إذ لا تكون صلاة الجُمُعة من قبيل الدَّوران بين المحذورين؛ لاحتمال الإباحة الَّذي هو عبارة عن مجرَّد السُّقوط.

وإنْ شئت فأسقطْ احتمال الحرمة الذَّاتيَّة؛ لعدم القائل به، كما أنَّك تسقط الاستحباب النَّفسيّ لذلك، أعني: عدم القول به.

وأدمجْ الدَّرجة الثَّانية من التَّعيين والتَّخيير بالدَّرجة الأولى، فلا يبقى إلَّا احتمال التَّعيين واحتمال التَّخيير والسُّقوط، وهو في كلٍّ منهما، فإنَّ احتمال السُّقوط في كلٍّ منهما

ص: 231


1- لاحظ: جامع المقاصد: 2/ 367.

عين احتمال تعيُّن الآخر، ومقتضى القاعدة هو الإتيان بكلٍّ منهما، فإنَّ المسألة وإنْ دخلت في الدَّوران بين التَّعيين والتَّخيير وقلنا هناك بأصالة البراءة من التَّعيين(1)، إلَّا أنَّ ذلك - أعني: أصالة البراءة من التَّعيين - غير نافع فيما نحن فيه، فإنَّ إجراء أصالة البراءة من التَّعيين لا تثبت التَّخيير ليكتفي المكلَّف بواحدٍ منهما؛ لعدم إحراز مشروعيَّته؛ لأنَّه عبادة تتوقَّف صحَّتها على إحراز الأمر. نعم، لو كان الأمر توصُّليَّاً لأمكن ذلك.

اللهم إلَّا أنْ يقال: يأتي المكلَّف بأحدهما؛ لاحتمال أنَّه مأمور به ولو تخييراً، فإنْ صادف الواقع صحَّ، وإنْ لم يصادف - بأنْ كان الآخر واجباً تعيينيَّاً - كان معذوراً؛ لأصالة البراءة من التَّعيين في كلٍّ منهما، فتأمَّل.

ولو أسقطنا احتمال تعيُّن صلاة الجُمُعة ودار الأمر بين وجوبها تخييراً أو سقوطها، فأصالة البراءة من تعيُّن الظُّهر - لو قلنا بها - لا تنفع فيما نحن فيه؛ لأنَّها لا تثبت التَّخيير، كما عرفت، فلا يصحُّ له الاكتفاء بالجُمُعة؛ لعدم إحراز الأمر بها المتوقِّف عليه صحَّتها؛ لكونها عبادة، إلَّا بما عرفت من الإتيان بها بداعي احتمال أمرها التَّخييريّ الَّذي عرفت أنَّه محكوم لأصالة عدم المشروعيَّة.

ولو أسقطنا احتمال الوجوب التَّخييريّ كانت المسألة من العلم الإجماليّ بوجوب أحدهما معيَّناً، فيلزمه الاحتياط، لكن يقدّم الجُمُعة؛ لما عرفت من أنَّها لو كانت هي الواجبة لم تصحّ الظُّهر في وقتها.

والخلاصة هي: أنَّه لا بدَّ من الإتيان بهما معاً عند كون الاحتمال مقصوراً على الوجوب التَّعيينيّ لكلٍّ منهما، ويكون بملاك العلم الإجماليّ المردَّد بين المتباينين مع كون الشُّبهة حكميَّة، كما مثَّلوا له في الأصول بذلك، أعني: الظُّهر والجُمُعة.

ص: 232


1- أصول الفقه: 7/ 286.

وكذلك لا بدَّ من الإتيان بهما معاً عند احتمال التَّعيين والتَّخيير في كلٍّ منهما، لكن يكون لزوم الإتيان بهما معاً من باب العلم الإجماليّ المردَّد بين التَّعيين والتَّخيير، مع فرض عدم الجدوى بأصالة البراءة من التَّعيين لو قلنا بها في غير هذا المقام.

أمَّا عند احتمال تعيُّن الظُّهر فقط وانتفاء احتمال تعيُّن الجُمُعة ودوران الأمر في الظُّهر بين التَّعيين والتَّخيير بينها وبين الجُمُعة فيكون المتعيَّن هو لزوم الإتيان بالظُّهر؛ لما عرفت من عدم الجدوى بأصالة البراءة من تعيُّن الظُّهر وإنْ قلنا بها في غير هذا المقام من التَّوصُّليَّات.

الإشكال في إمكان الوجوب التَّعيينيّ والتَّخييريّ لصلاة الجُمُعة ومحاولات الجواب عنه

وقد عرض في الذِّهن القاصر في هذا اليوم(1) إشكال عضال لم أتوفَّق فعلاً لحلِّه، وهو: أنَّ صلاة الجُمُعة متوقِّفة على الاجتماع والإمامة والائتمام، ومن الواضح المقرَّر في محلِّه: أنَّ الأفعال الاجتماعيَّة - الَّتي لا تقوم بواحدٍ - يكون توجُّه الوجوب بها إلى كلِّ شخص مشروطاً بقيام الآخر، حتَّى في مثل شراء العين الفلانيَّة، فإنَّه لا يقوم إلَّا بالاثنين، فإذا لم يكن من البائع فعلٌ لم يتمّ وجوب الاشتراء من المشتري، وهكذا الحال في الجهاد والدِّفاع، إلَّا بنحوٍ من التَّضحية، وذلك مقام آخر.

ومنه يظهر: أنَّه لا وجه للقول في صلاة الجُمُعة بالوجوب التَّعيينيّ بالدَّرجة الأُولى، فلم يبقَ إلَّا كونها واجبةً تعيينيَّاً بالدَّرجة الثَّانية الَّتي هي عبارة عن أنَّه إذا اجتمع السَّبعة وأحدهم الإمام وجبت الجُمُعة على الثَّامن، ولكن الكلام في اجتماع السَّبعة، هل كانت

ص: 233


1- أرَّخ المصنِّف (قدس سره) هذا المقطع من البحث ب-: (الثُّلاثاء 4 رمضان المبارك 1377).

الجُمُعة واجبة على كلِّ واحد منهم؟ وكيف وجب الاجتماع مطلقاً على ذلك الواحد مع فرض توقُّفه على اجتماع الآخرين معه؟ فلا بدَّ أنْ يكون وجوب الاجتماع على كلٍّ منهم

مشروطاً باجتماع الآخر، وبالآخرة يكون وجوب الاجتماع مشروطاً بوجوده.

مضافاً إلى لزوم كون اجتماع كلٍّ منهما مقدَّماً رتبةً على نفسه، ولا يمكن القول بأنَّه كان الاجتماع تشهِّياً منهم ثُمَّ بعد تحقُّقه وجبت الجُمُعة؛ لأنَّ ذلك مضحكةٌ لا يقول بها أحد، فإنَّ الاجتماع ليس هو بنفسه من حيث إنَّه اجتماع، بل هو الاجتماع على الصَّلاة، فيعود الإشكال وينسدُّ باب الوجوب التَّعيينيّ فيها في كلٍّ من الدَّرجة الأُولى والدَّرجة الثَّانية، بل ينسدُّ باب الوجوب التَّخييريّ في الدَّرجتين أيضاً.

أمَّا في الدَّرجة الأُولى فلما عرفت من عدم إمكان توجُّه التَّكليف المطلق إلى الشَّخص الواحد في الاجتماعيَّات حتَّى لو كان الوجوب تخييريَّاً، وبعين التَّقريب الَّذي انسدَّ به باب الوجوب التَّعيينيّ في الدَّرجة الثَّانية ينسدُّ باب الوجوب التَّخييريّ في الدَّرجة الثَّانية أيضاً؛ لأنَّ العمدة في الإشكال [هي] في الدَّاعي للسَّبعة على الاجتماع الَّذي أخذناه شرطاً في الوجوب التَّخييريّ للنَّاس، بل إنَّ هذا الإشكال جارٍ حتَّى لو قلنا بالاستحباب الصِّرف، ولا ينتقض باجتماع الجماعة والاقتداء في سائر الفرائض؛ إذ لم يكن ذلك مشروطاً بالاجتماع، وإنَّما هو مشروط بوجود المصلِّي العادل، فيستحبُّ لكلِّ أحد يعتقد عدالته أنْ يقتدي ويأتمَّ به.

وبالجملة: إنَّ هذا النَّحو من التَّكاليف الاجتماعيَّة ينحصر بالإمام (علیه السلام) فهو مأمور (علیه السلام) بإقامتها بنفسه أو بنائبه ومنصوبه الخاصّ، ويأمر النَّاس بأنْ يقتدوا به ويحضروا معه، ووجوب النِّداء مختصٌّ به، فيجب عليهم إطاعته، ولو عصوا قهرهم مع المكنة وساقهم بعصاه، فيكون (علیه السلام) هو المكلَّف بجمع النَّاس، لا أنَّهم مكلَّفون بالاجتماع.

ص: 234

وبعد إطاعتهم وحضورهم في الجامع يكون كلُّ واحد منهم مكلَّفاً بالاقتداء به في الصَّلاة على وجه لو ذهب الجميع وعصوا ولم يبق إلَّا واحد لم يجز له الذَّهاب، إلَّا أنْ يأذن له الإمام أو نائبه على ما سيأتي تفصيله إنْ شاء الله تعالى، فلا يكون المتحصَّل من قوله تعالى: ﴿إذا نُودِيَ﴾ إلى آخر الآية إلَّا ذلك، أعني: لزوم إطاعته لو أمرهم وناداهم بالحضور، فلا يكون مساقه إلَّا مساق قوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ﴾(1).

وهكذا الحال في كلِّ ما يكون من هذا القبيل ممَّا لا يصلح التَّكليف به للآحاد؛ لما عرفت من الاستحالة.

وبناءً على ذلك ينسدُّ باب الوجوب التَّعيينيّ والتَّخييريّ في صلاة الجُمُعة في عصرنا، بل إنَّ الوجوب التَّخييريّ منسدٌّ حتَّى في عصره (علیه السلام) وبسط يده؛ لأنَّ المتعيَّن مع دعوته هو الوجوب التَّعيينيّ، ولا محصَّل للوجوب التَّخييري إلَّا في بعض الأشخاص، وبناءً على ذلك لا يبقى وجه للاستدلال بالأدلَّة اللَّفظيَّة على الوجوب التَّعيينيّ ولا الوجوب التَّخييريّ؛ إذ لو دلَّت على شيءٍ من ذلك لزمنا تأويلها؛ لعدم المعقوليَّة، فلم يبقَ إلَّا كونها منصباً إلهيّاً. والَّذي ينبغي أنْ يكون محطُّ الكلام هو ثبوت ذلك المنصب للفقيه في عصر الغيبة لو انبسطت يده، وذلك بحث آخر.

لا يقال: لِمَ لا تخرِّجوا المسألة على ما ذكرتموه في الأمر التَّرتُّبيّ بالصَّلاة المشروط بعدم الإزالة من حصول شرط الوجوب، والوجوب والواجب في زمانٍ واحدٍ وإنْ كان الأوَّل سابقاً في الرُّتبة على الثَّاني، والثَّاني سابقاً على الثَّالث؟ ففيما نحن فيه نقول: إنَّ

ص: 235


1- سورة النساء: 59.

وجوب اجتماعي مع زيدٍ - مثلاً - مشروط باجتماعه معي، وهذه الأمور الثَّلاثة، أعني: شرط الوجوب - وهو اجتماعه -، ووجوب اجتماعي، ونفس اجتماعي، كلُّها حاصلة في آنٍ واحدٍ وإنْ كانت في الرُّتبة مترتِّبة.

لأنَّا نقول: كما أنَّ الأمر من ناحية شرطيَّة اجتماعه معي في وجوب اجتماعي موجب للتقدُّم الرُّتبيّ، فكذلك الحال في ناحية العكس، أعني: شرطيَّة اجتماعي معه في وجوب الاجتماع المتوجِّه إليه، فيلزم من ذلك تقدُّم كلٍّ من الاجتماعين على الآخر برتبتين، ولا يدفعه الدَّور المعيّ؛ إذ لا أصل للدَّور المعيّ، وتمثيله باستقامة وضع الآجرتين مستنداً كلٌّ منهما إلى الآخر(1) عجيبٌ؛ لأنَّ هذه الاستقامة من جهة تكافؤ القوُّتين. مضافاً إلى أنَّ ما نحن فيه ليس من المعيّ.

وأمَّا التَّكليف للجماعة بحمل الثَّقيل فليس هو من الأمر بالاجتماع على حمله، بل أنَّ كلَّ واحد منهم مأمور بالحمل، ومن ناحية أخرى يكون كلُّ واحد منهم مساعداً للآخر، وأين هذا من الاجتماع في الصَّلاة الَّذي أُخذ قيداً فيها، فلاحظ وتدبَّر.

ولعلَّ إشكال شيخنا (قدس سره) في نيَّة الإمام في الجماعة من هذا القبيل، فقد قال في العروة مسألة 9: (لا يشترط في انعقاد الجماعة في غير الجُمُعة والعيدين نيَّة الإمام الجماعة والإمامة) إلى قوله (قدس سره): (نعم، حصول الثَّواب في حقِّه موقوف على نيَّة الإمامة )(2).

والحاشية لشيخنا (قدس سره) هي على قوله (نيَّة الإمامة)، وهي: (اعتبار نيَّة الإمامة لا يخلو مطلقاً عن الإشكال؛ إذ ليست هي فعلاً اختياريّاً للإمام كي تصلح لتعلُّق القصد بها، بل الظَّاهر كفاية وثوق الإمام فيما يتوقَّف صحَّته على الجماعة، كالجُمُعة ونحوها،

ص: 236


1- لاحظ: منية الطالب: 3/ 311.
2- العروة الوثقى (المحشَّاة): 3/ 119 - 120.

وكذلك المعادة بلحوق مَن يعتبر لحوقه به في صحَّة دخوله في الصَّلاة، بلا حاجة إلى نيَّة الإمامة وكونها لغواً في جميع ذلك)(1)، انتهى.

وللسَّيِّد البروجرديّ (سلَّمه الله) حاشية تبع فيها شيخنا (قدس سره) على قوله: (الجُمُعة والعيدين)، وهي قوله: (بل وفيهما أيضاً. نعم، يعتبر فيهما العلم بصيرورة صلاته جماعةً بنيَّة المأمومين الائتمام به، ولعلَّ هذا هو المناط في ترتُّب ثوابها أيضاً، لا نيَّة الإمامة؛ إذ ليست هي ممَّا تحصل له بقصده إيَّاها)(2)، انتهى.

وقد تعرَّض شيخنا (قدس سره) لهذا الإشكال في درس الفقه في صلاة الجماعة فقال حسبما حرَّرته عنه في [سنة] 1347: (ولا بدَّ في الجماعة من النّيّة؛ لكونها من الأفعال الاختياريَّة العباديَّة المتوقِّف حصول الامتثال فيها على النّيّة، أمَّا بالنِّسبة إلى المأموم فلا شبهة في اعتبار نيَّة الاقتداء، وأمَّا بالنِّسبة إلى الإمام فاعتبار نيَّة الإمامة منه في غاية الإشكال؛ إذ ليست هي بالنِّسبة إليه من الأفعال الاختياريَّة كي يتحقَّق منه قصدها، فالظَّاهر أنَّ المعتبر فيما تكون الجماعة شرطاً فيه - كصلاة الجُمُعة والمعادة - هو وثوق الإمام بلحوق مَن يعتبر لحوقه به بلا حاجة إلى نيَّة الإمامة، وكونها بالنَّسبة إليه لغواً صرفاً، لما عرفت من عدم دخول الإمامة تحت اختياره)، انتهى ما حرَّرتُه عنه (قدس سره).

وقد حرَّر ذلك عنه العلَّامةُ الآمليُّ (سلَّمه الله) في [ص] 353 من المجلد الثَّاني من تقريراته، وتعرَّض للثَّواب وجعله مترتِّباً على ما محصَّله: تهيئة الشَّخص نفسه لأنْ يكون إماماً كحضوره في المحراب ونحو ذلك، إلى أنْ قال: (هذا فيما لم يشترط فيه الجماعة، وأمَّا فيما اشترط فيه الجماعة فلأنَّ شرط صحَّة صلاة الإمام فيما يتوقَّف صحَّتها على

ص: 237


1- المصدر السابق: 120، الحاشية رقم 1.
2- المصدر السابق: 119، الحاشية رقم 3.

الجماعة مثل ما إذا كان الإمام جزءاً من العدد الَّذي ينعقد به الجُمُعة - أعني: الخمسة أو السَّبعة على الاختلاف - إنَّما هو لاقتداء المأموم، وقد عرفت أنَّه غير اختياريٍّ للإمام، فلا بدَّ [من] (1) أنْ يجعل الشَّرط ما هو يرجع إلى اختياره، وهو عبارة عن إحراز انعقاد الجماعة والاطمئنان بتحقُّقها، لا الانعقاد الواقعيّ، ويترتَّب عليه صحَّة صلاته جمعةً لو تخلَّف العدد الَّذي يتقوَّم به الجُمُعة ولم يبقوا إلى آخر الصَّلاة)(2)، انتهى.

قلت: بل يترتَّب عليه أنَّه لو اعتقد وجود مَن يأتمُّ به ولم يكن هناك أحد أصلاً لصحَّت جمعةً.

ثُمَّ إنَّ الفرار إلى الوثوق والإحراز لا يكون إلَّا إلى ما فرَّ منه؛ لأنَّ الوثوق والإحراز لا يدخل تحت الاختيار، وليس الإشكال مقصوراً على النّية كي نكون في راحةٍ منه لو قلنا بأنَّه لا تعتبر نيَّة الإمامة، بل هو في كيفيَّة جعل الائتمام أو الاجتماع قيداً في صحَّة الصَّلاة القاضي بدخوله تحت الوجوب.

فيكون الحاصل أنَّ الإمام مكلَّف بالإمامة لو اقتدى به الأربعة، والأربعة مكلَّفون بالاقتداء به لو صار إمامهم، فكان كلٌّ من إمامته واقتدائهم مقدَّماً رتبةً على الآخر، وهكذا الحال في اجتماع كلٍّ من المأمومين مع المأموم الآخر.

وبالجملة: إنَّ اجتماع كلِّ واحدٍ من الخمسة مع الآخر - إماماً كان ذلك الآخر أو مأموماً - يكون شرطاً في وجوب الاجتماع على الآخر، وهو ما قدَّمناه من الإشكال.

ومن ذلك تعرف أنَّ هذا الإشكال لا يختصُّ بنيَّة الإمامة، بل هو جارٍ في نيَّة الائتمام؛ لأنَّ كون الشَّخص مؤتمّاً بالإمام منوط بوجود الإمام وشروعه في الصَّلاة، لما

ص: 238


1- ما بين المعقوفين من المصدر.
2- كتاب الصَّلاة: 2/ 353 - 354.

عرفت من أنَّ القدوة والاقتداء متقوِّم بالطَّرفين، فلو كان الائتمام واجباً على الشَّخص لم يكن داخلاً تحت اختياره، فلا يصحُّ تكليفه به، وما لم يصحّ تكليفه به لا يصحُّ منه نيَّته امتثالاً للأمر المتعلِّق به في ضمن الأمر المتعلِّق بالمشروط.

قال في الجواهر: (أمَّا الجماعة الواجبة كالجُمُعة ففي الدُّروس، والذِّكرى، والبيان، وحاشية الإرشاد، ومصابيح الأنوار، والرِّياض وجوب اعتبارها [فيها؛ لتوقُّف صحَّة الصَّلاة على الجماعة](1)، وتوقُّف صدق امتثال الأمر بها جماعة على النّية، خلافاً للمدارك فلم يوجبها أيضاً تبعاً لما عن مجمع البرهان؛ لأنَّ المعتبر تحقُّق القدوة في نفس الأمر، فهو في الحقيقة شرط من شرائط الصّحَّة الَّتي لا يجب على المكلَّف [ملاحظتها](2) حال النّية، واستحسنه في الذَّخيرة، وهو في محلِّه إنْ كان المراد الاكتفاء بنيَّة الجُمُعة [مثلاً](3) عن التَّعرُّض لنيَّة الجماعة باعتبار عدم صحَّتها شرعاً بدونها، لا أنَّها كالجماعة المندوبة الَّتي لا يقدح في صحَّتها نيَّة الانفراد(4))(5)، انتهى.

قلت: هذا كلُّه في توجيه إسقاط وجوب نيَّة الإمامة، وأمَّا توجيه الأمر بالصَّلاة المقيَّدة بالقيد المزبور مع أنَّ القيد خارج عن الاختيار فلم يتمّ، بل إنَّ الإشكال فيه باقٍ بحاله لم يندفع بإسقاط الوجوب عن نيَّة الإمامة، فلاحظ وتدبَّر.

لا يقال: إنَّ الإمامة لخالد - مثلاً - هي عبارة عن كون صلاته مرتبطة بصلاة الغير

ص: 239


1- ما بين المعقوفين من المصدر.
2- ما بين المعقوفين من المصدر.
3- ما بين المعقوفين من المصدر.
4- في المصدر: (نيَّة الإمام الفرادى في صلاته) بدل (نيَّة الانفراد).
5- جواهر الكلام: 13/ 347.

على جهة الاقتداء والمتابعة له، وهكذا الحال في الاجتماع في الصَّلاة، فإنَّه عبارة عن كون صلاة زيد مرتبطة بصلاة عمرو - مثلاً - بكونهما مقتديين بخالد، فإنْ لوحظ شرطاً في وجوب الصَّلاة على خالد أو وجوبها على زيد كان تحقُّقه الواقعيّ - ولو بعد الشُّروع في الصَّلاة - شرطاً في وجوبها فعلاً ولو على نحو التَّعقُّب - المعبَّر عنه في حاشية شيخنا (قدس سره) بعنوان اللُّحوق -، وحينئذٍ لا يحتاج في دخوله في الصَّلاة إلَّا إلى إحراز اللُّحوق المذكور(1) - لكنَّه على نحو الطَّريقيَّة، لا على نحو الموضوعيَّة - على وجه لو انكشف أنَّه لم يلحقه أحد ينكشف أنَّه لم تكن الصَّلاة واجبة عليه.

وإنْ لوحظ ذلك العنوان - أعني: اقتداء الغير به أو كون صلاته مرتبطة بصلاة الغير على جهة الاجتماع - فمن حيث تأخُّر لحوق صلاة الغير يكون حاله ما عرفت من كونه من قبيل شرط الصّحَّة المتأخِّر(2) الَّذي صحَّحوه بكون الشَّرط هو العنوان المنتزع، نظير اشتراط الأجزاء المتأخِّرة في صحَّة الأجزاء السَّابقة، ومن حيث وجوب ذلك الشَّرط على ذلك المصلِّي - من جهة كونه شرطاً في صحَّة صلاته، فيكون داخلاً تحت الوجوب - يكون حاله حال اشتراط الاستقبال في الصَّلاة في أنَّ الواجب هو جعل صلاته مرتبطة بالقبلة على جهة كونها إليها، مع كون وجود نفس القبلة ليس من أفعاله ولا راجعاً إلى اختياره.

وهكذا الحال فيما نحن فيه، فإنَّ الواجب على المصلِّي وهو زيد - مثلاً - جعل صلاته مربوطةً بصلاة غيره على جهة الإماميَّة أو المأموميَّة أو المقارنة لصلاة الغير في المأموميَّة، وهذا المعنى - وهو جعل زيد صلاته مربوطةً بصلاة الغير بإيجادها عند إيجاد

ص: 240


1- لاحظ: كتاب الصلاة (تقرير بحث النائيني) للكاظمي: 2/ 370.
2- لاحظ: نهاية الدراية: 1/ 320، هامش (1).

ذلك الغير صلاته سابقاً أو لاحقاً أو مقارناً - مقدورٌ لزيد، وهو من أفعاله وإنْ كانت صلاة ذلك الغير خارجة عن قدرته وعن أفعاله.

نعم، إنَّ وجود صلاة ذلك الغير يكون شرطاً في وجوب هذا المعنى على زيد، كما أنَّ وجود القبلة يكون شرطاً في وجوب جعل صلاته مقترنةً بالقبلة بكونها إليها، ولا يلزم من ذلك الأمر بما هو خارج عن اختياره وعن قدرته وعن أفعاله.

لأنَّا نقول: نعم، كلُّ هذا مسلَّم من ناحية زيد، لكنَّ الأمر كذلك حرفاً بحرف من ناحية غيره، أعني: إمامه أو مأمومه أو شريكه في المأموميَّة في كون صلاة ذلك الغير مربوطةً بصلاة زيد، فيكون وجود صلاة زيد شرطاً في وجوب ذلك الرَّبط على ذلك الغير، وقد كان وجوب الرَّبط على زيد مشروطاً بوجود صلاة ذلك الغير، فعاد الإشكال في لزوم كون صلاة كلٍّ منهما سابقةً في الرُّتبة على صلاة الآخر، وبالآخرة تكون صلاة كلٍّ منهما سابقةً في الرُّتبة على نفسها.

وعلى كلِّ حال إنَّ هذا إشكال حدث في ذهني القاصر، ولم أقدر فعلاً على دفعه، وزاد في الطِّين بلَّة ما تذكّرته بعد عروض هذا الإشكال في ذهني من حاشية شيخنا (قدس سره) الَّتي وافقه عليها السَّيِّد البروجرديّ (سلَّمه الله)، وممَّا تعرَّض له شيخنا (قدس سره) في درس الفقه ممَّا تلوته عليك.

وفعلاً لم أتوفَّق لحلِّ الإشكال، فليبقَ إلى فرصة التأمُّل، لعلَّ الله يحدث بعد ذلك أمراً إنْ شاء الله تعالى، والله سبحانه وتعالى هو الموفِّق والمسدِّد.

ثُمَّ بعد هذا وفِّقت بعونه تعالى لدفع الإشكال فيما بين الإمام والمأمومين - وهو مأخوذ ممَّا أفاده شيخنا (قدس سره) - فإنَّ الشَّرط في وجوب الصَّلاة على الإمام ليس هو نفس صلاة المأموم، ولا هو عين اقتداء المأموم به، بل إنَّ الشَّرط في وجوب الصَّلاة على

ص: 241

الإمام هو العنوان المنتزع من ذلك، وهو كون المأموم لو صلَّى هذا الإمام يتبعه في الصَّلاة ويقتدي به، لكنَّ الشَّرط في وجوب الاقتداء على المأموم هو نفس صلاة الإمام، لا العنوان المنتزع، وحينئذٍ تكون نفس صلاة الإمام سابقةً في الرُّتبة على نفس صلاة المأموم، والَّذي يكون من ناحية المأموم سابقاً في الرُّتبة على نفس صلاة الإمام ليس هو نفس صلاة المأموم، بل هو كون المأموم بحيث يلحقه ويصلِّي مقتدياً به بعد شروعه في صلاته، فلم تكن إحدى الصَّلاتين سابقة في الرُّتبة على الأخرى، ولأجل ذلك لا يتأتَّى ذلك الإشكال في الإمامة، فهما في ذلك نظير قولك لزيد: (يجب عليك السُّؤال من عمرو إنْ كان يجيبك لو سألته)، وقولك لعمرو: (أجب زيداً عند سؤاله منك).

نعم، يبقى الإشكال فيما بين المأمومين بحاله؛ إذ لا يتوسَّط بينهما العنوان المنتزع، بل إنَّ نفس صلاة كلٍّ منهما مع الآخر هي الشَّرط في وجوب صلاة الآخر معه، فيلزمه أنْ تكون صلاة كلٍّ منهما مع الآخر سابقةً في الرُّتبة على صلاة الآخر معه، وبالآخرة تكون صلاة كلٍّ منهما سابقةً على نفسها.

ولا يندفع هذا الإشكال إلَّا أنْ نقول: إنَّهما لا يجب عليهما الاجتماع، وإنَّما يجب على كلِّ واحدٍ منهما الاقتداء بالإمام، ويكون المكلَّف بجمعهما في الصَّلاة هو نفس الإمام أو نائبه الخاصَّ، أو نقول: إنَّ اجتماعهما يكون هو الغاية المتوخَّاة من تعلُّق الأمر بكلٍّ منهما، وهي حاصلة قهراً عند امتثال كلٍّ منهما، وعند عصيان أحدهما لا يكون في البين إلَّا صورة الأمر للآخر.

وبالجملة: لا يكون الاجتماع شرطاً في الوجوب على كلٍّ منهما، ولا قيداً في الواجب على كلٍّ منهما، وإنَّما هو غاية للوجوب على كلٍّ منهما، فلا يكون ذلك الوجوب المتوجِّه إلى كلٍّ منهما إلَّا من قبيل الوجوب الصُّوريّ الطَّريقيّ للحصول على تلك الغاية - أعني:

ص: 242

الاجتماع -، فإنْ حصلت فقد حصلت الإطاعة من كلٍّ منهما، وإنْ عصى أحدهما كان هو المعاقب، وبعصيانه ينحلُّ الوجوب ويسقط عن الجميع.

وفيه ما لا يخفى، فإنَّه(1) راجع إلى اشتراط الوجوب بإطاعة كلٍّ منهما؛ إذ مع عصيان أحدهما يكون الأمر للآخر صوريّاً طريقيّاً لا واقعيَّة له.

نعم، يبقى في الإمام الإشكال الَّذي أشار إليه شيخنا (قدس سره) وهو: أنَّ إمامته ليست من أفعاله كي يكون مكلَّفاً بها أو قاصداً لها.

والخلاصة هي: أنَّ الإشكال في صلاة المأمومين فيما بينهم إنَّما هو من ناحية كون صلاة كلٍّ منهم شرطاً في وجوب الصَّلاة على الآخر، ولا إشكال فيها من ناحية الفعل المكلَّف به كلّ منهما، فإنَّ كلّا ً منهما مكلَّف بربط صلاته مع الآخر على جهة الاجتماع والمعيَّة، وهذا من أفعاله الاختياريَّة نظير ربط صلاته بالقبلة على جهة الاستقبال، بخلاف الإشكال في ناحية الإمام بالقياس إلى إمامته، فإنَّه من ناحية كون إمامته ليست من أفعاله الاختياريَّة حتَّى باعتبار ربطها بصلاة المأمومين، فلا يعقل دخوله تحت القصد والإرادة والنّية، بل لا يعقل دخوله تحت الأمر إلَّا بصرف ذلك الأمر وتحويله إلى مقدِّماته الإعداديَّة الَّتي هي عبارة عن تهيئة نفسه للإمامة.

وبالجملة: إنَّ الإشكال فيه إنَّما هو من هذه النَّاحية، ولا إشكال فيه من ناحية كون صلاته شرطاً في وجوب الصَّلاة على المأمومين؛ لأنَّ الشَّرط في وجوب الصَّلاة على الإمام ليس هو نفس صلاة المأمومين، بل العنوان المنتزع من تأخُّر صلاتهم، وهو كونهم بحيث يلحقونه في صلاتهم، وبه يندفع الإشكال المتوجِّه في صلاة المأمومين فيما بينهم، فلاحظ وتأمَّل.

ص: 243


1- في الأصل (فإنَّ) والصَّحيح ما أثبتناه.

لا يقال: ليس الاجتماع قيداً في صلاة الجُمُعة، وإنَّما القيد فيها هو الصَّلاة جماعةً في قبال الفرادى، وحينئذٍ يكون الواجب على كلِّ أحدٍ عند حضور وقتها السَّعي إليها والحضور في المحلِّ الَّذي أُعدَّ لها، فإذا حضر خمسة وجبت على كلِّ واحدٍ منهم، فإنْ كان الإمام معيَّناً بالنَّصب من إمام الأصل (علیه السلام) أو كان تعيُّنه من قبل الحاضرين خطبهم وتقدَّمهم، ووجب على كلِّ واحدٍ من الباقين الاقتداء به، فإنْ امتنع أحدهم من الصَّلاة ولو عصياناً سقطت عن الباقين.

لأنَّا نقول: إنَّ هذا التَّخلُّف والامتناع من بعضهم هو الموجب لبقاء الإشكال، فإنَّه موجبُ كون وجوب الاقتداء على كلٍّ منهم مشروطاً باقتداء الآخرين، فيكون اقتداء كلٍّ منهم مقدَّماً رتبةً على اقتداء الآخر.

وقد قيل في هذا المقام - وكأنَّه ردٌّ لما في حاشية شيخنا (قدس سره) من أنَّ المانع من لزوم نيَّة الإمام هو عدم دخولها تحت قدرته - ما حاصله: أنَّ العمدة في وجه عدم اعتبار نيّة الإمام هو الإجماع؛ إذ لا إطلاق يقتضي الصّحَّة، وكون الإمامة من قبيل الإيقاع الَّذي يكون وظيفةً للمأموم - فإنَّه الَّذي يجعل الإمام إماماً، لا أنَّ الإمام هو الَّذي يجعل نفسه إماماً - لا يمنع من احتمال اعتبار قصده للإمامة المجعولة له، كما في الجماعة الواجبة(1)، انتهى.

قلت: لا يخفى أنَّ قصد الإمامة عبارة عن قصد فعل الإمام، وبعد فرض كونها فعلاً للمأموم كيف يعقل فعلها من الإمام كي تتعلَّق بها إرادته وقصده، فإنَّ القصد والنّية في هذا المقام عبارة عن الإرادة.

ثُمَّ إنَّه متى يكون الإمام قاصداً ومريداً لفعل الإمام، أهو قبل أنْ يجعله المأموم إماماً أو هو بعد أنْ جعله إماماً في صلاته أو مقارناً لذلك؟ كلُّ ذلك غير معقول.

ص: 244


1- انظر: مستمسك العروة الوثقى: 7/ 179.

ومع قطع النَّظر عن ذلك نقول: كيف يكون مأموراً بالإمامة في الصَّلاة الَّتي تجب فيها الإمامة مع فرض كون الإمامة قائمةً بفعل غيره؟! وهكذا الحال في المأموميَّة الَّتي هي قائمة بفعل الإمام. ولا يكون ذلك إلَّا بكون الوجوب على كلٍّ منهما مشروطاً، وحينئذٍ يتوجَّه ما عرفت من الإشكال، وهو وإنْ كان قد دفعناه فيما بين الإمام والمأمومين، إلَّا أنَّك قد عرفت بقاءه فيما بين المأمومين أنفسهم، إلَّا أنْ يكون المكلَّف بجمعهم هو الإمام، وهو إمام الأصل أو نائبه الخاصُّ المنصوب منه (علیه السلام) لإقامتها، أو هو فقيه عصر الغيبة بناءً على كونه مسلَّطاً على ذلك.

وعلى كلِّ حالٍ، إنَّ هذا إشكالٌ قد عرض في البين ألجأنْا التَّأمُّل في جوابه إلى وقتٍ آخر، لعلَّ الله سبحانه أنْ يوفَّقني لحلِّه، ومنه نستمدُّ التَّوفيق والعناية، فلنعد إلى ما كنَّا بصدده، فنقول بعونه تعالى:

أدلَّة الوجوب التَّعيينيّ

استدلَّ القائلون بالوجوب التَّعيينيّ بالآيات الشَّريفة والأخبار المنيفة:

الآيات الَّتي استُدلَّ بها للوجوب التَّعيينيّ

فمن الآيات قوله تعالى: ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾(1) إلى آخر الآية.

وفيه: أنَّ وجوب السَّعي تعييناً مسلَّمٌ، لكنَّه عند النِّداء، ومن الواضح أنَّه يعتبر في

ص: 245


1- سورة الجمعة: 9.

المنادي كونه له الأهليَّة في النِّداء، ولا يكون ذلك إلَّا بأمره (علیه السلام) أو بأمر مَن نصَّبه.

ولو قيل: إنَّه كناية عن إقامة الصَّلاة وعقدها - ليكون من قبيل: ((ولم ينادَ أحد(1) بشيءٍ كما نُودي بالولاية))(2) كناية عن نفس الأمر - ليكون الحاصل: أنَّه يجب السَّعي إلى صلاة الجُمُعة عند دخولها، جرى فيه عين الإشكال، أعني: كونها موضوعاً لوجوب السَّعي، فلا بُدَّ من فرض مشروعيَّة تحقُّقه؛ إذ لا ريب في عدم وجوب السَّعي إلى الجُمُعة الَّتي يعقدها الظَّالم القاهر، ولو عقدها مَن يرى منَّا [شرعيَّتها](3) لم يجب الحضور على مَن كان منَّا لا يرى المشروعيَّة وإنْ احتاط فيه شيخنا (قدس سره) في وسيلته(4).

ولا فرق في ذلك بين كون المراد من الذِّكر هو الخطبة أو الجُمُعة نفسها وإنْ كان الثَّاني أظهر من حيث سياق النِّداء للصَّلاة.

أمَّا دعوى كون المراد من الذِّكر هو نفس النَّبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) فلعمري إنَّه لا بأس به لو ثبت ورود التَّفسير به عنهم (علیهم السلام) في خصوص المقام، أمَّا ورود تفسيره بذلك في آية سؤال أهل الذِّكر(5) فلا يستلزم كون ذلك هو المراد به في المقام، مع فرض كونه خلاف ظاهر سياق النِّداء للصَّلاة.

قال في كشف اللِّثام في أثناء كلامه على الاستدلال بالآية الشَّريفة: (وبعبارة أُخرى:

ص: 246


1- (أحد) لم ترد في المصدر.
2- الكافي: 2/ 18، باب دعائم الإسلام، ح1.
3- في المخطوطة: (شريعتها)، وما أثبتناه هو الصَّواب.
4- وسيلة النَّجاة: 258.
5- لاحظ: المحاسن: 1/ 216 ح 104، بصائر الدرجات: 58 - 59، الكافي: 1/ 210 باب أنّ أهل الذكر الذين أمر الله الخلق بسؤالهم هم الأئمّة (علیهم السلام).

إنَّما تدلُّ الآية على وجوب السَّعي إذا نُودي للصَّلاة، لا على وجوب النِّداء، ومن المعلوم ضرورةً من العقل والدِّين أنَّه إنَّما يجب السَّعي إذا جاز النِّداء، وفي أنَّه هل يجوز النِّداء لغير المعصوم [ومن نصبه](1) كلامٌ، على أنَّ احتمال إرادة النَّبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) من ذكر الله أظهر من احتمال إرادة الصَّلاة أو الخطبة.

ولا تصغِ إلى ما يُدَّعى من إجماع المفسِّرين على إرادة أحدهما، خصوصاً إذا كنت إماميَّاً تعلم أنَّه لا إجماع إلَّا قول المعصوم)(2)، انتهى.

قال في الجواهر: (وكذا لا يتمُّ بناءً على إرادة الرَّسول (صلی الله علیه و آله و سلم) من الذِّكر فيها، كما هو مذكور في أخبارٍ كثيرةٍ عن أهل البيت (علیهم السلام) أنَّ الذِّكر رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ونحن أهل الذِّكر معاشر أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) (3)، بل في كشف اللِّثام أنَّه أظهر من احتمال [إرادة](4) الخطبة و(5)الصَّلاة)(6)، انتهى.

وقال الحاجُّ آغا رضا [الهمدانيّ] (قدس سره): (مضافاً إلى ما قد يقال: إنَّ المراد بالذِّكر رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، كما هو مذكور في أخبار أهل البيت (علیهم السلام)، بل في كشف اللِّثام)(7)، ونقل عبارته.

وهذه الأخبار ذكرها في الوافي في الجزء الثَّاني من المجلد الأوَّل ص 125 في باب

ص: 247


1- ما بين المعقوفين من المصدر.
2- كشف اللِّثام: 4/ 207.
3- وسائل الشِّيعة: 27/ 62، باب وجوب الرجوع في جميع الأحكام إلى المعصومين (علیهم السلام).
4- ما بين المعقوفين من المصدر.
5- في المصدر: (أو).
6- جواهر الكلام: 11/ 168.
7- مصباح الفقيه: 14/ 68.

65 أنَّهم أهل الذِّكر المسؤولون(1).

وممَّا ذكرناه يظهر لك عدم تماميَّة الاستدلال بأنَّه الصَّلاة الوسطى(2) (3)، وبآية ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ﴾(4) إلى آخر الآية.

وفي سورة الطَّلاق قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا ﴿10﴾ رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾(5) إلى آخر الآية، قال في مجمع البيان: (يعني القرآن، وقيل: يعني الرَّسول، عن الحسن، وروي ذلك عن أبي عبد الله (علیه السلام))(6)، انتهى. ولكن لو تمَّ إرادته هناك فهو بتفسيره (علیه السلام)، ولا دليل على إرادته هنا.

الأخبار الَّتي استُدلَّ بها للوجوب التَّعيينيّ

أمَّا الأخبار الَّتي استدلُّوا بها فكثيرة، مثل ما ورد من صحيحة زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: ((فرض الله على النَّاس من الجُمُعة إلى الجُمُعة خمساً وثلاثين صلاة، منها صلاة

ص: 248


1- هذا في الطَّبعة الحجريّة، وأمَّا في الطَّبعة الحديثة ففي: 3/ 526.
2- لاحظ: رسائل الشهيد الثاني (رسالة الحث على صلاة الجمعة): 1/ 254، الشهاب الثاقب في وجوب الجمعة العيني (الفيض الكاشاني): 16.
3- هو قوله تعالى في سورة البقرة 238: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾.
4- سورة المنافقون: 9.
5- سورة الطَّلاق: 10 - 11.
6- مجمع البيان:10/ 49.

واحدة فرضها الله عزَّ وجلَّ في جماعةٍ، وهي الجُمُعة، ووضعها عن تسعةٍ: عن الصَّغير، والكبير، والمجنون، والمسافر، والعبد، والمرأة، والمريض، والأعمى، ومَن كان على [رأس] (1) فرسخين)) (2).

وهكذا أخبار كثيرة استدلُّوا بإطلاقها على الوجوب التَّعيينيّ ذكرها في الوسائل(3)، ونقلها الحاجُّ آغا رضا [الهمدانيّ] (4) وغيره، وأجاب عنها باحتمال كون إقامة إمام الأصل أو النَّائب الخاصّ عنه شرطاً في صحَّتها، ومعه لا يمكن التَّمسُّك لفقيهٍ بإطلاق المادَّة؛ لكونها من هذه النَّاحية مهملة، كما لا يمكن التَّمسُّك بها من حيث عدم كون الإمام الغير الأصليّ من ذوي العاهات مثلاً.

ولو كان الشَّكُّ في كونه شرطاً للوجوب أمكن التَّمسُّك بإطلاق مفاد الهيئة الَّذي هو الوجوب، مثل قوله (علیه السلام): ((الجُمُعة واجبة على كلِّ أحدٍ، لا يُعذر النَّاس فيها إلَّا خمسة))(5) لو أريد منها الجنس، ولكن الظَّاهر منها هو العهد، ومفاده حينئذٍ الوجوب للمعهودة، ولا يكون إلَّا بعد إقامتها.

ولو سلَّمنا إرادة الجنس وتماميَّة الإطلاق كان أوَّلاً محكوماً لما دلَّ على المشهور من عدم الوجوب في زمان الغيبة ممَّا يقتضي تقييد الوجوب التَّعيينيّ بالحضور، وثانياً تقييده

ص: 249


1- ما بين المعقوفين من المصدر.
2- تهذيب الأحكام: 3/ 21، ح77.
3- وسائل الشيعة: 7/ 295، باب وجوبها على كلِّ مكلَّف إلَّا الهرم، والمسافر، والعبد، والمرأة والمريض، والأعمى، ومَن كان على رأس أزيد من فرسخين.
4- لاحظ: مصباح الفقيه: 2/ ق2/ 440.
5- تهذيب الأحكام: 3/ 239، ح636.

بمثل صحيحة ابن مسلم(1) وصحيحة الفضل بن عبد الملك(2) في جماعة القرية صلَّوا أربعاً إذا لم يكن من يخطب، بناءً على أنَّ المراد هو المنصوب من قبله (علیه السلام) لذلك، ثُمَّ أراد كسر سَورة المستدِلِّ بأنَّه لا ريب في سقوط الإطلاق ولو بالنَّسبة إلى اجتماع الخمسة ووجود من يخطب(3).

وفيه: أنَّ سقوط الإطلاق من ناحية العدد ووجود الإمام الخطيب ولو إمام الجماعة لأجل وجود الأدلَّة على ذلك لا يوجب سقوط الإطلاق من الجهة الأخرى لو تمَّ الإطلاق.

ثُمَّ لا يخفى أنَّ هذا القيد - وهو اعتبار كون الإمام إمام أصلٍ - لأجل أنَّه غير مقدور لا بدَّ أنْ يكون أصل الوجوب مشروطاً به، سواء جعلناه بحسب الصِّناعة قيداً للمادَّة ابتداءً ثُمَّ تتقيَّد الهيئة به قهراً، أو جعلناه قيداً للهيئة ابتداءً ثُمَّ تتقيَّد به المادَّة قهراً، كما حُقِّق في محلِّه في مسألة دوران الأمر في القيد بين رجوعه إلى المادَّة أو رجوعه إلى الهيئة، فالعمدة هو أنَّه لو سُلِّم الإطلاق كان محكوماً لما دلَّ على التَّقييد.

أدلَّة تقييد وجوب صلاة الجُمُعة بإمام الأصل أو نائبه الخاصِّ

وممَّا يدلُّ على تقييد الوجوب بإمام الأصل أو نائبه الخاصِّ - بل على الحرمة أو عدم المشروعيَّة بدون ذلك - ما نقله المحقِّقُ القمِّيُّ (قدس سره) في مناهجه في أدلَّة التَّحريم عنه (صلی الله علیه و آله و سلم) في

ص: 250


1- تهذيب الأحكام: 3/ 238، ح633.
2- المصدر والموضع نفسه: ح634.
3- انظر: مصباح الفقيه: 14/ 72 - 75.

خطبة طويلة: ((إنَّ الله فرض عليكم الجُمُعة، فمَن تركها في حياتي أو بعد مماتي(1) وله إمام عادل استخفافاً بها أو جحوداً لها، فلا جمع الله شمله، ولا بارك له في أمره))(2).

وهذه الخطبة نقلها في المستدرك(3) عن الغوالي خاليةً من قوله: (وله إمام عادل)(4)، وعن تفسير أبي الفتوح الرَّازي مشتملةً على قوله: (مع إمام عادل) بدل (وله)(5)، قال في الوافي ص167: (قوله (صلی الله علیه و آله و سلم): ((وله إمام عادل)) ليس في بعض الرِّوايات, ورواه العامَّة هكذا: وله إمام عادل أو فاجر)(6).

وعن الصَّدوق عن محمَّد بن مسلم عن الباقر: ((تجب الجُمُعة على سبعة نفر من المسلمين، ولا تجب على أقلّ منهم، الإمام، وقاضيه، والمدَّعي حقَّاً، و المدَّعى عليه، والشَّاهدان، والَّذي يضرب الحدَّ بين يدي الإمام))(7).

والأصل في الاشتراط هو الإمام، وإنَّما ذُكر هؤلاء تنبيهاً على سهولة اجتماع السَّبعة معه (علیه السلام) عند بسط يده.

ص: 251


1- في المصدر: (موتي).
2- مناهج الأحكام في مسائل الحلال والحرام: 28.
3- مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل: 6/10، ح6296.
4- عوالي اللَّئالي العزيزيَّة: 2/ 54، ح146، وفيه: (ولهم إمام عادل) خلافاً لما نقله في المستدرك. ومن الجدير بالذكر: أنّه قد اختُلف في اسم الكتاب فسمّاه بعضهم (غوالي اللَّئالي) بالإعجام، وبعضهم سمّاه (عوالي اللَّئالي) بالإهمال.
5- حكاه في مستدرك الوسائل: 6/ 11.
6- هذا في الطَّبعة الحجريّة، وأمَّا في الطَّبعة الحديثة ففي: 8/ 1125.
7- تهذيب الأحكام: 3/20، ح75، وفيه: (الحدود) بدل (الحدّ)، لاحظ: من لا يحضره الفقيه: 1/ 413 ح 1224 باختلافات متعدّدة يسيرة.

وهذه الرِّواية سمَّاها الحاجُّ آغا رضا [الهمدانيّ](1) وغيره(2) صحيحةً. ونقل مثلها في المستدرك(3) عن كتاب العروس للشَّيخ الفقيه جعفر بن أحمد القمّيّ.ونقل عن الدَّعائم: (تجب الجُمُعة على مَن كان منها على فرسخين إذا كان الإمام عادلاً)(4).

ولعلَّ من جملة ما يدلَّ على اعتبار الإمام ما نقله عن كتاب العروس عن الصَّادق (علیه السلام): ((لا جمعة إلَّا في مصرٍ يقام فيه الحدود))(5).

وقد عنون في المستدرك باب 5 (اشتراط وجوب الجُمُعة بحضور السُّلطان العادل)(6) إلى آخره في قبال عنوان الوسائل حيث وسَّط لفظ (العدم)(7).

وذكر في المستدرك في الباب المذكور عن الجعفريَّات(8) والدَّعائم(9) وكتاب

ص: 252


1- مصباح الفقيه: 2/ ق2/ 439.
2- لاحظ: ذخيرة المعاد (ط. ق): 1/ ق2/ 299، الحاشية على مدارك الأحكام: 3/ 145، 151، مصابيح الظلام في شرح مفاتيح الشرائع: 1/ 311، مستند الشيعة: 6/ 16.
3- مستدرك الوسائل: 6/ 11، ح6297.
4- دعائم الإسلام: 1/ 18، مستدرك الوسائل: 6/ 12، ح6302، وفيهما: (عدلاً) بدل (عادلاً).
5- مستدرك الوسائل: 6/12 ح6299.
6- المصدر نفسه: 6/ 13.
7- وسائل الشيعة: 7/ 309، وفيه: (باب عدم اشتراط وجوب الجمعة بحضور السُّلطان العادل) إلى آخره.
8- لاحظ: مستدرك الوسائل: 6/ 13، ح 1-3.
9- لاحظ: مستدرك الوسائل: 6/ 13، ح4.

العروس(1) وغيرها(2) ما يفيد عدم المشروعيَّة بدون إمام الأصل، أو الحرمة الذَّاتيَّة، ونقل ذلك وزاد عليه المرحوم الحاجُّ آغا رضا [الهمدانيّ](3)، والمرحوم الحاجُّ الشَّيخ عبد الكريم اليزديُّ، ولا بأس بنقل نصِّ ما نقله وما عقَّبه، قال: (لكن هنا أخبار أُخر تدلُّ على أنَّ صلاة الجُمُعة وإقامتها من مختصَّات الإمام (علیه السلام)، ولا تصحُّ إلَّا به أو مَن يكون نائباً عنه بالخصوص، ومن جهتها ذهب بعض العلماء إلى عدم مشروعيَّتها في زمن الغيبة، ونحن نذكر الأخبار المذكورة ثُمَّ نشير إلى الجمع بينها وبين الأخبار المصرِّحة بصحَّة إقامتها من غير الإمام أو نائبه، فنقول:

منها: الخبر المروي عن دعائم الإسلام عن عليٍّ (علیه السلام) أنَّه قال: ((لا يصلح الحكم ولا الحدود ولا الجُمُعة إلَّا للإمام أو مَن يقيمه الإمام))(4).

والمروي عن كتاب الأشعثيَّات مرسلاً: ((إنَّ الجُمُعة والحكومة لإمام المسلمين))(5).

وعن رسالة الفاضل ابن عصفور مرسلاً عنهم (علیهم السلام): ((إنَّ الجُمُعة لنا، والجماعة لشيعتنا))(6)، وكذا رُوي عنهم (علیهم السلام): ((لنا الخمس، ولنا الأنفال، ولنا الجُمُعة، ولنا صفو المال))(7).

ص: 253


1- لاحظ: مستدرك الوسائل: 6/ 13، ح5.
2- لاحظ: مستدرك الوسائل: 6/ 13، ح6.
3- مصباح الفقيه: 2/ ق2/ 438 - 439.
4- دعائم الإسلام: 1/ 182، وفيه: (إلَّا بإمام) بدل (إلَّا للإمام أو مَن يقيمه الإمام).
5- لم أعثر عليه في كتب الحديث. نعم ورد مؤدَّاه عن عليٍّ (علیه السلام) في الجعفريَّات (43)، والدَّعائم (1/182)، وعنهما في مستدرك المسائل(6/ 13، باب5، ح2و4).
6- النَّفحة القدسية في أحكام الصَّلاة اليوميَّة: 235.
7- لم أعثر عليه في كتب الحديث. نعم، ورد من دون (ولنا الجمعة) في تهذيب الأحكام (4/ 145، ح405).

والنَّبويُّ: ((أربع إلى الولاة: الفيء، والحدود، والجُمُعة، والصَّدقات))(1).

ونبويٌّ آخر: ((إنَّ الجُمُعة والحكومة لإمام المسلمين)) (2).

وفي الصَّحيفة السَّجادية في دعاء الجُمُعة وثاني العيدين: ((اللَّهم إنَّ هذا المقام لخلفائك وأصفيائك ومواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة الَّتي اختصصتهم بها قد ابتزُّوها وأنت المقدِّر لذلك)) إلى أنْ قال (علیه السلام): ((حتّى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتَزِّين، يرون حكمك مبدّلاً)) إلى أنْ قال: ((اللَّهم العن أعداءهم من الأوَّلين والآخرين، ومَن رضي بفعالهم وأشياعهم وأتباعهم)) (3).

ص: 254


1- قال الزَّيلعي في تخريج الأحاديث والآثار (4/ 25): (1349 - الحديث الثَّالث عشر: وعن النَّبيِّ (صلی الله علیه و آله) قال: أربع إلى الولاة: الفيء والصَّدقات والحدود والجمعات. قلت: غريب. ورفعه صاحب الهداية كما رفعه المصنِّف، وهو في غالب كتب الفقه موقوف على ابن عمر). وقال ابن حجر في الدِّراية في تخريج أحاديث الهداية، ج2، ص99 (657 - حديث أربعة إلى الولاة، وذكر منها: الحدود، لم أجده، وذكره ابن أبي شيبة عن الحسن: أربعة إلى السُّلطان: الصَّلاة والزَّكاة والحدود والقضاء، وعن أبي عبد الله بن محيريز: الجمعة والحدود والزَّكاة والفيء إلى السُّلطان، ومن طريق عطاء الخراساني مثله ولم يذكر الفيء.
2- تقدّم تخريجه في الصفحة السابقة، الهامش (5).
3- الصَّحيفة السَّجادية، ص237 - 238، دعاؤه في يوم الأضحى والجمعة. قال المصنِّف في هامش هذه الصَّفحة من الأصل: (صلوات الله عليك يا سيِّدي تتذمَّر في دعائك - هذا الَّذي هو بينك وبين ربِّك - من غلبة الظَّالمين وغصبهم منصبكم في صلاة الجمعة ولا تتذمَّر من قتلهم لأبيك وما فعلوه من تلك الأفاعيل الَّتي تقشعرُّ منها الجلود، فإنَّه (صلوات الله عليه) وإنْ كان أعطى السَّيف حقَّه، لكن هلمَّ الخطب فيما جرى وأجروه بعد قتله من النَّهب والسَّلب والسَّبي والأسر إلى آخر ما جرى، كلُّ ذلك لم تذكره في دعائك هذا. نعم، قد تذمَّرت من الأصل والأساس وهو غصب الجمعة الَّذي هو غصب مقامكم، ولولا ذاك لم يكُ هذا، ومن هنا يمكننا القول بأنَّ صلاة الجمعة وإنْ كانت هي من أعظم المظاهر الإسلاميَّة، وفيها ما فيها من المنافع الاجتماعيَّة للمسلمين، بل لعلَّه يمكن القول بأنَّها من هذه الجهة أقوى من الحجِّ في عالم الاجتماع والنِّظام الإسلاميِّ، ولكن مع ذلك كلِّه يمكننا القول بأنَّ المتصدِّي لها بلا أمر من وليِّ الأمر يكون داخلاً فيمَن لوَّح إليه الإمام السَّجاد (علیه السلام) في دعائه، ويكون مرتكباً لما هو الأصل والأساس في قضية الطَّف، بل في قضية فدك ونحوها ممَّا يتفرَّع من غصب مقامهم وتنحيتهم عنه والحلول محلَّهم فيه، ولا فرق في المتصدِّي بين كونه مدَّعياً لولايتهم وبين المنكر لها، كما أنَّه لا فرق بين زمان الحضور [وعدمه] {ما بين المعقوفين أدرجناه لاقتضاء السياق.}. حرَّرت ما في الهامش في شعبان 1383).

وعن الجعفريَّات، بإسناده إلى عليِّ بن الحسين (علیه السلام)، عن أبيه (علیه السلام)، أنَّ عليَّاً (علیه السلام) قال: ((لا يصحُّ الحكم ولا الحدود ولا الجُمُعة إلّا بإمامٍ))(1)، وبهذا الإسناد أنَّ عليَّاً (علیه السلام) سُئل عن الإمام يهرب ولا يخلِّف أحداً يصلِّي بالنَّاس، كيف يصلُّون الجُمُعة؟ قال (علیه السلام): ((يصلُّون كصلاتهم أربع ركعات))(2).

وعن دعائم الإسلام عن جعفر بن محمَّد (علیه السلام) أنَّه قال: ((لا جمعة إلَّا بإمام عدل تقيٍّ))(3).

وعن عليٍّ (علیه السلام) أنَّه قال: ((لا يصلح الحكم ولا الحدود إلا بإمام عدلٍ))(4).

إلى أنْ قال: (والجمع بين الأخبار بحيث لا يخفى على المنصف أنَّ وجوب(5) صلاة

ص: 255


1- الجعفريّات: 43، وفيه: (لا يصلح) بدل (لا يصحّ).
2- المصدر والموضع نفسه.
3- دعائم الإسلام: 1/ 182، وفيه: (مع إمام) بدل (بإمام).
4- المصدر نفسه، ولكن من دون لفظ: (عدل).
5- (وجوب) لم ترد في المصدر.

الجُمُعة على حسب الجعل الأوَّليّ مشروط بأنْ يقيمها النَّبيُّ (صلی الله علیه و آله) والخلفاء من بعده، فإذا دعوا إليها يجب السَّعي إليها إلَّا على مَن استثني في الأخبار، وفي زمن عدم حضورهم أو كونهم غير مبسوطي اليد يجب على النَّاس في يوم الجُمُعة صلاة أربع ركعات، وفي تلك الحالة إذا اجتمعوا للجمعة بالعدد المعتبر يصحُّ منهم الجُمُعة مع بقاء مشروعيَّة الظُّهر بإطلاق المادَّة، ونتيجته حينئذٍ التَّخيير(1) بين الظُّهر والجُمُعة)(2)، انتهى.

قلت: لكن قوله في الجعفريَّات وفي الدَّعائم: (لا يصحُّ الحكم ولا الحدود ولا الجُمُعة إلا بإمام عدل أو تقيٍّ) يمنع من صحَّة الجُمُعة، ومع الأخذ به لا يتمُّ القول بالتَّخيير، ولا يمكن القول بأنَّ المراد هو إمام الجُمُعة؛ لأنَّه قرنه بالحكم وإقامة الحدِّ الَّذي يريد أنْ يجعله من مختصَّاته (علیه السلام).

أدلَّة القول المشهور في نفي الوجوب التَّعييني لصلاة الجُمُعة

ومن جملة ما استدلَّ به المرحوم الحاجُّ آغا رضا [الهمدانيّ] (قدس سره) للمشهور من نفي تعيُّن الجُمُعة ما ثبت من سقوطها عمَّن يكون على أزيد من فرسخين من محلِّ إقامتها، باعتبار أنَّه لو كان وجوبها متعيَّناً لوجب على أولئك إقامتها عندهم.

ولا يخفى: أنَّ لنا في المقام أحكاماً ثلاثة:

الأوَّل: صحَّة الجُمُعة إذا كان بينها وبين الأخرى فرسخ، يعني: ثلاثة أميال.

الثَّاني: وجوب حضور مَن كان على رأس فرسخين.

ص: 256


1- في المصدر: (التَّخيير حينئذٍ) بدل (حينئذٍ التَّخيير).
2- كتاب الصَّلاة للشَّيخ عبد الكريم اليزديّ الحائريّ: 663 - 664.

الثَّالث: السُّقوط عمَّن كان على أزيد من ذلك.

وهذه الأحكام الثَّلاثة منصوصة، فالَّذي يدلُّ على الأوَّل، بل الثَّاني أيضاً حسنة محمَّد بن مسلم عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: ((يكون بين الجماعتين ثلاثة أميال، يعني لا تكون جمعة إلَّا فيما بينه وبين ثلاثة أميال، وليس تكون جمعة إلَّا بخطبة - قال (علیه السلام) (1)- فإذا كان بين الجماعتين [في الجُمُعة](2) ثلاثة أميال فلا بأس أنْ يجمِّع هؤلاء ويجمِّع هؤلاء))(3).

وموثَّقته أيضاً عنه (علیه السلام): ((تجب الجُمُعة على من كان منها على فرسخين، ومعنى ذلك إذا كان إمام عادل، وقال (علیه السلام): و(4) إذا كان بين الجماعتين ثلاثة أميال فلا بأس أنْ يجمِّع هؤلاء ويجمِّع هؤلاء، ولا يكون بين الجماعتين أقلُّ من ثلاثة أميال))(5).

وما يدلَّ على الثَّالث، بل الثَّاني أيضاً ما عن الفضل بن شاذان عن الرِّضا (علیه السلام): ((إنَّما وجبت الجُمُعة على من يكون على فرسخين لا أكثر من ذلك؛ لأنَّ ما يقصَّر فيه الصَّلاة بريدان ذاهباً، أو بريد ذاهباً وبريد جائياً، والبريد أربعة فراسخ، فوجبت الجُمُعة على من هو على نصف البريد الَّذي يجب فيه التَّقصير، وذلك أنَّه يجيء فرسخين ويذهب فرسخين، فذلك أربعة فراسخ، وهو نصف طريق المسافر))(6).

ص: 257


1- ما بين الشَّرطتين لم يرد في المصدر.
2- ما بين المعقوفين من المصدر.
3- تهذيب الأحكام: 3/ 23، ح79.
4- ((علیه السلام): و) لم يرد في المصدر.
5- تهذيب الأحكام: 3/ 23، ح 80.
6- انظر: علل الشَّرائع: 266، باب 182، ضمن ح9، عيون أخبار الرِّضا: 2/ 119، باب 34.

وصحيحة محمَّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الجُمُعة فقال (علیه السلام): ((تجب على مَن كان منها على [رأس](1) فرسخين، فإنْ زاد على ذلك فليس عليه شيء))(2).

وما عن زرارة [قال: قال أبو جعفر (علیه السلام) ](3): ((الجُمُعة واجبة على مَن إنْ صلَّى الغداة في أهله أدرك الجُمُعة، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) إنَّما يصلِّي العصر في وقت الظُّهر في سائر الأيام كي إذا قضوا الصَّلاة مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) رجعوا إلى رحالهم قبل اللَّيل، وذلك سنَّة إلى يوم القيامة))(4).

وليس الغرض من قوله: (أدرك الجُمُعة) ولا من قوله: (رجعوا إلى رحالهم قبل اللَّيل) هو التَّحديد بذلك على الدِّقة كي لا ينطبق على مَن كان بينه وبينها أربعة فراسخ؛ إذ لا يلزم من ذلك أنْ يكون وصوله عند إقامتها، بل الغرض أنَّه يصل ويدركها. نعم، ربّما كان سيره بطيئاً على وجه يضيق الحدُّ ما بين الغداة وبين صلاة الجُمُعة. نعم، بناءً على ذلك تكون الرِّواية مطلقةً أو مجملةً، ويتعيَّن الرُّجوع في شرحها إلى سابقتها الَّتي عيَّنت الفرسخين.

وقد استدلَّ على مذهب المشهور بالحكم الثَّاني، فإنَّه لو لم تكن تعيينيَّة الجُمُعة متوقِّفة على إقامة الإمام الأصليِّ لأمكن إقامتها بين الفرسخين، فلا يحتاجون إلى تكلُّف قطع الفرسخين.

ص: 258


1- ما بين المعقوفين من المصدر.
2- تهذيب الأحكام: 3/240، ح641.
3- ما بين المعقوفين من المصدر.
4- تهذيب الأحكام: 3/240، ح642.

وأجاب عنه باحتمال عدم تيسُّر الاجتماع أو عدم تيسُّر الإمام وإنْ كان هو إمام الجماعة، لا الأصليّ ولا نائبه الخاصّ.

كما أنَّه استدلَّ بالحكم الثَّالث وهو السَّقوط عمَّن بَعُد عنها بما يزيد على الفرسخين، وجعل الحمل على خصوص ما لم يتَّفق وجود إمام الجماعة أو ما لم يتَّفق وجود العدد من قبيل الحمل على النَّادر.

وتوضيح ذلك: أنَّه جعل الحكم الثَّاني - وهو لزوم حضور مَن كان على فرسخين - كاشفاً عن أنَّه ليس لأحدٍ عقدها وإلَّا كان لهم أنْ يعقدوها فيما زاد على الفرسخ، ولا يتكلّفوا الحضور إلى فرسخين.

وأجاب عنه بأنَّه إنَّما يلزم الحضور لو اتَّفق عدم وجود جمعة فيما قبله أو فيما بعده، فالحكم المذكور مفروض في هذه الصورة، أعني: صورة اتِّفاق عدم إقدام أحدٍ منهم على عقدها هناك فيما بينهم(1).

قلت: ولكن يبقى الكلام في الحكم الأوَّل، وهو انعقاد الجُمُعتين وبينهما فرسخ، هل يكون ذلك بنصب وتعيين من الإمام، أو أنَّه يكون باختيار المجتمعين؟ ولا يبعد الأوَّل بقرينة قوله: (وليس يكون جمعة إلَّا بخطبة) بناءً على اختصاصها بالمنصوب لذلك.

نعم، ربَّما يستبعد النَّصب على رأس كلِّ فرسخ، ويدفعه: أنَّ ذلك اتِّفاقيٌّ ولو من جهة اتِّفاق تقارب البلدتين ونحو ذلك، فإنَّ هذا - وهو جواز اجتماع الجُمُعتين بينهما فرسخ - حكم كلِّيٌّ قانونيٌّ، ولا يلزم أنْ يكون غالبيَّاً، مع أنَّه لا مانع من كونه غالبيَّاً ليكون دفعاً لكُلفة النَّاس السَّعي بمقدار فرسخين.

ص: 259


1- انظر: مصباح الفقيه: 14/ 54 - 57.

وعلى أيِّ حالٍ ليس ذلك - أعني: انعقاد الجمعتين وبينهما فرسخ - من الأمور الرَّاجعة إلينا، بل هو راجع إليه (علیه السلام) من ناحية تنصيب إمام الجماعة، إلَّا أنْ يكون المنصوب إماماً مطلقاً، بمعنى السَّيَّار ليصحَّ له عقدها أينما يحلّ.

ثُمَّ إنَّه جعل الحكم الثَّالث وهو السُّقوط عمَّن بعد عن الجُمُعة بما يزيد على الفرسخين دليلاً على عدم الانعقاد بدون نصب، ثُمَّ ذكر التَّأمُّل في ذلك، وأنَّ المنظور هو اتِّفاق عدم تيسُّر الاجتماع ولو لعدم وجود اللَّائق للإمامة، وأجاب بأنَّه نادر الوقوع(1).

لا يقال: إنَّه بعد أنْ سقطت عنه الحركة إلى ما يزيد على الفرسخين إنْ كانت أُخرى قريبةً منه ولو بفرسخين وجب عليه السَّعي إليها، فلا يكون سقوط الحركة موجباً لسقوط الصَّلاة.

لأنَّا نقول: لا يصدق على مثل هذا أنَّه بعيد عن الجُمُعة بأزيد من فرسخين، فلا بدَّ أنْ يكون المنظور إليه هو إمكان أنْ يعقدها هو وجماعته، بل يمكن أنْ يقال: إنَّا لو قلنا بأنَّها يجوز لكلِّ أحد عقدها لم يكن لنا إلَّا اشتراط عدم الاجتماع بما يقلُّ عن الفرسخ بينهما، ولا يتصوَّر البعد عن محلِّ الجُمُعة؛ إذ لا يكون لها حينئذٍ محلٌّ مخصوصٌ، فلا يتصوَّر فرض البعد بأزيد من فرسخين إلَّا نادراً بأنْ يكون في محلٍّ لا جماعة فيه معه، أو لا يكون فيهم مَن هو قابل للقدوة، فتأمَّل.

والخلاصة هي: أنَّا لو قلنا بالوجوب العينيّ على كلِّ أحدٍ يتمكَّن من إقامتها ولو بالاجتماع مع أصحابه على رأس فرسخين من محلِّه الَّذي هو فيه كان سقوط الحركة عنه

ص: 260


1- لاحظ: مصباح الفقيه: 2/ ق2/ 437.

متوقِّفاً على عدم إمكان ذلك فيما يزيد على الفرسخين من جميع أطرافه المحيطة به، بأنْ نفرضه في وسط دائرة يكون قطرها زائداً على الأربعة فراسخ، ونفرض عدم إمكان الاجتماع في جميع تلك الدَّوائر، وهو بعيد جداً في البلاد والأراضي المسكونة، وكذلك الحال في وجوب السَّعي إليها لو انعقدت على فرسخين من محلِّه، فإنَّه يتوقَّف على عدم إمكان عقدها فيما دون ذلك ممَّا هو داخل في محيط دائرته، وهو أيضاً بعيد في المسكون من البلاد والأراضي، فلا وجه لما يظهر منه (قدس سره) من تسليم النُّدرة في الأوَّل دون الثَّاني، فلاحظ.

وعلى كلِّ حال، إنَّ هذا الشَّخص الَّذي هو في وسط دائرة قطرها أربعة فراسخ أو تزيد على أربعة فراسخ يكون وجوب السَّعي عليه في الفرسخين وعدمه فيما يزيد على القول بعدم الاختصاص بإمام الأصل أو منصوبه الخاصِّ مختصَّاً بما إذا لم يكن في تمام تلك الدَّائرة منصوبٌ خاصٌّ، ولم يمكنه انعقادها في تمام تلك الدَّائرة، وهو فرض بعيد، بخلافه على القول بالاختصاص، فإنَّه لا يتوقَّف إلَّا على عدم المنصوب الخاصِّ في تمام تلك الدَّائرة، وهو لا بُعد فيه، وحينئذٍ يكون المترجَّح هو القول بالاختصاص، وفي مسألة الفرسخين يتعيَّن عليه السَّعي في الفرسخين، وفيما لو زاد على الفرسخين لا إشكال في سقوط السَّعي إلى الجُمُعة المنعقدة فيما زاد، لكن هل يتعيَّن عليه صلاة الظُّهر أو يتخيَّر بينها وبين الجُمُعة إنْ أمكنه إقامتها؟ ولا يبعد الأوَّل استناداً إلى مثل قوله (علیه السلام) في صحيحة محمَّد بن مسلم: ((فإنْ زاد على ذلك فليس عليه شيء))(1)، انتهى. ولا أقلّ من أصالة عدم المشروعيَّة.

ومن جملة ما يستدلُّ به للمشهور في قبال دعوى الوجوب التَّعيينيّ على كلِّ أحدٍ

ص: 261


1- تهذيب الأحكام: 3/240، ح641.

وعدم الاختصاص بإمام الأصل أو نائبه الخاصّ ما ورد في أهل القرى من الرِّوايات، فمنها:

ما عن حفص بن غياث عن جعفر (علیه السلام) عن أبيه (علیه السلام) قال: ((ليس على أهل القرى جمعة، ولا خروج في العيدين))(1).

وما عن طلحة بن زيد عن جعفر (علیه السلام) عن أبيه (علیه السلام) عن عليٍّ (علیه السلام) قال (علیه السلام): ((لا جمعة إلَّا في مصرٍ تقام فيه الحدود))(2).

[و](3) محمَّد بن مسلم عن أحدهما (علیه السلام) قال: سألته عن أُناس في قرية، هل يصلُّون الجُمُعة جماعة؟ قال (علیه السلام): ((يصلُّون أربعاً إذا لم يكن مَن يخطب))(4).

[و](5) الفضل بن عبد الملك، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: ((إذا كان قوم في قرية صلَّوا الجُمُعة(6) أربع ركعات، فإنْ كان لهم من يخطب بهم جمَّعوا إذا كانوا خمسة نفر، وإنَّما جعلت ركعتين لمكان الخطبتين))(7).

[و] (8) موثَّقة ابن بكير، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قوم في قريةٍ ليس لهم من

ص: 262


1- تهذيب الأحكام: 3/ 248، ح679.
2- تهذيب الأحكام: 3/ 239، ح639.
3- ما بين المعقوفين إضافة منّا يقتضيها السياق.
4- الاستبصار فيما اختُلف من الأخبار: 1/ 419، ح1613.
5- ما بين المعقوفين إضافة منّا يقتضيها السياق.
6- (الجُمُعة ) لم ترد في المصدر.
7- تهذيب الأحكام: 3/ 238، ح634.
8- ما بين المعقوفين إضافة منّا يقتضيها السياق.

يَجْمَعُ بهم، أيصلُّون الظُّهر يوم الجُمُعة في جماعةٍ؟ قال (علیه السلام): ((نعم إذا لم يخافوا))(1).

وعن قرب الإسناد مثله، إلَّا أنَّه قال: ((إذا لم يخافوا شيئاً))(2).

أقول: وبإزاء هذا الخوف ما تضمَّنته رواية زرارة - وإنْ كانت في موردٍ آخر - قال: قلت لأبي جعفر (علیه السلام): على من تجب الجُمُعة؟ قال (علیه السلام): ((على سبعة نفر من المسلمين، ولا جمعة لأقلَّ من خمسة من المسلمين، أحدهم الإمام، فإذا اجتمع سبعة ولم يخافوا أمَّهم بعضهم وخطبهم))(3)، انتهى.

قال المرحوم الحاجُّ آغا رضا [الهمدانيّ] (قدس سره) بعد أنْ بيَّن فيما سبق من الكلام على أخبار الفراسخ سهولة وجود الخطيب، أو لزوم تعلم الخطابة ومن هنا يظهر صحَّة الاستدلال للمدَّعى بالأخبار النَّافية لوجوبها على أهل القرى إمَّا مطلقاً أو مع عدم مَن يخطب، قال: (إذ المراد ب-(مَن يخطب لهم) إمَّا المنصوب لذلك من قبل الوالي فيتمُّ المطلوب، أو مطلق مَن يقوم بهذه الوظيفة، لا مطلق مَن يقدر عليه، لما أشرنا إليه من أنَّ كلَّ مَن يقدر على الصَّلاة يتمكَّن على الإتيان بأدنى ما يجزئ من الخطبتين - إلى أنْ قال: - وأوضح منها دلالةً: رواية طلحة بن زيد، وكذا الرِّواية الأولى، وحملها على التَّقيَّة حيث إنَّ ذلك مذهب العامَّة ليس بأوْلى من تنزيلهما على الغالب من عدم وجود الإمام أو نائبه الَّذي يصلِّي الجُمُعة ويقيم الحدود إلَّا في الأمصار)(4)، انتهى.

قلت: قوله (قدس سره): (فيتمُّ المطلوب) يعني: بطلان تعيُّن الجُمُعة عند عدم وجود إمام

ص: 263


1- الاستبصار فيما اختُلف من الأخبار: 1/ 417، ح1599.
2- قرب الإسناد: 169.
3- من لا يحضره الفقيه: 1/ 411، ح1120.
4- مصباح الفقيه: 14/ 57 - 58، بتصرُّف يسير.

الأصل ونائبه الخاصّ، لكن ظاهر قوله (علیه السلام): (يصلُّون أربعاً إذا لم يكن من يخطب) هو تعيُّن الأربع، أعني: الظُّهر، لا التَّخيير بينها وبين الجُمُعة الَّذي هو مسلكه، كما هو الحال لو كان المراد هو مَن يقوم بالوظيفة - أعني الخطبة - تبرُّعاً مع فرض قدرته عليها، فإنَّه يتعيَّن الظُّهر عند عدمه حتى على مسلكه الَّذي هو التَّخيير، وهكذا الحال لو كان المراد مَن يقدر على الخطابة.

والحاصل: أنَّ عدم من يخطب يلائم القول بعدم مشروعيَّة الجُمُعة لو أخذ بالمعنى الأوَّل، ويلائم القول بالتَّخيير لو أخذناه بالمعنى الثَّاني، ويلائم القول بتعيُّن الجُمُعة لو أخذناه بالمعنى الثَّالث، وحيث إنَّ الأظهر هو المعنى الأوَّل يتعيَّن القول الأوَّل، ووجه الأظهريَّة: أنَّه قد فرضه إمام جماعة، ويبعد أنْ يكون متبرِّعاً بالخطبة أو غير قادر عليها.

ويؤيِّد ذلك: أنَّه عبَّر في موثَّقة ابن بكير بقوله: (ليس لهم مَن يجمع بهم) مع فرض السُّؤال عن صلاة الظُّهر جماعة، فإنَّه لا بدَّ أنْ يكون المراد من قوله: (ليس لهم مَن يجمع بهم) مَن هو موظَّف لذلك، لا مطلق العادل الَّذي يُقتدى به في الصَّلاة العاديَّة، ومن ذلك يظهر الكلام في موثَّقة ابن بكير، حيث إنَّ قوله: (ليس لهم مَن يجمع بهم) وإنْ كان يحتمل أنْ يكون المراد به المتبرِّع أو القادر ولو من ناحية الخطبة، إلَّا أنَّ الأظهر كون المراد به هو الموظَّف.

ثُمَّ بعد هذا يقع الكلام في قوله: (أيصلُّون الظُّهر يوم الجُمُعة)، وهل المراد به الظُّهر الحقيقيَّة، ويكون المسؤول عنه هو جواز إيقاعها جماعة، ويكون الجواب ب-(نعم) إذا لم يكن في اجتماعهم خوف عليهم من السُّلطان ولو من جهة عدم سعيهم إلى الجُمُعة الَّتي هي مفقودة فيما يقرب منهم، أو أنَّ المراد بالظُّهر في جماعة هو الجُمُعة، ويكون الجواب ب-(نعم) إذا لم يخافوا واضحاً، لكنَّه لا يدلُّ على التَّعيُّن؛ لجواز كون المسؤول عنه أصل

ص: 264

الجواز، كما أنَّها على الوجه الأوَّل لا تدلُّ على تعيُّن الظُّهر؛ لجواز كون السُّؤال عن جواز الاجتماع في الظُّهر بعد سقوط تعيُّن الجُمُعة، سواءً كان ذلك موجباً لتعيُّن الظُّهر أو كونه واجباً تخييريَّاً.

ولكن لا يخفى أنَّا بعد أنْ استظهرنا من الظُّهر معناها الأصليّ، وأنَّ المراد ممَّن يجمع الموظَّف - كما صنعه المرحوم الحاجُّ آغا رضا [الهمدانيّ](1) - يكون الظَّاهر من السُّؤال أنَّ السَّائل قد فهم سقوط الجُمُعة وتعيُّن الظُّهر، وإنَّما يسأل عن جواز الاجتماع فيها، فتكون الرِّواية دالَّة على عدم مشروعيَّة الجُمُعة خلافاً لمسلكه (قدس سره) من الوجوب التَّخييريِّ، ويمكن القول بأنَّ الجُمُعة لو بقيت على التَّعيُّن أو كانت هي أحد فردي التَّخيير لكان على الإمام أنْ يعرَّفه بذلك.

قال الحاجُّ آغا رضا [الهمدانيّ]: (وعلى تقدير إرادة هذا الاحتمال تصير هذه الرِّواية من أدلَّة القول بجواز إقامتها بغير المنصوب، لا الوجوب)(2).

ص: 265


1- مصباح الفقيه: 14/ 57.
2- مصباح الفقيه: 14/ 59. نقل المصنِّف في صفحة مستقلِّة كلام المحقِّق الهمدانيّ حول موثَّقة ابن بكير، فرأينا من المناسب إيراده في هذا الموضع، قال: ( قال المرحوم الحاجُّ آغا رضا [الهمدانيّ] في الكلام على موثَّقة ابن بكير: وسوق السُّؤال يشهد بمعروفيَّة اختصاص الجمعة بإمامٍ خاصٍّ، وأنَّه لا جمعة بدونه، فسئل عن أنَّه هل يجوز لهم أنْ يصلُّوا الظُّهر في جماعة؟ بعد المفروغيَّة عن أنَّه لا جمعة عليهم، فهي كالنصِّ في المدَّعى. واحتمال أنْ يكون مقصوده بقوله: (أيصلُّون الظُّهر يوم الجمعة في جماعة؟) صلاة الجمعة، بأنْ يكون غرضه السُّؤال عن أنَّه إذا لم يكن لهم إمام منصوب هل يجوز لهم عقدها بأنْفسهم بأنْ يؤمّهم بعضٌ منهم، بعيد. وليس تعليق الرُّخصة على عدم الخوف من مؤيِّدات هذا الاحتمال المخالف للظَّاهر؛ إذ كما أنَّ عقد الجمعة بغير إمام منصوب من قبل السَّلاطين كان معرضاً للخوف، كذلك عقد الجماعة للظُّهر في القرى القريبة من مصرٍ تقام فيه الجمعة. وعلى تقدير إرادة هذا الاحتمال تصير هذه الرِّواية من أدلَّة القول بجواز إقامتها بغير المنصوب، لا الوجوب). [مصباح الفقيه: 14/ 58 - 59].

قلت: هذا إنْ حُمل السُّؤال عن الجواز.

والأوْلى أنْ يقال: إنَّ هذه الموثَّقة لا يمكن استظهار شيءٍ منها، فلا تصلح دليلاً للقول بالتَّعيين، ولا للقول بالتَّخيير، ولا للقول بعدم المشروعيَّة.

وأمَّا الكلام في أُوليي الرِّوايات - أعني: رواية حفص ورواية طلحة - فيحتمل فيهما التَّقيَّة، ويحتمل فيهما السُّقوط لعدم وجود الموظَّف هناك، ويحتمل السُّقوط لعدم مَن له أهليَّة الإمامة أو الخطابة، والأخير بعيد كبعد الأوَّل فيتعيَّن الثَّاني - وهو عدم وجود الموظَّف - بقرينة قوله: (إلَّا في مصرٍ تقام فيه الحدود) يعني: أنَّ الموظَّف إنَّما يوجد في الأمصار دون القرى، فتسقط الجُمُعة عن أهل القرى؛ لعدم وجود الموظَّف فيها، والظَّاهر من نفي الجُمُعة في قوله: (لا جمعة) هو نفيها بتاتاً، فيدلُّ على عدم المشروعيَّة، فيسقط القول بالتَّخيير كسقوط القول بالتَّعيين.

والأوْلى أنْ يقال: إنَّهما لا بدَّ من تقييدهما بما يستفاد من رواية ابن مسلم ورواية الفضل بعدم وجود مَن يخطب بأيِّ معنى أخذناه، ويكون التَّقييد المذكور هو المتعيّن لصناعة الإطلاق والتَّقييد؛ لسقوط الأصل الجهتيّ وتأخُّره عن الأصل المراديّ، وللعلم بسقوط الإطلاق إمَّا تقيَّةً أو تقييداً، ولقرينة التَّعليل المستفاد من التَّوصيف في قوله: (إلَّا في مصرٍ تقام فيه الحدود).

وعلى أيِّ حال تكون النَّتيجة هي: أنَّه لا جمعة عند عدم وجود مَن يخطب، وبعد تفسيره بالموظَّف لذلك يكون قوله: (لا جمعة) ظاهراً في نفي الصّحَّة، لا أنَّه لمجرَّد نفي تعيُّنها، كما هو مسلك القائلين بالتَّخيير، ومنهم المرحوم الحاجُّ آغا رضا [الهمدانيّ] (قدس سره).

ص: 266

ومن جملة ما استُدلَّ به لردِّ القول بالتَّعيين رواية العلل والعيون وموثَّقة سماعة، قال المرحوم الحاجُّ آغا رضا [الهمدانيّ] (قدس سره): (وممَّا يدلُّ عليه أيضاً الرِّوايات الدَّالَّة على أنَّ الصَّلاة ركعتين إنَّما هو فيما إذا كانت مع الإمام، الظَّاهرة أو الصَّريحة في إرادة مَن بيده الأمر [من الإمام](1)، لا ما يعمُّ إمام الجماعة، مثل: ما عن الصَّدوق في كتاب عيون الأخبار والعلل بإسناده، عن الفضل بن شاذان، عن الرِّضا (علیه السلام) قال: ((فإنْ قال قائل: فلِمَ صارت صلاة الجُمُعة إذا كانت مع الإمام ركعتين، وإذا كانت بغير إمامٍ ركعتين وركعتين؟

قيل: لعللٍ شتَّى، منها: أنَّ النَّاس يتخطّون إلى الجُمُعة من بُعد، فأحبَّ الله عزَّ وجلَّ أنْ يخفِّف عنهم لموضع التَّعب الَّذي صاروا إليه، ومنها: أنَّ الإمام يحبسهم للخطبة وهم منتظرون للصَّلاة، ومَن انتظر الصَّلاة فهو في الصَّلاة في حكم التَّمام، ومنها: أنَّ الصَّلاة مع الإمام أتمُّ وأكمل؛ لعلمه وفقهه وعدله وفضله، ومنها: أنَّ الجُمُعة عيد، وصلاة العيد ركعتان ولم تقصر لمكان الخطبتين.

فإنْ قال: فلِمَ جعل الخطبة؟ قيل: لأنَّ الجُمُعة مشهدٌ عامٌّ، فأراد أنْ يكون للأمير - كما عن العلل(2) - [و](3) للإمام - كما عن العيون - سببٌ إلى موعظتهم، وترغيبهم في الطَّاعة، وترهيبهم من المعصية، وتوقيفهم على ما أراد من مصلحة دينهم ودنياهم، ويخبر[هم](4) بما ورد عليهم من الآفاق من الأهوال الَّتي لهم فيها المضرَّة والمنفعة، ولا

ص: 267


1- ما بين المعقوفين من المصدر.
2- في العلل: (للإمام).
3- ما بين المعقوفين من المصدر.
4- ما بين المعقوفين من المصدر.

يكون الصَّائر في الصَّلاة منفصلاً وليس بفاعل غيره ممَّن يؤمُّ النَّاس في غير يوم الجُمُعة.

فإنْ قال: فلِمَ جعل الخطبتين؟ قيل: لأنْ تكون واحدة للثناء على الله والتَّمجيد والتَّقديس لله عزَّ وجلَّ، والأخرى للحوائج، والإعذار، والإنذار، والدُّعاء، وما يريد أنْ يعلَّمهم من أمره ونهيه، وما فيه الصَّلاح والفساد))(1).

في الوسائل قال: (قوله: وليس بفاعل غيره، غير موجود في عيون الأخبار)(2).

أقول: وهو لا ينافي ظهور الخبر، بل صراحته - بعد التَّدبُّر في مجموع فقراتها - في أنَّ المقصود بالإمام فيه من له الأمر والنَّهي، لا مطلق مَن يؤمُّ النَّاس في سائر الأيَّام، كما لا يخفى على المتدبِّر)(3).

قلت: مع أنَّ عدم وجود الجملة المذكورة في العيون لا ينافي وجودها في العلل، لكن كما تكون الرِّواية ردَّاً على مَن يقول بالتَّعيين وعدم الاشتراط بوجود الإمام أو نائبه، فكذلك تدلُّ على عدم قصرها عند عدمه.

وصدر الرِّواية - أعني: قوله (علیه السلام): (فإنْ قال قائل: فلِمَ صارت صلاة الجُمُعة إذا كانت مع الإمام ركعتين وإذا كانت بغير الإمام ركعتين وركعتين) - ظاهر في عدم قصرها إذا كانت بغير إمام، وأما بقيَّة الرِّواية فإنَّما ذكر لأجل الاستدلال به على أنَّ المراد من الإمام منها من له الأمر، لا من يعمُّ إمام الجماعة.

ومن تلك الأخبار: موثَّقة سماعة، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الصَّلاة يوم

ص: 268


1- علل الشرائع: 1/ 265، عيون أخبار الرِّضا: 2/ 118، باب 34، ح1.
2- وسائل الشيعة: 7/ 344.
3- مصباح الفقيه: 14/ 59 - 60.

الجُمُعة، فقال (علیه السلام): ((أمَّا مع الإمام فركعتان، وأمَّا [لمَن](1) صلَّى وحده فهي أربع ركعات وإنْ صلَّوا جماعة))(2)

قال في الفقيه: وروى سماعة عنه - يعني الصَّادق - أنَّه قال: ((صلاة [يوم](3) الجُمُعة مع الإمام ركعتان، فمَن صلَّى وحده فهي أربع ركعات))(4)، انتهى. وليس فيها: (وإنْ صلَّوا جماعة).

نعم، قال في الكافي: (محمَّد بن يحيى) وساق السَّند، والحديث كما في الوسائل إلى قوله: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الصَّلاة يوم الجُمُعة) إلى قوله: (وإنْ صلَّوا جماعة)(5).

[وفي] موثَّقته الأخرى، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الصَّلاة يوم الجُمُعة، فقال (علیه السلام): ((أمَّا مع الإمام فركعتان، وأمَّا مَن صلَّى وحده فهي أربع ركعات بمنزلة الظُّهر، يعني: إذا كان إمام يخطب، فإنْ لم يكن إمام يخطب فهي أربع ركعات وإنْ صلَّوا جماعة))(6).

الظَّاهر أنَّ هذا التَّفسير من الرَّاوي، وظنَّ صاحب الوسائل(7) والوافي(8) أنَّ المراد

ص: 269


1- في المصدر: (مَن).
2- وسائل الشيعة: 7/ 314، ح9445.
3- ما بين المعقوفين من المصدر.
4- من لا يحضره الفقيه: 1/ 417، ح1232.
5- الكافي: 3/ 422، ح64.
6- تهذيب الأحكام: 3/ 19، ح70.
7- لم أعثر عليه في مظانِّه.
8- الوافي: 8/ 1122.

من قوله (يخطب) هو مَن يقدر على الخطبة، ليكون الحاصل هو أنَّهم وإنْ كانوا مع إمام في الصُّورتين إلَّا أنَّ إمامهم إنْ كان يقدر على الخطبة صلَّوها جمعة ركعتين، وإنْ كان لم يقدر على الخطبة صلَّوها ظهراً أربع ركعات.

وفيه: أنَّ قوله (علیه السلام): (وحده) في قبال قوله: (مع الإمام) هو المنشأ في جعلها ركعتين أو أربع ركعات، ولا تصحُّ هذه المقابلة، ولا يصحُّ انطباق قوله: (وإنْ صلَّوا جماعة) على مَن صلَّى وحده إلَّا إذا كان المراد من (وحده) هو الخلوّ عن إمام الأصل أو نائبه الخاصِّ وإنْ كانوا جماعة كثيرة العدد وقد ائتمّوا ببعضهم، ولعلَّه إليه الإيماء في قوله في رواية عمر بن حنظلة في القنوت يوم الجُمُعة: ((إذا صلَّيتم في جماعة ففي الرَّكعة الأولى، وإذا صلَّيتم وحداناً ففي الرَّكعة الثَّانية))(1)، وهذا هو المراد للرَّاوي بقوله: (ويعني: إذا كان إمام يخطب) إلى آخره، فإنَّ مراده ب-(يخطب) هو الموظَّف المنصوب للخطبة والصَّلاة، كما عرفت في أخبار القرية.

وبناءً على ذلك تكون الرِّوايتان كرواية العلل والعيون دليلاً على لزوم الأربع وعدم مشروعيَّة الجُمُعة مع عدم قيام إمام الأصل أو نائبه الخاصِّ بها، كما تدلُّ على عدم وجوبها التَّعيينيّ، فلاحظ.

ومن ذلك كلِّه يتَّضح لك المراد فيما نقله في الوافي(2) عن الفقيه(3) قال: قال أبو جعفر (علیه السلام): ((إنَّما وضعت الرَّكعتان اللَّتان أضافهما النَّبيُّ (صلی الله علیه و آله) يوم الجُمُعة للمقيم لمكان الخطبتين مع الإمام، فمَن صلَّى بقوم يوم الجُمُعة في غير جماعةٍ فليصلِّها أربعاً كصلاة

ص: 270


1- تهذيب الأحكام: 3/ 16، ح57.
2- الوافي: 7/ 35، ح5424، و8/ 1121، ح7863.
3- من لا يحضره الفقيه: 1/ 195، ح600.

الظُّهر في سائر الأيَّام)).

قال في الوافي: (بيان: أريد بالجماعة صلاة الجُمُعة مع الخطبة، ولها نظائر في أخبار هذا الباب)(1).

قلت: وحينئذٍ يكون حالها حال ما تقدَّم من الدَّلالة على تعيُّن الأربع مع عدم الإمام أو نائبه الخاصِّ وإنْ صلَّوها جماعةً، يعني قد اقتدوا ببعضهم.

والَّذي تلخَّص لك: أنَّ هذه الطَّوائف، أعني:

ما تقدَّم من الأخبار الدَّالَّة على أنَّ صلاة الجُمُعة من حقِّه (علیه السلام)، وأنَّها لا تصحُّ بدونه، وهي كثيرة.

وما تقدَّم من أخبار الفرسخ والفرسخين وما يزيد على الفرسخين.

وما تقدَّم ممَّا ورد في أهل القرى.

وما تقدَّم من أنَّها مع الإمام ركعتان وبدونه أربع ركعا.

هذه الطَّوائف كلّها تدلُّ على نفي الوجوب التَّعيينيّ وعلى نفي الوجوب التَّخييريّ أيضاً، مضافاً إلى ما تقدَّم من الدَّليل العقليّ على عدم التَّكليف بالاجتماع فيها، سواء كان تعيينيَّاً أو كان تخييريَّاً.

ومع ذلك كلِّه فقد استدلُّوا بأخبارٍ واردة في مورد عدم بسط يد الإمام (علیه السلام) زعموا دلالتها على الوجوب التَّخييريّ واستحبابها، بمعنى كونها أفضل فردي التَّخيير، فمن تلك الأخبار:

ما عن زرارة، قال: قلت لأبي جعفر (علیه السلام) على مَن تجب الجُمُعة؟ قال (علیه السلام): (([تجب](2)

ص: 271


1- الوافي: 8/ 1121.
2- ما بين المعقوفين من المصدر.

على سبعة نفرٍ من المسلمين، ولا جمعة لأقلَّ من خمسةٍ من المسلمين، أحدهم الإمام، فإذا اجتمع سبعة ولم يخافوا أمَّهم بعضهم وخطبهم))(1).

وعن زرارة أيضاً، قال: حثَّنا أبو عبد الله (علیه السلام) على صلاة الجُمُعة حتَّى ظننت أنَّه يريد أنْ نأتيه، فقلت: نغدوا عليك؟ فقال (علیه السلام): ((لا، إنَّما عنيت عندكم))(2).

لكنَّه لم يظهر من زرارة أنَّه عمل بذلك الحثِّ مع قرب العهد، كما يستفاد من قوله: (نغدوا عليك).

[و](3) ما عن الصَّدوق في أماليه في الصَّحيح عن الصَّادق (علیه السلام)، قال: ((أُحبُّ للمؤمن أنْ لا يخرج من الدُّنيا حتَّى يتمتَّع ولو مرَّةً، ويصلِّي الجُمُعة ولو مرَّةً))(4)، ورواها أيضاً الشَّيخ في مصباح المتهجِّد بسنده إلى ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن

الصَّادق (علیه السلام)، ولكنَّه قال: ((وأنْ يصلِّي الجُمُعة في جماعة))(5).

[و](6) رواية زرارة، عن عبد الملك، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال (علیه السلام): ((مثلك يهلك(7) ولم يصلِّ فريضةً فرضها الله تعالى))، قال: قلت كيف أصنع؟ قال: ((صلُّوا جماعةً، يعني

ص: 272


1- من لا يحضره الفقيه: 1/ 411، ح1220.
2- تهذيب الأحكام: 3/ 238، ح635.
3- ما بين المعقوفين إضافة منّا يقتضيها السياق.
4- لم نعثر عليه في أمالي الصَّدوق، لكن نقل عنه في الوافي: 8/ 1115.
5- مصباح المتهجِّد: 364، وفيه: ((إنَّي لأُحبُّ للرجل أنْ لا يخرج من الدُّنيا حتَّى يتمتَّع ولو مرَّةً واحدةً، وأنْ يصلِّي الجمعة في جماعة)).
6- ما بين المعقوفين إضافة منّا يقتضيها السياق.
7- قد ورد في المخطوط فوق كلمة (يهلك): (يعني يموت).

صلاة الجُمُعة))(1).

قلت: وكأنَّها تومئ إلى رواية الصَّدوق الَّذي جعلها مثل المتعة.

[و](2) عمر بن حنظلة، قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): القنوت يوم الجُمُعة؟

فقال (علیه السلام): ((أنت رسولي إليهم في هذا، إذا صلَّيتم في جماعةٍ ففي الرَّكعة الأولى، وإذا صلَّيتم وحداناً ففي الرَّكعة الثَّانية))(3).

قلت: وكأنَّ الوحدان هنا هو المذكور في موثَّقة سماعة من قوله (علیه السلام) (وأمَّا مَن صلَّى وحده)، وكان (الجماعة) هنا هي المراد بها فيما تقدَّم عن الفقيه من قوله (علیه السلام): ( فمَن صلَّى بقوم يوم الجُمُعة في غير جماعة، يعني صلاة الجُمُعة) كما تقدَّم فيما بيَّنه صاحب الوافي بقوله: (وله نظائر في أخبار هذا الباب)، انتهى.

وأنت بعد اطِّلاعك على هذه الأخبار دعْ عنك ما ذكرناه من حكم العقل بامتناع كلٍّ [من](4) الوجوب التَّعيينيّ والتَّخييريّ، وقابل بين هذه الأخبار وبين تلك الطَّوائف، الدَّالّ كلّ طائفةٍ منها على نفي المشروعيَّة، ونفي الوجوب التَّعيينيّ والتَّخييريّ فترى التَّعارض بينهما تعارض التَّباين، وحينئذٍ لا تجد من نفسك بحسب ما عرفت في باب التَّراجيح إلَّا تقديم تلك الطَّوائف الدالَّة على عدم المشروعيَّة، وحينئذٍ تكون في غنىً عن أصالة عدم المشروعيَّة، ولو تساهلت في ذلك فلا أقلَّ من التَّساوي والتَّساقط، والرُّجوع إلى ما تقدَّم ذكره من الأصول.

ص: 273


1- الاستبصار فيما اختُلف من الأخبار: 1/ 420، ح1616.
2- ما بين المعقوفين إضافة منّا يقتضيها السياق.
3- تهذيب الأحكام: 3/ 16، ح57.
4- ما بين المعقوفين إضافة منّا يقتضيها السياق.

لا يقال: بعد التَّساقط يكون المرجع هو المطلقات السَّابقة، أو يقال: إنَّ الرِّوايات الأربع مقدَّمةٌ على تلك الطَّوائف؛ لأنَّها موافقةٌ للسُّنَّة الَّتي هي المطلقات.

لأنَّا نقول: إنَّ تلك الطَّوائف الأربع يستفاد منها حكمان:

الأوَّل: هو عدم تعيُّن الجُمُعة في زمان الغيبة.

والثَّاني: هو عدم مشروعيَّتها.

والأخبار الأربعة إنَّما تدلُّ على وجوب الجُمُعة تخييراً أو على استحبابها، فلا تكون معارضة للحكم الأوَّل الَّذي أفادته الطَّوائف الأربع، وإنَّما تعارض الحكم الثَّاني الَّذي أفادته الطَّوائف المذكورة، وهو عدم مشروعيَّة الجُمُعة، وبعد التَّساقط لا يمكن الرُّجوع إلى الأخبار المطلقة؛ لأنَّها قد تقيَّدت بالحكم الأوَّل الَّذي أفادته الطَّوائف الأربع.

ولو أنكرنا تعدُّد الحكم والدَّلالة في الطَّوائف الأربع وقلنا: إنَّ مفادها حكم واحد، وهو: تعيُّن الظُّهر، فإنْ قدَّمناها على الأخبار الأربعة الدَّالَّة على وجوب الجُمُعة تخييراً فهو المطلوب، ولو لم نقل بذلك وقلنا بالتَّساقط لم يمكن الرُّجوع إلى المطلقات القائلة بتعيُّن الجُمُعة؛ لاتفاقها على نفيه، فإنَّ الأخبار الأربعة بواسطة دلالتها على الوجوب التَّخييريّ بين الجُمُعة والظُّهر تنفي تعيُّن الجُمُعة، وكذلك الطَّوائف الأربعة؛ فإنَّها بواسطة دلالتها على تعيُّن الظُّهر تنفي تعيُّن الجُمُعة، وحينئذٍ تكون المطلقات ساقطة؛ لاشتراكهما في نفي مفاد تلك المطلقات، فتدخل المسألة في اتِّفاق المتعارضين في الدَّلالة الالتزاميَّة على نفي الثَّالث.

ولو قلنا بدلالة بعض الأخبار الأربعة، مثل قوله (علیه السلام): (أمَّهم بعضهم) إلى آخره على تعيُّن الجُمُعة لكانت معارضة للحكم الأوَّل الَّذي أفادته الطَّوائف الأربعة، فلو تساهلنا وقلنا بعدم تقدَّم ما أفادته الطَّوائف من الحكم الأوَّل، بل قلنا بالتَّساقط لم يمكن

ص: 274

الرُّجوع إلى المطلقات لتقييدها بالحكم الثَّاني الَّذي أفادته تلك الطَّوائف.

نعم، لو كان طرف المعارضة للرِّواية المذكورة هو تمام ما يستفاد من الطَّوائف الأربعة من مجموع الحكمين، إمَّا من جهة أنَّ قوله (علیه السلام): (أمَّهم بعضهم) في دلالته على تعيُّن الجُمُعة يكون معارضاً لكلا الحكمين المستفادين من الطَّوائف الأربعة، أعني: عدم تعيُّن الجُمُعة وعدم مشروعيَّتها، وإمَّا من جهة أنَّ المستفاد من مجموع الطَّوائف الأربعة حكم واحد، وهو تعيُّن الظُّهر ليكون حاصل الطَّوائف الأربعة هو تعيُّن الظُّهر، وحاصل قوله (علیه السلام): (أمَّهم بعضهم) هو تعيُّن الجُمُعة، كان المرجع بعد التَّساقط هو الأخبار المطلقة، لكن قد عرفت المنع من التَّكافؤ، وأنَّ المقدَّم هو الطَّوائف الأربع.

وهذا الإشكال إنَّما يجري في خصوص مثل قوله (علیه السلام): (أمَّهم بعضهم) بتوهُّم استفادة تعيُّن الجُمُعة منه، أمَّا باقي الرِّوايات الأربع فلا يجري فيها هذا التَّوهم؛ إذ لو تمَّت حجِّيَّتها ودلالتها لم يكن يستفاد منها إلَّا الاستحباب والوجوب التَّخييريّ حتَّى روايتي زرارة وعبد الملك.

وعلى كلِّ حالٍ، إنَّ الَّذي ينبغي هو التَّعرض لكلِّ واحدةٍ من تلك الرِّوايات الأربع، ولمقدار دلالتها، وما يكون موقفها من الطَّوائف الأربع، فنقول بعونه تعالى:

أمَّا رواية زرارة المتضمِّنة لقوله: (حثَّنا أبو عبد الله (علیه السلام)) فالَّذي يظهر من قوله (علیه السلام): (إنَّما عنيت عندكم) أنَّه إجازة خاصَّة له ولأصحابه في إقامتها في بلادهم ولو على نحو الوجوب التَّخييريّ الاستحبابيّ الَّذي يكشف عنه أنَّه لم ينقل أنَّهم أقاموها، لا قبل هذه الإجازة ولا بعدها، وإذا فتحنا هذا الباب في هذه الرِّواية أمكننا فتحه في رواية عبد الملك، بل في غيرها من باقي الرِّوايات الأربع.

وتوضيح ذلك هو: أنَّه قد نقل المحقِّق القمِّيُّ (قدس سره) عن العلَّامة في النِّهاية أنَّه بعد نقل

ص: 275

الإجماع على اشتراط الإذن قال: (هذا في حال حضوره، أمَّا في حال الغيبة فالأقوى أنَّه يجوز لفقهاء المؤمنين إقامتها؛ لقول زرارة: (حثَّنا أبو عبد الله)، الحديث، وقول الباقر لعبد الملك: (مثلك يهلك)، الحديث. ومنع جماعة من أصحابنا؛ وذلك لفقد الشَّرط، والباقر والصَّادق (علیهما السلام) لمَّا أذنا لزرارة وعبد الملك جاز؛ لوجود المقتضي، وهو إذن الإمام (علیه السلام))(1)، انتهى.

وإنَّما نقلت ذلك لئلا يكون هذا الَّذي ذكرته من حمل الرِّواية المذكورة على هذا المعنى - أعني: الإجازة الخاصَّة - مستبشعاً.

وغرضه (قدس سره) من ذلك هو الإذن الخاصَّة لزرارة، فيدخل في النَّائب الخاصّ وليس ذلك الصَّادر منه (علیه السلام) من قبيل الحكم الكلِّيّ، فهو نظير ما لو سُئل عن مجهول المالك، فقال: (تصرَّفْ فيه) في كونه إجازة خاصَّة، لا حكماً كلِّيَّاً.

ومن ذلك يظهر لك: التَّأمُّل فيما أفاده في الجواهر بقوله: (وأظرف شيءٍ دعوى احتمال خبري زرارة وعبد الملك الإذن لهما بالخصوص في إمامة الجُمُعة مع عدم الإشعار فيهما بشيء من ذلك، بل ظاهرهما خلاف ذلك)(2)، انتهى، فلاحظ تمام كلامه.

وعلى كلٍّ، لا بُعد في ذلك الَّذي أشار إليه العلَّامة (قدس سره)، بل لا بُعد في حمل جميع ما صدر عنهم (علیهم السلام) على الإجازة الخاصَّة والقضيَّة الخارجيَّة، كما ستعرفه إنْ شاء الله تعالى، ومنه يظهر لك: التَّأمُّل فيما أفاده في الجواهر في ذيل عبارته المذكورة بقوله: (كدعوى) إلى آخره.

ثُمَّ إنَّ الإذن الخاصَّ لزرارة (تارةً) يكون عبارة عن نصبه لإقامة الجُمُعة، فيكون

ص: 276


1- مناهج الأحكام في مسائل الحلال والحرام: 36، نهاية الإحكام في معرفة الأحكام: 2/ 14.
2- جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: 11/ 187.

هو الخطيب والإمام والسَّائق للنَّاس إلى الاجتماع والائتمام، و(تارةً) يكون عبارة عن كونه منصوباً للتَّصدِّي لحصول إقامتها ولو بأنْ تكون وظيفته جمع النَّاس وتعيين الخطيب والإمام منهم، ويكون هو - أعني: زرارة هو - الآمر له بالخطبة والتَّقدم في الصَّلاة، وهو أيضاً الآمر للنَّاس بحضور خطبته والاقتداء به في صلاته، كلُّ ذلك تخلُّصاً عن كون النَّاس هم المأمورين بالاجتماع في الصلاة الَّذي تقدَّم فيه الإشكال العقليّ، وكلُّ هذا الَّذي ذكرناه في رواية زرارة المتضمِّنة لقوله: (حثَّنا) جارٍ بلا تفاوتٍ في رواية عبد الملك المتضمِّنة لقوله (علیه السلام): (مثلك يهلك) إلى آخره، أمَّا حمل هاتين الرِّوايتين على الحضور في جماعة المخالفين، فبعيدٌ جدَّاً.

ويمكن أنْ ينزَّل على ذلك رواية الصَّدوق في الأمالي من قوله (علیه السلام): (أُحبُّ للمؤمن أنْ لا يخرج من الدُّنيا حتَّى يتمتَّع ولو مرَّةً ويصلِّي الجُمُعة ولو مرَّةً)، وتكون موافقةً لصدر رواية عبد الملك، غايته أنَّ عبد الملك أبدى حيرته في الحصول على صلاة الجُمُعة، فإنَّها مع هؤلاء باطلة، ومع مَن يكون منَّا متوقِّفة على النَّصب، فالإمام (علیه السلام) فتح له باب الحيرة. ونصبه نظير قولك لمَن هو غير مستطيع: (مثلك يترك الحجَّ) فيقول: (لا أستطيع)، فتقول: (خذ هذا المال وحجَّ به) فتفتح له باب الحجِّ، ويكون غرضك من عتابه على ترك الحجِّ هو التَّوصُّل به إلى هذه الغاية، أعني فتح باب الاستطاعة له، غايته أنَّ هذا التَّعقيب حصل من المخاطب في رواية عبد الملك، لكنَّه لم يحصل من المخاطب في رواية الصَّدوق، فتركه الإمام (علیه السلام).

بل يمكن أنْ ينزَّل عليه رواية عمر بن حنظلة عن الصَّادق (علیه السلام) المتضمِّنة لقوله (علیه السلام): (أنت رسولي إليهم في هذا)، فإنَّا لو أغضينا النَّظر عن أنَّ قوله (علیه السلام): (إذا صلَّيتم في

ص: 277

جماعةٍ ففي الرَّكعة الأولى) لا يدلُّ على مشروعيَّة كلِّ جمعة لهم، بل أقصى [ما](1) فيه هو: أنَّ القنوت في الجُمُعة يكون في الرَّكعة الأولى منها، أمَّا إحراز مشروعيَّتها موكول إلى أدلَّة أخرى.

نقول: لو أغضينا النَّظر عن ذلك أمكننا تنزيلها على الإجازة الخاصَّة، فكأنَّه (علیه السلام) كان قد صدرت هذه الجملة منه بعد صدور إذن خاصٍّ لهم، ويكون الضَّمير في قوله: (أنت رسولي اليهم) راجعاً إلى جماعة يكونون هم محلَّ السُّؤال، أمَّا حمل رواية ابن حنظلة على الصَّلاة في جماعة المخالفين فبعيد جدّاً، بل المتعيَّن هو ما ذكرناه من عدم التَّعرُّض لمشروعيَّة الجُمُعة أو جعلها من قبيل الإذن الخاصّ.

لكنَّ صاحب الجواهر (قدس سره) أشار إلى الرِّوايات الواردة عنهم (علیهم السلام) حال قصور أيديهم في كيفيَّة الخطبة، والقنوت، والصَّلاة، والعدد، والقراءة، والمزاحمة، وإدراك الرَّكعة، وإدراك التَّشهُّد، وكيفيَّة القنوت، خصوصاً خبر عمر بن حنظلة منها وذكره، ثُمَّ أفاد ما حاصله: (أنَّ المراد منها بيان ذلك للرّواة وتعليمهم حال التَّمكُّن من فعلها مع عدم التَّقيَّة، ومع فرض الحرمة في زمن الغيبة الَّذي منه قصور اليد تكون النُّصوص خاليةً من الثَّمرة المعتدِّ بها، بل ربَّما كان تركها حينئذٍ أوْلى من وجودها، خصوصاً المشتمل منها على ما ينافي التَّقيَّة كخبر الخطبة والقنوت وغيرهما، ولولا خوف الملل بالإطناب لذكرناها مفصَّلةً، وسيمرُّ عليك في أثناء مباحث الباب جملةً وافرةً منها، وذكر بعض الاحتمالات في بعضها لا ينافي الظُّهور، كما أنَّه لا ينافي القطع الحاصل بملاحظتها تماماً)(2) إلى آخر ما أفاده (قدس سره).

ص: 278


1- ما بين المعقوفين إضافة منّا يقتضيها السَّياق.
2- جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: 11/ 185- 186.

أقول: أمَّا دعوى القطع، فذلك خارج عن الاستدلال.

وأمَّا دعوى الظُّهور فهو أوَّل الكلام، كما عرفته في خبر ابن حنظلة، وقِسْ عليه الكلام في غيره، وأغلبها أجوبة لسؤال السَّائلين ولا بدَّ له (علیه السلام) من الجواب، ولعلَّه لا يمكنه الجواب بأنَّه لا فائدة لك في هذا السُّؤال لأنّها غير مشروعة في حقِّك؛ لأنَّ يدي غير مبسوطة في إقامتها ونحو ذلك من الأجوبة.

وبالجملة: إنَّ المقامات مختلفة، ومع انسداد جميع الطُّرق ينفتح باب المعارضة للطَّوائف الأربعة، وهي المقدِّمة، فلاحظ وتأمَّل.

ولا يشكل على هذه الطَّريقة بأنَّه بعد الإذن الخاصَّ تكون إقامة الجُمُعة واجبةً عيناً؛ لإمكان الجواب عنه بأنَّه لم يكن إلَّا على نحو الاستحباب وأفضل الأفراد، كما هو ظاهر الرِّوايات المذكورة صدراً وذيلاً من قوله: (حثَّنا)، وقوله: (مثلك يهلك ولا يصلِّي الجُمُعة)، ومثل قوله: (ولو مرَّةً واحدةً).

بل يمكن أنْ ينزَّل على ذلك ما أمر به الباقر (علیه السلام) لزرارة في روايته الأُخرى ولو بأنْ يكون صدر الرِّواية وهو قوله (علیه السلام): (ولا جمعة لأقلَّ من خمسة، أحدهم الإمام) حكماً كلِّيَّاً، ويكون المراد من الإمام فيه هو إمام الأصل أو نائبه الخاصّ، لكن يكون المراد من قوله (علیه السلام): (فإذا اجتمع سبعة ولم يخافوا أمَّهم بعضهم وخطبهم) قضيَّة خارجيَّة، والمنظور بها هم الشِّيعة في ذلك العصر، ويكون ذلك منه (علیه السلام) إذناً خاصَّاً بهم بأنْ يختاروا مَن يخطب بهم ويؤمُّهم، ويكون ذلك الَّذي يختارونه هو الجامع والسَّائق والخطيب والإمام، كلُّ ذلك مختصٌّ بهم، فلا تشمل القضيَّة مَن يوجد بعد ذلك ممَّن تأخَّر عن عصره (علیه السلام)، وهذه الخصوصيَّة من صدور الإجازة إنَّما هي من الباقر والصَّادق (علیهما السلام)، فإنَّ هذه الرِّوايات الأربع عنهما (علیهما السلام)، فلعلَّ عصرهما كان فيه بعض

ص: 279

السُّهولة من الظَّالمين فأحبَّا أنْ ينال بعض شيعتهما ذلك الثَّواب، فأذنا له إذناً خاصَّاً بهم مقيَّداً بعدم الخوف، وهذا كلُّه ناشئ عن كون إقامتها من حقوقهم الخاصَّة، فلهم الإجازة ولهم المنع، ولهم التَّرخيص في التَّرك، كما ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام) من الرُّخصة في تركهما في يوم العيد المصادف يوم الجُمُعة لمن صلَّى العيد مع بسط يده (علیه السلام) الموجب في حدِّ نفسه لتعيُّن الجُمُعة.

ولا يخفى أنَّا لو أغضينا النَّظر عن ذلك، وأغضينا النَّظر عن احتمال كون قوله: (فإذا اجتمع سبعة ولم يخافوا أمَّهم بعضهم وخطبهم) من كلام الصَّدوق - كما احتمله بعضهم مدَّعياً أنَّ هذا دأبه في إدراج فتواه في ذيل الرِّواية(1) - ويؤيِّده التَّعبير بالفاء الدَّالّ على أنَّه ليس من الإمام (علیه السلام)؛ إذ ليس شأنه التَّفريع، مضافاً إلى عدم حسنه هنا؛ لأنَّه عين الجملة الأولى، ويمكن تأييده أيضاً بالتَّقييد بعدم الخوف مع فرض أنَّه لم يكن موجوداً في الجمل السَّابقة، فكأنَّ الصَّدوق قد أخذه من أدلَّة أُخرى كالتَّقيَّة ونحوها.

ومع قطع النَّظر عن هذه التَّأييدات نقول: لا أقلَّ من الاحتمال المحتاج إلى ما يدفعه، ففي المستند بعد أنْ ذكر أنَّ المراد بالبعض هو الإمام الَّذي ذكره بقوله: (أحدهم الإمام)، وأنَّه لو لم يكن ظاهراً في إمام الأصل يكون محتملاً له قطعاً، قال: (مضافاً إلى احتمال كون الذَّيل من كلام الصَّدوق)(2)، انتهى.

قلت: ولا يندفع هذا الاحتمال إلَّا بالقطع بالعدم؛ إذ ليس هو من قبيل احتمال الغلط كي يجري الأصل في عدمه، وأقصى ما في البين هو ظهور كونه من جملة الرِّواية، ولا دليل على حجِّيَّة هذا الظُّهور، فتأمَّل. لم يكن بدٌّ من حمل (الإمام) في صدر الرِّواية

ص: 280


1- لاحظ: مصابيح الظلام في شرح مفاتيح الشرائع: 1/ 383.
2- مستند الشيعة في أحكام الشريعة: 6/ 41.

على إمام الأصل أو نائبه ليكون ذلك هو المراد بقوله: (بعضهم)، وحينئذٍ تخرج الرِّواية عما نحن بصدده.

أمَّا لو منعنا من ذلك، وقلنا بأنَّ المراد من (بعضهم): مطلق البعض، وأنَّ المراد من الإمام مطلق مَن يؤتمّ به، لا خصوص الأصل أو المنصوب، كانت الرِّواية من أدلَّة الوجوب التَّعيينيّ في مورد عدم وجود إمام الأصل أو نائبه الخاصّ، فتكون معارضةً لما أفادته الطَّوائف الأربع من تعيُّن الظُّهر وسقوط الجُمُعة وعدم مشروعيَّتها، والمقدَّم هو تلك الطَّوائف، كما عرفت تفصيل ذلك فيما سبق، فلاحظ.

وقد ظهر لك من جميع ما حرَّرناه أنَّه لو أسقطنا دلالة الأخبار الأربعة على التَّخيير والمشروعيَّة كانت الطَّوائف الأربع حاكمةً بعدم المشروعيَّة من باب الدَّليل الاجتهاديّ، لا من باب أصالة عدم المشروعيَّة، وكذلك الحال لو قدَّمنا الطَّوائف الأربع على الأخبار الأربعة، بل وكذلك الحال لو قلنا بالتَّعارض والتَّساقط مع ما تدلُّ من الأخبار الأربعة على الاستصحاب، فإنَّ المرجع حينئذٍ هو ما دلَّ عليه المتعارضان من عدم تعيُّن الجُمُعة، ويبقى الشَّكُّ المردَّد بين تعيُّن الظُّهر والتَّخيير بينها وبين الجُمُعة، والمحكَّم هو الاحتياط بتعيُّن الظُّهر، لا أصالة عدم مشروعيَّة الجُمُعة.

وأمَّا لو كان دالَّاً على الوجوب مثل قوله (علیه السلام): (أمَّهم بعضهم)، انتهى، فبعد التَّساقط يكون المرجع هو الإطلاقات الأوَّليَّة القائلة بتعيُّن الجُمُعة.

وبالجملة: لا يكون لنا مورد يكون الحكم فيه هو أصالة عدم مشروعيَّة الجُمُعة، فلاحظ وتأمَّل.

مضافاً إلى أنَّه لو وصلت النَّوبة إلى الشَّكِّ في مشروعيَّة العبادة كان الشَّكُّ في مشروعيَّتها كافياً في الحكم ببطلانها من دون حاجة إلى التَّمسُّك بأصالة عدم المشروعيَّة،

ص: 281

بل يكون التَّمسُّك به في المقام من قبيل الإحراز التَّعبُّدي لما هو محرز بالوجدان.

ولم يبق في المقام إلَّا دعوى كون الفقيه في عصر الغيبة منصوباً لها بأدلَّة الولاية، وفيه ما فيه ممَّا حُقِّق في محلِّه من عدم تماميَّة تلك الولاية إلَّا في الفتوى والحكم مطلقاً، أو في خصوص التَّرافع والتَّخاصم، دون مثل إقامة الحدود وإقامة الجُمُعة، وغير ذلك من وظائفهم (علیهم السلام).

ولو قلنا بأنَّه منصوب لها، فليس له أنْ ينصّب غيره لإقامتها، كما يقال في إقامة الحدود وحفظ الثُّغور، كما صدر عن بعض العلماء في نصب بعض السَّلاطين لذلك؛ إذ لو سلَّمنا أنَّه منصوب للجُمُعة، فليس له أنْ ينصِّب لها غيره، كما في القضاء، فإنَّ المجتهد وإنْ كان منصوباً منهم (علیهم السلام) لذلك، لكنَّه ليس [له] (1) أنْ ينصِّب غيره ممَّن لا يكون مجتهداً إلَّا بدعوى تخويل أمر الجُمُعة إليه، فله أنْ يقيمها بنفسه أو ينصِّب من قِبله مَن يقيمها، وهو في غاية البعد، ولكنَّك قد عرفت: أنَّه قد حُقِّق في محلِّه: أنَّ أدلَّة ولاية المجتهد قاصرة عن الشُّمول لإقامة الجُمُعة فضلاً عن تخويل النَّصب إليه.

والحَمد لله رَبِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على خير خلقه محمَّد وآله الطَّاهرين. قد تمَّ ذلك في ليلة الثُّلاثاء 18 من شهر رمضان المبارك 1377.

حرَّره الأقلّ حسين الحلّيّ

ص: 282


1- ما بين المعقوفين إضافة منّا يقتضيها السَّياق.

القول في ولاية الفقيه على إقامة الجُمُعة في عصر الغيبة

القول في ولاية الفقيه على إقامة الجُمُعة في عصر الغيبة(1)لا يخفى أنَّا لو قلنا بأنَّ للفقيه عقد الجُمُعة لم يتوجَّه عليه الإشكال السَّابق الوارد على القول بالتَّعيين أو التَّخيير مع عدم النَّصب من كون صلاة كلٍّ من المأمومين مع الباقين متقدِّمةً في الرُّتبة على نفسها، أمَّا بالنِّسبة إلى الفقيه المفروض كونه هو الإمام في الجُمُعة فلما عرفت من أنَّ وجوب الصَّلاة عليه مشروط بلحوقهم، وعليهم مشروط بفعليَّة صلاته، فلا تكون صلاة كلٍّ منهم سابقةً في الرُّتبة على صلاة الآخر، بل أقصى ما في البين هو كون العنوان المنتزع من لحوقهم به شرطاً في وجوب الصَّلاة عليه، ونفس صلاته شرطٌ في وجوب الصَّلاة عليهم، فكان العنوان المنتزع من لحوقهم سابقاً في الرُّتبة على صلاته، وصلاته سابقةٌ في الرُّتبة على صلاتهم، وبالآخرة يكون العنوان المنتزع من لحوقهم بالإمام سابقاً في الرُّتبة على نفس صلاتهم، وهذا لا ضير فيه؛ إذ ليس من قبيل تقدُّم الشَّيء على نفسه رتبةً.

وأمَّا المأمومون فيما بينهم فلا يتوجَّه الإشكال أيضاً؛ إذ ليسوا مكلَّفين بالاجتماع، وإنَّما الفقيه لكونه منصوباً هو المكلَّف بجمعهم، فلا يكون كلُّ واحدٍ منهم مأموراً إلَّا بحضوره بنفسه وبصلاته مقتدياً مع الإمام، فلو حضر الجُمُعة وكبَّر الإمام ودخل معه ثلاثة وانصرف الرَّابع كان عاصياً؛ لأنَّه مأمور بالاقتداء، ولكنَّ انصرافه موجب لانكشاف الخطأ في صدور الأمر من ذلك الفقيه لكلِّ واحدٍ منهم بالحضور والاقتداء؛ لأنَّ ذلك الأمر منه إنَّما ينفذ منه إذا كان له السُّلطة على إحضار تمام العدد للصَّلاة

ص: 283


1- أرَّخ المصنِّف (قدس سره) هذا المقطع من البحث ب-: (الاثنين 24 رمضان المبارك 1377).

والاقتداء، وليس ذلك من قَبيل انكشاف عدم الوجوب على كلٍّ من الباقين على وجه يكون بقاء ذاك معهم شرطاً في وجوب الصَّلاة على كلِّ واحدٍ منهم ليعود المحذور.

ثُمَّ لا يخفى: أنَّ القول بكون الوجوب تخييريَّاً في قبال عدم المشروعيَّة على وجهين:

الأوَّل: دعوى كون الأصل هو الوجوب التَّخييريّ، وإنَّما يتحقَّق التَّعيين بأمرِ الإمام أو نائبه الخاصّ، وهو الَّذي يظهر من شيخنا (قدس سره) في وسيلته(1).

الثَّاني: دعوى كون الأصل هو التَّعيُّن، ويسقط عند عدم نفوذ الإمام أو نائبه الخاصّ.

وعلى كلا الاحتمالين يكون أمر الفقيه بناءً على شمول ولايته لها موجباً لتعيُّنها في قبال الأصل الَّذي هو التَّخيير على الأوَّل، أو إبقاءً على الأصل في قبال الطَّارئ بناءً على الوجه الثَّاني.

نعم، بناءً على عدم المشروعيَّة في زمان الغيبة يكون ما دلَّ على نصب الفقيه لها - لو تمَّت دلالته - قابلاً للوجهين - أعني: التَّعيين والتَّخيير - نظير ما ذكرناه في الإجازة الخاصَّة لزرارة وعبد الملك، ولعلَّ ما عن المحقِّق الثَّاني (قدس سره) من أنَّ التَّخيير في إقامتها مختصٌّ بالفقيه(2) مبنيٌ على هذا الوجه، أعني: عدم المشروعيَّة عند عدم الإذن، ومع فرض كون الفقيه مأذوناً يكون ذلك على نحو التَّخيير، وحينئذٍ يكون التَّخيير في زمان الغيبة مختصَّاً بإقامة الفقيه لها، لكن ذلك - أعني: كون الرُّخصة تخييريَّة - خلاف الظَّاهر؛ فإنَّ تلك الأدلَّة لو تمَّت دلالتها على سلطة الفقيه لإقامتها توجب جعله منصوباً لها من قبلهم (علیهم السلام)، وذلك قاض بوجوبها عيناً ما لم يدلّ دليل على التَّخيير.

ص: 284


1- وسيلة النجاة: 257، المبحث الأوَّل من المقصد الثَّاني.
2- لاحظ: رسائل المحقّق الكركي (رسالة في صلاة الجمعة): 1/ 159.

ثُمَّ إنَّ البحث عن سلطنة الفقيه في عصر الغيبة على إقامتها إنَّما هو تابع لسعة ولايته وضيقها وما هو المستفاد من أدلَّتها، وهل ذلك مقصور على الحكم وفصل الخصومات، أو يشمل الحكم في الأهلَّة، أو يشمل الحكم فيما يعود إلى مصالح عامَّة المسلمين فيحكم بوجوبه، أو مفاسدهم فيحكم بحرمته؟

ثُمَّ بعد التَّوسعة في ناحية الحكم نقول: هل له السَّلطنة على الأمور الحسبيَّة كالتَّصرُّف في أموال الغُيَّب، ومجهول المالك، وأموال القاصرين، والوقف العامّ أو الوقف المنحلّ التَّولية، وغير ذلك ممَّا يعود إلى الحسبة؟

ثُمَّ بعد التَّوسعة إلى ذلك نقول: هل له السَّلطنة على إقامة الحدود والجُمُعة؟

منع ذلك في السَّرائر أشدّ المنع، فراجعه في آخر كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(1).

ثُمَّ بعد ذلك نقول: هل له السَّلطنة على حفظ النِّظام في البلاد ولو بواسطة القوَّة القاهرة لو تمكَّن منها، كما هو الشَّأن في أفعال السَّلاطين، إلى غير ذلك ممَّا وقع الكلام في سلطنة الفقيه في عصر الغيبة عليه؟

واللَّازم قبل كلِّ شيء هو ذكر الأخبار الَّتي استُدلَّ بها لعموم ولاية الفقيه في عصر الغيبة، وهي أوَّلاً ما عن أمالي الصَّدوق وغيره.

1- أمالي الصَّدوق وغيره: ((إنَّ العلماء ورثة الأنبياء، إنَّ الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورَّثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر))(2).

ص: 285


1- السَّرائر الحاوي لتحرير الفتاوي: 2/ 24.
2- الأمالي: 116، ح99، الكافي: 1/ 34، باب ثواب العالم والمتعلِّم، ح1.

2 - الغوالي عنه (صلی الله علیه و آله): ((الفقهاء أُمناء الرُّسل ما لم يدخلوا في الدنيا))(1).

3 - تحف العقول عن الحسين بن عليٍّ (علیهما السلام): ((مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه))(2).

4 - المرسل في المكاسب: ((علماء أمّتي كأنبياء بني إسرائيل)) (3).

5 - جامع الأخبار عنه (صلی الله علیه و آله) أنَّه (صلی الله علیه و آله) قال: ((أفتخر يوم القيامة بعلماء أمّتي فأقول علماء أمّتي كسائر الأنبياء قبلي))(4).

6 - نهج البلاغة: ((أوْلى النَّاس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به))(5).

7 - في البحار عن الأمالي وغيرها عنه (صلی الله علیه و آله) أنَّه قال: ((اللهم ارحم خلفائي ثلاثاً، قيل: يا رسول الله ومَن خلفاؤك؟ قال (صلی الله علیه و آله): ((الَّذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنَّتي))(6).

ص: 286


1- عوالي اللَّئالي العزيزيَّة: 4/ 77، ح65، الكافي:1/ 46، باب المستأكل بعلمه والمباهي به، ح15.
2- تحف العقول: 238.
3- قال الحرُّ العامليُّ في الفوائد الطُّوسيَّة: (لا يحضرني أنَّ أحداً من محدّثينا رواه في شيء من الكتب المعتمدة. نعم، نقله بعض المتأخِّرين من علمائنا في غير كتب الحديث، وكأنَّه من روايات العامَّة أو موضوعاتهم ليجعلوه وسيلةً إلى الاستغناء بالعلماء عن الأئمَّة (علیهم السلام) - إلى أنْ قال - ويحتمل كونه من روايات الصُّوفيَّة أو موضوعاتهم لإرادة إثبات ما يدَّعونه من الكشف وما يترتَّب عليه من المفاسد). [الفوائد الطُّوسيَّة: 376، فائدة 85]
4- جامع الأخبار: 111.
5- نهج البلاغة: 422، الحكمة92.
6- بحار الأنوار: 86/ 221، الأمالي للشَّيخ الصَّدوق: 247، ح266.

8 - ((إنَّهم حُكَّام على الملوك، والملوك حُكَّام على الناس)) عن كنز الكراجكيّ(1).

9 - ((إنَّهم كفلاء لأيتام آل محمد (صلی الله علیه و آله)))(2)، والمراد من الآل الأئمَّة (علیهم السلام)، والمراد باليُتم: يُتم العلم، لا يُتم الأبوين.

10 - ((إنَّهم حصون الإسلام))(3).

11 - ((إنَّ فضلهم على النَّاس كفضل النَّبيِّ (صلی الله علیه و آله) على أدناهم))(4).

12 - المشهور: ((إنَّ السُّلطان وليُّ مَن لا وليَّ له))(5).

13- عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السُّلطان وإلى القضاة أيحلُّ ذلك؟ قال (علیه السلام): ((من تحاكم إليهم في حقٍّ أو باطلٍ فإنَّما تحاكم إلى الطَّاغوت، وقد أمروا أنْ يكفر به)). قلت: كيف يصنعان؟ قال (علیه السلام): ((ينظران [إلى](6) مَن كان منكم ممَّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإنِّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنَّما استخفَّ بحكم الله، وعلينا ردَّ، والرَّادُّ علينا الرَّادٌّ على الله، وهو على حدِّ الشِّرك بالله))، الحديث(7).

ص: 287


1- كنز الفوائد: 2/ 33.
2- الاحتجاج:1/ 17و18.
3- الكافي: 1/ 38، ح13.
4- مجمع البيان: 9/ 418.
5- مسند أحمد: 1/250، سنن الدَّارمي: 2/ 137، سنن أبي داود: 1/ 463، سنن التَّرمذي: 2/ 281.
6- ما بين المعقوفين من المصدر.
7- الكافي: 1/ 67، ح10، تهذيب الأحكام: 6/ 301، ح845، باختلاف يسير فيهما.

14- التَّوقيع المبارك: عن إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمَّد بن عثمان العمريّ أنْ يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليَّ، فورد التَّوقيع بخطِّ مولانا صاحب العصر والزَّمان (علیه السلام): ((أمَّا ما سألت عنه أرشدك الله وثبَّتك - إلى أنْ قال: - وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنَّهم حجَّتي عليكم وأَنَا حجَّة الله، وأمَّا محمَّد بن عثمان العمري - فرضي الله عنه وعن أبيه من قبل - فإنَّه ثقتي، وكتابه كتابي))(1).

15- وأمَّا رواية أبي خديجة فقد ذكرها في الوسائل في باب الرُّجوع في القضاء والفتوى إلى رواة الحديث من الشِّيعة - وهو الباب الحادي عشر - بهذا السَّند وبهذه الصُّورة: محمَّد بن الحسن، بإسناده عن محمَّد بن عليِّ بن محبوب، عن أحمد بن محمَّد، عن الحسين بن سعيد، عن أبي الجهم، عن أبي خديجة، قال: بعثني أبو عبد الله (علیه السلام) إلى أصحابنا، فقال: قُلْ لهم: ((إيَّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في شيء من الأخذ والعطاء أنْ تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفُسَّاق، اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا، فإنِّي قد جعلته عليكم قاضياً، وإيَّاكم أنْ يخاصم بعضكم بعضاً إلى السُّلطان [الجائر](2)))(3).

وقال في الوسائل في الباب الأوَّل من أبواب القضاء:

16- محمَّد بن عليِّ بن الحسين، بإسناده عن أحمد بن عائذ، عن أبي خديجة سالم بن

ص: 288


1- الاحتجاج: 2/470.
2- ما بين المعقوفين من المصدر.
3- وسائل الشيعة: 27/ 139، ح33421.

مكرم الجمَّال، قال: قال أبو عبد الله جعفر بن محمَّد الصَّادق (علیه السلام): ((إيَّاكم أنْ يُحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجلٍ منكم يعلم شيئاً من قضايانا، فاجعلوه بينكم، فإنِّي قد جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه))(1).

ورواه الكُلينيُّ عن الحسين بن محمَّد، عن معلَّى بن محمَّد، عن الحسن بن عليِّ، عن أبي خديجة مثله، إلَّا أنَّه قال: ((شيئاً من قضائنا))، انتهى ما عن الوسائل(2).

تعرَّض المرحوم الحاجُّ ملا عليّ كنيّ (قدس سره) للإشكال في سند رواية عمر بن حنظلة وسند رواية أبي خديجة في قضائه ص18(3).

ولا يخفى أنَّ ما عدا التَّوقيع المبارك والمقبولة والمشهورة أجنبيٌّ عمَّا نحن بصدده من ولاية الفقيه في عصر الغيبة، بل هي في مقام فضل العلماء، وأنَّهم بمنزلة أنبياء بني إسرائيل في العلم بالله تعالى، أو المنزلة عند الله تعالى، وأنَّهم أُمناء الرُّسل في الأحكام، وأنَّهم ورثة علم الأنبياء، إلى غير ذلك من الصِّفات الجليلة، ولأجل ذلك يكون الأقرب - كما في بعض الرِّوايات - أنْ يكون المراد بذلك خصوص الأئمَّة (علیهم السلام)، وممَّا يشهد بذلك قوله (علیه السلام) في رواية تحف العقول: ((مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه)) بعد فرض عدم إرادة خصوص علماء وقته، ولا خصوص علماء عصر الغيبة؛ لبعد كلٍّ منهما، بل ولا الأعمّ منهما؛ لأنَّ ذلك كالأوَّل موجب لخروجه (علیه السلام)، فلا بدَّ أنْ يكون المراد منه هو شخصه (علیه السلام) وغيره من أئمَّة الهدى (علیهم السلام).

مضافاً إلى قرب كون المراد من (مجاري الأمور) هو الأمور الحسبيَّة الَّتي لا بدَّ فيها

ص: 289


1- وسائل الشيعة: 27/ 13، ح33083.
2- الكافي: 7/ 412، باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور، ح4.
3- تحقيق الدَّلائل في شرح تلخيص المسائل: 18.

من الجريان دون مثل الحدود وإقامة الجُمُعة.

وهكذا الحال فيما عن نهج البلاغة من قوله (علیه السلام): ((أوْلى الناس بالأنبياء أعلمهم بأحكامهم)) فإنَّ الأعلم لا يكون إلَّا واحداً، وهو منحصر في عصره بشخصه (علیه السلام) وبأولاده من بعده.

[إلَّا أنَّه](1) يُشكل الأمر في عصر الغيبة، فلا بدَّ أنْ يكون المراد هو إمام العصر (عجَّل الله فرجه)، غايته أنَّ النَّاس منعوه من التَّصرُّف.

والأوْلى أنْ يقال: إنَّ المراد بالأولويَّة هنا هو الرُّجوع إليه في بيان الأحكام بقرينة قوله (علیه السلام): (أعلمهم بأحكامهم).

وهكذا الحال فيما عن الأمالي، فإنَّ قوله (صلی الله علیه و آله) - في جواب (ومن خلفاؤك)؟ -: ((الَّذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنَّتي))(2) فإنَّهم هم المراد بالخلفاء المذكورين.

ولو سلَّمنا انطباق ذلك على غيرهم فالمراد بكونهم خلفاء له هو أنَّهم يبيِّنون أحكامه (صلی الله علیه و آله).

وهكذا الحال في الدَّالِّ على أنَّهم كفلاء لأيتام آل محمد (صلی الله علیه و آله).

وأمَّا قوله في رواية كنز الكراجكيّ: ((إنَّهم حُكَّام على الملوك، والملوك حُكَّام على النَّاس)) فهي على الخلاف أدلُّ؛ لأنَّ معنى كون العلماء حُكَّاماً على الملوك هو أنَّهم يعرِّفونهم الأحكام، والملوك يتولّون إجراءها على النَّاس.

ومن جميع ذلك يظهر لك الحال فيما هو المشهور من (أنَّ السُّلطان وليُّ من لا وليَّ له)، فإنَّه لو تمَّ سنداً فلا دلالة فيه على أزيد من ولاية السُّلطان على مَن يحتاج إلى

ص: 290


1- ما بين المعقوفين إضافة منّا يقتضيها السِّياق.
2- تقدّم في الصفحة (286).

الولاية، ومن الواضح أنَّ ذلك لا ربط له بفقيه الغيبة، إلَّا بدليلٍ ينزِّله منزلة السُّلطان في ذلك، وعلى تقديره فهو إنَّما يدلُّ على الولاية على مَن لا وليَّ له، فيختصُّ بالأمور الحسبيَّة، ولا يشمل إقامة الحدود والجمع وسد الثُّغور، ونحو ذلك من وظائف السُّلطان. وهذا تمام الكلام فيما عدا المقبولة والمشهورة والتَّوقيع المبارك.

أمَّا الكلام في هذه الثَّلاثة(1):

فالَّذي يظهر ممَّا لخَّصه شيخنا (قدس سره) عن الشَّيخ (قدس سره) أنَّه قد اعتمد في الولاية العامَّة للفقيه في عصر الغيبة على التَّوقيع المبارك(2)، ويتلخَّص ما أفاده في وجه ذلك في أمور أربعة، حرَّرها عنه شيخنا (قدس سره) فيما نقله عنه المرحوم الشَّيخ موسى [الخونساري] في تقريره ص 326 (3).

الأوَّل: إطلاق الحوادث الشَّامل لمطلق الوقائع.

الثَّاني: إرجاع نفس الحوادث، لا حكمها.

الثَّالث: التَّعليل بكونهم حجَّة من قِبله (علیه السلام)، كما أنَّه (علیه السلام) حجَّة من قِبل الله، فيكونون بمنزلته، إلَّا فيما أخرجه الدَّليل الدَّالُّ على أنَّه من مختصَّاته (علیه السلام).

الرَّابع: أنَّ إسحاق السَّائل في التَّوقيع المبارك لا يسأل عن الواضح لديه، وهو الرُّجوع إليهم في الفتوى أو في خصوص القضاء، فإنَّ هناك أمراً آخر فوق ذلك، وهو النِّيابة العامَّة لشخص خاصٍّ، فكان إسحاق يحتمل أنْ يكون (علیه السلام) قد عيَّن له نائباً خاصَّاً

ص: 291


1- أرَّخ المصنِّف (قدس سره) هذا المقطع من البحث ب-: (الأربعاء 26 رمضان المبارك 1377).
2- لاحظ: كمال الدين وتمام النعمة: 483- 484 ب45 ذكر التوقيعات، الغيبة (للشيخ الطوسي): 290- 291 ح247.
3- منية الطَّالب: 1/ 326.

للنِّيابة العامَّة، ولأجل ذلك سأل فأجيب بالرُّجوع إليهم في ذلك، انتهى ملخَّصاً عمَّا لخَّصه شيخنا (قدس سره).

ولكن شيخنا (قدس سره) منع من هذه الاستظهارات؛ فإنَّها مخدوشة قابلة للمنع غير صالحة لأنْ تكون موجبةً للظهور وخروج الوقائع عن الإجمال، وإرجاع نفس الحوادث عبارة عن إرجاعها من ناحية حكمها، وكونهم حجَّةً من قِبله (علیه السلام) وأنَّه (علیه السلام) حجَّة من قِبل الله تعالى لا يقتضي أزيد من كون(1) بيانه قاطعاً للعذر، والسُّؤال عن المرجع في الأحكام ليس ببعيد إذا كان المنظور هو الغيبة الصُّغرى؛ إذ من الممكن أنْ يكون لبعض العلماء في ذلك العصر خصوصيَّة توجب تعيُّنه عنده (علیه السلام) للمرجعيَّة.

ولكن شيخنا (قدس سره) قد اعتمد في الولاية العامَّة على المقبولة القائلة: ((جعلته حاكماً)) فإنَّ الحاكم أوسع من القاضي، وهو الوالي، فيكون للفقيه في عصر الغيبة شؤون الوالي، وذلك هو النِّيابة العامَّة، ولا ينافيه ما في المشهورة من جعله قاضياً؛ لكونهما روايتين، فلا تكون الثَّانية قرينة على التَّصرُّف في الأولى، كما أنَّ خصوصيَّة المورد وهو القضاء لا ينافيه؛ لإمكان الأخذ بعموم الحاكم من جهة أنَّ الحكومة بإطلاقها تشمل كلا الوظيفتين. انتهى، فراجع تحريرات الآملي ص 336 من ج 2(2).

قلت: ولعلَّ ذلك مأخوذ ممَّا أفاده الشَّيخ (قدس سره) في وجه دلالة المقبولة على ذلك، فراجع قوله: (فيدلُّ عليه - مضافاً إلى ما يستفاد من جعله حاكماً كما في المقبولة الظَّاهر في كونه كسائر الحُكَّام المنصوبة في زمان النَّبيِّ (صلی الله علیه و آله).. إلى قوله: وإلى ما تقدَّم من قوله (علیه السلام):

ص: 292


1- في الأصل (كونه) بدل (كون).
2- المكاسب والبيع: 2/ 336.

(مجاري الأمور.. إلى قوله: - التَّوقيع)(1)، إلى آخره.

قلت: لا يخفى أنَّ المستفاد ممَّا أفاده (قدس سره) في تقسيم المنصوبين في الخلافة إلى والٍ وقاضٍ وإمام الجُمُعة أنَّ هذه الوظائف متباينة، ولو ضُمَّت إلى الأخرى يكون صاحب ذلك من قبيل ذي الوظيفتين، وربَّما كان أصيلاً في إحداهما ووكيلاً أو نائباً مؤقَّتاً عن الآخر في الأخرى.

ولو سلَّمنا العموم بحيث كانت وظيفة الحاكم شاملةً للاثنين أو الثَّلاثة فقوله (علیه السلام) في مقام فصل الخصومة: (جعلته حاكماً) لا يفيد إلَّا أنَّه قاضٍ، كما عبَّر به في الرِّواية الأخرى، ولا أقلَّ من الشَّكِّ في الشَّمول، ولا أظنُّ ذلك - أعني: كون الحاكم بمعنى الوالي - إلَّا من قبيل القياس على ما في الدَّولة الإيرانيَّة من تسميتهم الوالي حاكماً، مع أنَّه مختصٌّ بالولاية ولا يشمل القضاء وإقامة الجُمُعة إلَّا بإعطاء سلطة واسعة له تكون شبيهة بالاستقلال الإداريِّ على وجه هو يُنصِّب القاضي ويُنصِّب إمام الجُمُعة، أو هو يقوم بنفسه في جميع هذه الوظائف.

نعم، يمكن أخذ الحاكم بمعناه اللُّغوي الأصلي، أعني: الآمر والمسيطر، فلو أمر المدَّعى عليه بالتَّسليم وجب عليه ذلك، ولو أمر بشيء في ما يتعلَّق بالأمور الحسبيَّة وجب ذلك، كما أنَّه لو أمر بإقامة الجُمُعة وجبت، ولو أمر بإقامة الحدِّ وجب، إلى غير ذلك من الشُّؤون العامَّة والخاصَّة، ولكن لو أمر لوجب، لا أنَّه يجب عليه الأمر.

وحينئذٍ تكون النَّتيجة أنَّه مخيَّر في إقامة الجُمُعة، ومع ذلك لو أقامها لا تجب على الآخرين؛ لأنَّ إقامته لها لمّا كان بنحو التَّخيير كان ذلك - أعني: التَّخيير منه - جارياً في

ص: 293


1- كتاب المكاسب: 3/ 554 - 555.

حقّ الآخرين الَّذين هم غير مَن حضر عنده ممَّن تقام به الجُمُعة عدداً.

ويكون الحاصل: أنَّه يجب إطاعته فيما يأمر به، فيشتمل ذلك الأمر بإقامة الحدود والأمر بإقامة الجُمُعة.

إلَّا أنْ يقال - كما هو غير بعيد - بأنَّهما خارجتان عن ذلك بالدَّليل الدَّالِّ على أنَّهما من مختصَّات الإمام (علیه السلام) أو نائبه الخاصَّ المنصوب من قبله لهما، وبناءً على هذه الطَّريقة يسهل الأمر في قيامه بالأمور الحسبيَّة من دون حاجةٍ إلى دعوى كونها من شؤون القضاء الَّذي لا إشكال في ثبوته له بمقتضى كلٍّ من المقبولة والمشهورة، بل والتَّوقيع المبارك بناءً على شموله لمورد التَّخاصم، ولو منعنا من شمول الحكومة للأمور الحسبيَّة ومن كونها من توابع القضاء فلا أقلَّ من احتمال كونها له على نحو الاختصاص في قبال كونها لكافَّة المسلمين، فيدور الأمر فيها بين التَّعيين والتَّخيير، ولا شبهة حينئذٍ في تعيُّنه؛ للشَّكِّ في نفوذ تصرُّف غيره بعد فرض كون المسألة ممَّا يكون التَّصرُّف فيها لازماً، فلاحظ وتدبَّر.

والخلاصة هي: أنَّ قيامه بفصل الحكومة هو بنفس دلالة المقبولة والمشهورة، وأمَّا قيامه بالأمور الحسبيَّة فبتبع القضاء وفصل الخصومة إنْ قلنا بالتَّبعيَّة وأنَّ الأمور الحسبيَّة من شؤون القضاء، وحينئذٍ يكون له الاحتساب بمقتضى ما في المشهورة: (جعلته قاضياً) فلا يتوقَّف على التَّمسُّك بما تضمَّنته المقبولة من قوله (علیه السلام): (جعلته حاكماً).

ولو منعنا من ذلك بدعوى: أنَّ القاضي غير المحتسب، وأنَّ الاحتساب وظيفة أخرى، التجأنَا إلى ما في المقبولة من جعله حاكماً مسيطراً وناهياً وآمراً، فهل حينئذٍ يقتصر على مجرَّد الأمور الحسبيَّة الَّتي لو لم يَقم بها كان على المسلمين القيام بها؛ إذ لا بُدّ من إجرائها، أو نتوسَّع فيه إلى مثل الحدود والجُمُعة ونحوها ممَّا لو لم يقم بها لم تكن

ص: 294

حاجة إلى إجرائها؟

ولا يبعد الأوَّل، أعني: أنَّ جعله حاكماً مسيطراً إنَّما هو في خصوص الأمور الَّتي لا بدَّ من إجرائها، كفصل الخصومات والتَّصرُّف في أموال مَن لا وليَّ له، أو أموال الغُيَّب، ونحو ذلك ممَّا لا بدَّ من إجرائه، دون ما يكون من وظائف السَّلاطين والأمراء الَّتي قامت الأدلَّة على أنَّها من مختصَّاته (علیه السلام) أو نائبه الخاصِّ المنصوب من قِبله (علیه السلام) لإقامتها، فلا يشملها الدَّليل القائل: (جعلته آمراً عليكم).

ويمكن أنْ يؤيَّد ذلك، بل يُستدلُّ عليه بقوله (علیه السلام) في رواية تحف العقول: (مجاري الأمور والأحكام على يد العلماء، فإنَّهم الأمناء على حلاله وحرامه)، انتهى، بناءً على أنَّ المراد من (العلماء) هم غيرهم (علیهم السلام) عند عدم تصرُّفهم (علیهم السلام)، فيشمل زمان الغيبة، وأنَّ المراد من (الأمور) هو: الأمور الَّتي لا بدَّ من جريانها، كالأمور الحسبيَّة، ويكون محصَّله: أنَّ ما لا بدَّ من إجرائه من التَّصرُّفات يكون مجراه على يد العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه، وكذلك الحكم بين المتخاصمين، وحينئذٍ تكون (الأحكام) عطفاً على (المجاري)، لا على (الأمور)، فيدلُّ حينئذٍ على ولاية المجتهد في الأمور الحسبيَّة كما يدلُّ على نفوذ قضائه، ولو شُكَّ في ذلك بأنْ احتمل سيطرة المجتهد على أزيد من ذلك جرت أصالة عدم السَّيطرة وعدم السَّلطنة عليه، أو عدم النُّفوذ في تصرُّفه، أو عدم المشروعيَّة، ولو شُكَّ في الدَّرجة الثَّانية - وهي الأمور الحسبيَّة - كان الأمر بالعكس، أعني: أصالة العدم فيما لو صدرت من غيره، بخلاف ما لو صدرت منه.

والخلاصة هي: أنَّا لو نظرنا إلى المقبولة المتضمِّنة لقوله (علیه السلام): (فقد جعلته حاكماً) وقسنا ذلك إلى ما تقدَّم من الرِّوايات القائلة: (لا يصلح أو لا يصحُّ الحكم ولا الحدود ولا الجُمُعة إلَّا للإمام أو مَن يقيمه الإمام) لحصل لنا الجزم بأنَّ الحكم المجعول للفقيه

ص: 295

في المقبولة هو الحكم الَّذي نفته تلك الرِّوايات عن غير الإمام ومَن نصبه، ولا شكَّ في أنَّه مقابل للجمعة والحدود، ويبقى الكلام في اختصاصه بفصل الخصومة أو هو الأعم منه بنحو يشمل كلّ حكم صادر منه ولو في غير الخصومة، فيدخل فيه الأمور الحسبيَّة بأنْ يقال: إنَّ الحاكم هو المشرِف والمسيطِر والملزِم، ونحو ذلك من عبائر السُّلطة الَّتي لا تشمل الوظائف المختصَّة بالإمام مثل إقامة الحدود والجُمَع، وحينئذٍ تدخل فيه الأمور الحسبيَّة، لكنَّه لا يختصُّ بما لا بدَّ من إجرائه، بل يشمل ما يكون الإقدام عليه لأجل مصلحة الغائب أو الصَّغير، وحينئذٍ يتوافق ذلك مع قوله (علیه السلام): (مجاري الأمور) بناءً على عدم اختصاصه بما لا بدَّ من إجرائه.

ومن ذلك تعرف: أنَّا لو لم نجزم بأنَّ المراد بالحاكم هو الشَّامل لما ذكر، بل قلنا بأنَّ المراد منه أو القدر المتيقَّن منه هو القاضي، وقلنا بأنَّ ذلك لا يدخل في وظيفة القضاء كان قوله (علیه السلام): (مجاري الأمور) إلى آخره كافياً في رجوع الأمور الحسبيَّة إلى الفقيه، ومع الشَّكِّ يسقط ما هو قابل للتَّأخير، وينحصر الإشكال فيما لا بدَّ من إجرائه، وحينئذٍ يدور الأمر فيه بين تعيُّن الفقيه أو كونه مشاركاً في ذلك لكافَّة العدول، واللَّازم هو الأوَّل، كما عرفت.

ثُمَّ لا يخفى: أنَّه لو تمَّت دلالة المقبولة على الولاية العامَّة لكان مقتضاها هو وجوب ذلك على الفقيه، فيجب عليه القيام بتلك الولاية من إقامة الجُمُعة والحدود، وغير ذلك، لا أنَّ ذلك راجع إليه إنْ شاء نهض بها أو شاء لم ينهض، كما يظهر ممَّا أفاده شيخنا (قدس سره) في أواخر ص 337 إلى ص 338 (1).

ص: 296


1- المكاسب والبيع: 2/ 337 - 338.

اللهم إلَّا أنْ يخرَّج جعل الولاية له على ما تقدَّم ذكره من جعل الأمر له، فله حينئذٍ أنْ يأمر بإقامة الجُمُعة، بمعنى: أنَّه لو أمر لوجب إطاعته، لا أنَّه يجب عليه أنْ يأمر، فلاحظ وتأمَّل.

وعلى كلِّ حال، إنَّ هذا - أعني: ولاية الفقيه في الأمور الحسبيَّة، وما هو مقدارها، وما هو الدَّليل عليها - كلام وقع في البين، وهو موكول إلى محلِّه من مباحث الولاية، وعمدة همِّنا إنَّما هو ما كنَّا فيه من عدم الدَّليل على مشروعيَّة صلاة الجُمُعة في زمان الغيبة، وأنَّ أدلَّة النِّيابة مثل المقبولة والمشهورة وغيرها من التَّوقيع المبارك وغيره لم تكن وافيةً في نصب الفقيه لإقامتها، كما وأنَّ ما دلَّ على عدم مشروعيَّتها مثل قوله (علیه السلام): (لا يصلح الحكم ولا الحدود ولا الجُمُعة إلَّا للإمام أو مَن يقيمه الإمام)، وغير ذلك من الأدلَّة السَّابقة - أعني: تلك الطَّوائف الأربع - باقٍ بحاله لم يحصل ما هو حاكم عليه من أدلَّة نصب الفقيه بالنِّسبة إلى خصوص الجُمُعة وإقامة الحدود ونحوها، فلاحظ وتأمَّل.

والحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِين، والصَّلاة والسَّلام على خَيْر خَلْقِه مُحَمَّد وآله الطَّاهِرِين.

الخميس 27 رمضان المبارك 1377

حرّره الأقلّ حسين الحلّيّ

ص: 297

المصادر

القرآن الكريم

1. الاحتجاج، الشَّيخ أحمد بن علي الطَّبرسيّ (رحمة الله)، ط1، 1403ﻫ، المرتضى، مشهد، إيران.

2. الاستبصار فيما اختُلف من الأخبار، الشَّيخ أبو جعفر محمَّد بن الحسن الطَّوسيّ (رحمة الله)، ط1، دار الكتب الإسلاميّة، 1390ﻫ، طهران، إيران.

3. أصول الفقه، الشيخ حسين الحلّيّ (رحمة الله)، ط1، 1431ﻫ، نشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة، المطبعة: ستارة - قم.

4. الأمالي: الشّيخ أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّيّ (الصدوق) (رحمة الله)، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميّة - مؤسّسة البعثة - قم، ط1، 1417ﻫ، الناشر: مركز الطباعة والنشر في مؤسسة البعثة.

5. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمَّة الأطهار، الشّيخ محمَّد باقر بن محمَّد تقيِّ المجلسيّ، ط1، 1410ﻫ، مؤسّسة الطَّبع والنَّشر، بيروت، لبنان.

6. تحف العقول، ابن شعبة الحرانيّ (رحمة الله)، تصحيح وتعليق الشّيخ علي أكبر الغفاري، ط2، 1404ﻫ، مؤسسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين، قم، إيران.

7. تحقيق الدَّلائل في شرح تلخيص المسائل (كتاب القضاء والشهادات)، الشَّيخ عليّ الكنيّ (رحمة الله)، طبعة حجرية.

ص: 298

8. تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف للزمخشري، الزيلعي، أبو محمَّد عبد الله بن يوسف بن محمَّد، تحقيق سلطان بن فهد الطَّبيشي، ط1، 1424ﻫ، وزارة الأوقاف السعودية.

9. تفسير مجمع البيان، الشَّيخ الطَّبرسي (رحمة الله)، 1415ﻫ، تحقيق وتعليق لجنة من العلماء، ط1، 1415، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان.

10. تهذيب الأحكام، الشَّيخ أبو جعفر محمَّد بن الحسن الطَّوسي (رحمة الله)، ط4، دار الكتب الإسلاميّة، 1407ﻫ، طهران، إيران.

11. جامع الأخبار، الشَّيخ محمَّد بن محمَّد السَّبزواري (رحمة الله)، تحقيق علاء جعفر، ط1، 1411ﻫ، مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام)، قمّ، إيران.

12. جامع المقاصد، الشيخ علي بن الحسين الكركيّ (رحمة الله)، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، ط1، 1408، المطبعة: المهديّة، قم المشرّفة.

13. الجعفريَّات - الأشعثيَّات، محمَّد بن محمَّد الأشعث الكوفي (رحمة الله)، مكتبة نينوى الحديثة، طهران، إيران، مطبوع كملحق لكتاب قرب الإسناد.

14. جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، الشَّيخ محمَّد حسن النَّجفيّ (رحمة الله)، دار إحياء التُّراث العربيّ، ط7، بلا تاريخ، بيروت، لبنان.

15. الحاشية على مدارك الأحكام، الشّيخ محمّد باقر الوحيد البهبهاني (رحمة الله)، تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، ط1، 1419ﻫ، المطبعة: ستاره - قم.

16. الدِّراية في تخريج أحاديث الهداية، ابن حجر العسقلاني، أحمد بن عليُّ، صحَّحه: عبد الله هاشم اليمانيّ، ط1، دار المعرفة، بيروت، لبنان.

ص: 299

17. دعائم الإسلام، أبو حنيفة نعمان بن محمَّد المغربيّ، ط2، مؤسسة آل البيت (علیهم السلام)، قمّ، إيران، 1385ﻫ.

18. ذخيرة المعاد، العلّامة ملا محمّد باقر السبزواريّ، الناشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث.

19. رحمة الأمة في اختلاف الأئمَّة، محمَّد بن عبد الرَّحمن الدِّمشقيّ العثمانيّ الشَّافعيّ، تحقيق: إبراهيم أمين محمَّد، المكتبة التَّوفيقيَّة، القاهرة، بلا طبعة، بلا تاريخ.

20. رسائل الكركي، الشّيخ عليّ بن الحسين الكركيّ (رحمة الله)، تحقيق: الشيخ محمّد الحسّون، ط1، 1409ﻫ، المطبعة الخيام - قم، الناشر: مكتبة السيّد المرعشي النجفي - قم.

21. السَّرائر الحاوي لتَّحرير الفتاوي، الشّيخ محمَّد بن منصور ابن إدريس الحِلِّيّ (رحمة الله)، ط2، 1410ﻫ، جماعة المدرسين، قمّ، إيران.

22. سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني، تحقيق محمّد اللّحام، ط1، 1410ﻫ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.

23. سنن التَّرمذي، أبو عيسى محمّد بن عيسى بن سورة الترمذي، حقّقه عبد الوهاب عبد اللطيف، ط2، 1403ﻫ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان.

24. سنن الدَّارمي، أبو محمّد عبد الله بن الرحمن بن الفضل بن بهرام، الاعتدال، دمشق.

25. الصَّحيفة السَّجادية، ط1، 1418ﻫ، الهادي، قمّ، إيران.

26. العروة الوثقى (المحشّى)، السَّيَّد محمَّد كاظم اليزديّ (رحمة الله)، جماعة المدرِّسين، قم، إيران، ط1، 1419ﻫ.

ص: 300

27. علل الشرائع، الشيخ محمَّد بن عليِّ بن بابويه الصَّدوق (رحمة الله)، مكتبة الدَّاوريّ، قمّ، إيران.

28. عوالي اللَّئالي العزيزيَّة، الشيَّخ ابن أبي جمهور محمَّد بن عليِّ الأحسائيّ (رحمة الله)، ط1، دار سيد الشُّهداء، 1405ﻫ، قمّ، إيران.

29. عيون أخبار الرِّضا، الشَّيخ محمَّد بن عليِّ بن بابويه الصَّدوق (رحمة الله)، ط1، 1378ش، مكتبة الشَّريف الرَّضي (علیهم السلام) قمّ، إيران.

30. الفوائد الطَّوسيَّة، الشَّيخ محمَّد بن الحسن الحرُّ العامليّ (رحمة الله)، ط1، 1403ﻫ، المطبعة العلميّة، قمّ، إيران.

31. قرب الإسناد، عبد الله بن جعفر الحميري (رحمة الله)، ط1، مؤسسة آل البيت (علیهم السلام)، 1413ﻫ، قمّ، إيران.

32. الكافي، أبو جعفر محمَّد بن يعقوب الكُلينيّ (رحمة الله)، ط4، دار الكتب الإسلاميَّة، 1407ﻫ، طهران، إيران.

33. كتاب الصلاة (تقرير بحث النائيني(رحمة الله)): الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني، تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي، ط1، 1411ﻫ، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة.

34. كتاب الصَّلاة، عبد الكريم الحائريّ اليزديّ (رحمة الله)، ط1، دفتر تبليغات إسلاميّ، قمّ، إيران، 1404 ﻫ.

35. كشف اللِّثام والإبهام عن قواعد الإحكام، الفاضل الهنديّ محمَّد بن الحسن (رحمة الله)، ط1، نشر جماعة المدرِّسين، 1416ﻫ، قمّ، إيران.

ص: 301

36. كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (الصدوق) (رحمة الله)، تصحيح وتعليق: الشّيخ علي أكبر الغفاري، 1405ﻫ، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة.

37. كنز الفوائد، الشَّيخ محمّد بن عليِّ الكراجكيّ (رحمة الله)، 1405ﻫ، دار الأضواء، بيروت، لبنان.

38. مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، الميرزا حسين النُّوري (رحمة الله)، ط1، مؤسسة آل البيت (علیهم السلام)، 1408ﻫ، بيروت، لبنان.

39. مستمسك العروة الوثقى، السَّيَّد محسن الطَّباطبائيّ الحكيم (رحمة الله)، ط1، مؤسسة دار التَّفسير، 1416ﻫ، قمّ، إيران.

40. مستند الشِّيعة في أحكام الشَّريعة، الشيَّخ أحمد بن محمَّد النراقي (رحمة الله)، ط1، 1415ﻫ، مؤسسة آل البيت لإحياء التُّراث (علیهم السلام)، قمّ، إيران.

41. مسند أحمد، دار صادر، بيروت.

42. مصابيح الظلام في شرح مفاتيح الشرائع، الشيخ محمّد باقر (الوحيد البهبهاني (رحمة الله))، تحقيق ونشر: مؤسّسة العلّامة المجدّد الوحيد البهبهانيّ, ط1، 1424ﻫ.

43. مصباح الفقيه، الشَّيخ آغا رضا الهمدانيّ (رحمة الله)، ط1، تحقيق: المؤسّسة الجعفريَّة لإحياء التُّراث، فجر قرآن، قم، إيران، 1427ﻫ.

44. مصباح المتهجد، الشَّيخ أبو جعفر محمَّد بن الحسن الطَّوسي (رحمة الله)، ط1، 1411ﻫ، مؤسّسة فقه الشِّيعة، بيروت، لبنان.

45. المكاسب والبيع، الشَّيخ تقي الآملي (رحمة الله)، ط1، 1413ﻫ، جماعة المدرِّسين، قمّ.

ص: 302

46. كتاب المكاسب، الشَّيخ مرتضى الأنصاريّ (رحمة الله)، ط1، 1415ﻫ، مؤتمر الشَّيخ الأنصاريّ، قمّ، إيران.

47. من لا يحضره الفقيه، الشَّيخ َ بن عليِّ بن بابويه الصَّدوق (رحمة الله)، ط2، جماعة المدرسين، قم، إيران، 1413ﻫ.

48. مناهج الأحكام في مسائل الحلال والحرام، الشَّيخ أبو القاسم القمِّيّ (رحمة الله)، ط1، جماعة المدرِّسين، 1420ﻫ، قمّ، إيران.

49. منية الطَّالب في حاشية المكاسب، الشَّيخ موسى بن محمَّد الخونساري (رحمة الله)، ط1، 1373ﻫ، المكتبة الحيدريَّة، طهران، إيران.

50. النَّفحة القدسيَّة في أحكام الصلاة اليوميَّة، الشَّيخ حسين آل عصفور (رحمة الله)، دار السَّداد لإحياء التُّراث.

51. نهج البلاغة، ط1، 1414ﻫ، مؤسّسة نهج البلاغة، قمّ، إيران.

52. الوافي، الشيَّخ محمَّد محسن الفيض الكاشانيّ (رحمة الله)، مكتبة أمير المؤمنين (علیه السلام)، ط1، 1406ﻫ، أصفهان، إيران.

53. وسائل الشِّيعة إلى تحصيل مسائل الشَّريعة، الشيَّخ محمَّد بن حسن الحرّ العامليّ (رحمة الله)، ط1، 1409ﻫ، مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام)، قم، إيران.

54. وسيلة النَّجاة، الشَّيخ محمَّد حسين النَّائينيّ (رحمة الله)، ط1، 1439ﻫ، دار التَّفسير، قمّ، إيران.

ص: 303

ص: 304

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.